الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( ولو ببحر )

                                                                                                                            ش : يعني أن من سافر في البحر ، فإنه يحرم إذا حاذى الميقات ، ولا يؤخر إلى البر وهكذا قال في مناسكه ونصه : ومن سافر في البحر أحرم أيضا في البحر إذا حاذاه على ظاهر المذهب خلافا لسند في قوله : إنه يؤخر للبر خوفا من أن ترده الريح فيبقى محرما ، وهو ظاهر من جهة المعنى ، ونقل ابن الحاج عن ابن نافع مثل قول سند فقال : وقال ابن نافع لا يحرم في السفن ورواه عن مالك انتهى .

                                                                                                                            ويشير بقوله : على ظاهر المذهب إلى قول مالك في الموازية : قال في النوادر : قال محمد قال مالك : ومن حج في البحر من أهل مصر وشبههم إذا حاذى الجحفة انتهى .

                                                                                                                            ونقله جماعة ، وأبقوه على ظاهره ، وهو ظاهر كلام المؤلف هنا ، وأجمل - رحمه الله - فيما حكاه عن سند ، وذلك ; لأن سندا يقول : من أتى بحر عيذاب حيث لا يحاذي البر فلا يجب عليه الإحرام في البحر إلى أن يصل إلى البر إلا أن يخرج على بر أبعد من ميقات أهل الشام وأهل اليمن ، ولا يلزمه بتأخير الإحرام إلى البر هدي ، أما إن أتى على بحر القلزم حيث يحاذي البر فالإحرام عليه في البحر واجب لكن يرخص له التأخير إلى البر ، ويلزمه الهدي ، والفرق بينهما : أن الأول في إحرامه في البحر على محاذاة الجحفة خطر خوفا من أن ترده الريح فيبقى محرما حتى يتيسر له إقلاع سالم قال : وهذا من أعظم الحرج المنفي من الدين ، وإذا ثبت الجواز ترتب عليه نفي الدم حتى يدل دليل على وجوبه ، ولا دليل ، أما الثاني ، فإنه قادر على الإحرام من البر من نفس الجحفة والسير فيه لكن عليه ضرر في النزول إلى البر ومفارقة رحله فيجوز له التأخير للصرورة مع إلزامه الهدي كما يجوز استباحة ممنوعات الإحرام للصرورة مع وجوب الفدية ، والله أعلم .

                                                                                                                            انتهى .

                                                                                                                            مختصرا بالمعنى فقد ظهر الإجمال الذي في كلام المصنف الذي حكاه عن سند وأن قول سند ليس كرواية ابن نافع من كل وجه ، وقد ذكر المصنف في التوضيح كلام سند كما ذكرناه ، ولم يتعقبه بأنه خلاف ظاهر المذهب كما قال في مناسكه : وكذلك القرافي في ذخيرته وابن عرفة والتادلي وابن فرحون في شرح ابن الحاجب ، وفي مناسكه ، ولم يتعقبوه بأنه خلاف بل ظاهر كلامهم أنهم قبلوا تقييده كلام مالك بما ذكر ، وهذا هو : الظاهر فيتعين تقييد كلام المصنف به ، وقد شاهدت الوالد يفتي بما قاله سند غير مرة ، والله أعلم .

                                                                                                                            ( تنبيهان الأول : ) قال سند : ولا يرحل من جدة إلا محرما ; لأن جواز التأخير إنما كان للصرورة ، وقد زالت [ ص: 36 ] وهل يحرم إذا وصل البر أو إذا ظعن من جدة يحتمل والظاهر : إذا ظعن ; لأن سنة من أحرم وقصد البيت أن يتصل إهلاله بالمسير ( الثاني : ) هذا التفصيل الذي ذكره سند في جهة الشام في بحر عيذاب وبحر القلزم يقال : مثله في جهة اليمن والهند ، وهذا ظاهر ، والله أعلم .

                                                                                                                            ص ( إلا كمصري بما يمر بالحليفة فهي أولى )

                                                                                                                            ش : أشار بالكاف للمغاربة والشاميين ومن وراءهم ويمكن أن يقال : أشار بها لذلك ولما ذكره سند من أنه يلحق بهم في جواز تأخير الإحرام عن الميقات الذي يمر به ، وهو من كان منزله بين مكة والمواقيت إذا سافر لما وراء الميقات ، ونصه : من كان منزله دون الميقات وسافر لما وراء الميقات ثم أتى مريدا لدخول مكة فهذا له أن يحرم من الميقات ، وله أن يؤخر إلى منزله كما يؤخر المصري إحرامه من الحليفة إلى الجحفة فينظر هاهنا إن كان يريد الحج أخر إحرامه إلى منزله إن شاء إذا كان منزله بغير مكة ، ولا يؤخره إذا كان مسكنه مكة إذ لا يدخل المكي مكة إلا محرما فلما وجب عليه الإحرام قبل منزله وجب عليه الإحرام من الميقات الذي مر به ، وهو كمن لا ميقات لإحرامه بعده ، وإن كان هذا الداخل معتمرا نظرت ، فإن كان منزله في الحل جاز له التأخير له ، وإن كان في الحرم لم يجز كالمكي انتهى .

                                                                                                                            ونقله في الذخيرة على أنه المذهب ، وهو ظاهر ، ولم أقف على ما يخالفه إلا ما ذكره القرطبي في شرح مسلم ، فإنه قال ما نصه : ولو مر من منزله بعد المواقيت بميقات من المواقيت المعينة العامة ، وهو يريد الإحرام وجب عليه أن يحرم منه ، ولا يؤخر الإحرام إلى بيته لقوله : صلى الله عليه وسلم { هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن } ويخالف هذا من كان ميقاته الجحفة ومر بذي الحليفة ، فإن له أن يؤخر الإحرام إلى الجحفة ; لأن الجحفة ميقات منصوب نصبا عاما لا يتبدل بخلاف المنزل ، فإنه إضافي يتبدل بالساكن فانفصلا انتهى .

                                                                                                                            ( قلت : ) وما قاله سند : أظهر ، والله أعلم .

                                                                                                                            ولا شك أن إحرامه من الميقات أفضل كما يؤخذ ذلك من قياسه على المصري إذا مر بذي الحليفة ، وإن كان ليس في كلامه التصريح بأن إحرامه من الميقات أولى ولكنه ظاهر من جهة المعنى ، وللخروج من الخلاف وانظر على ما قال القرطبي إذا سافر من منزله دون الميقات إلى منزل أبعد منه ولكنه دون الميقات أيضا ثم أراد دخول مكة أو أراد الإحرام فهل يلزمه أن يحرم من المنزل الأبعد أو له أن يؤخر إلى منزله ; لأن المنزل الذي هو به ليس بميقات عام ، وهذا هو الذي يدل عليه تعليله ، والله أعلم .

                                                                                                                            وأما على ما قاله سند وصاحب الذخيرة فيجوز له التأخير إلى منزله ، ولا إشكال في ذلك والظاهر : أنه يستحب له الإحرام من المنزل الأبعد ، والله أعلم .

                                                                                                                            ( قلت : ) ومقتضى كلام صاحب الطراز أن من كان منزله في الحرم وأراد الإحرام بالحج جاز له أن يؤخر ذلك إلى منزله وأن يدخل الحرم بغير إحرام ومقتضى ذلك أيضا أنه لا يجب على من أراد دخول الحرم ، ولم يرد دخول مكة الإحرام كما لو كان مسكنه بالحرم وأراد دخوله ، ولم يرد دخول مكة أو أراد دخول الحرم لحاجة دون مكة وبذلك صرح ابن جماعة الشافعي في منسكه الكبير فقال ، وقال غير المالكية : إن حكم دخول الحرم حكم دخول مكة فيما ذكرنا لاشتراكهما في الحرمة ، ولم يلحق المالكية الحرم بمكة في ذلك انتهى .

                                                                                                                            وقول المصنف الآتي : والمار به إن لم يرد مكة أو كعبد فلا إحرام عليه ، ولا دم كالصريح في ذلك ، ولم أر في كلام أهل المذهب ما يخالف ذلك إلا ما وقع في المدونة فيمن دخل مكة بغير إحرام ، وإن لم يكن مريد النسك قال فيها : لا دم عليه ، وقد أساء حين دخل الحرم حلالا ، ويمكن أن يكون مراده بالحرم مكة ; لأن فرض المسألة فيمن دخل مكة بغير إحرام فتأمله ، والله أعلم .

                                                                                                                            ، وهذا فيمن دخل الحرم إلى منزله ، ولم يحتج إلى دخول مكة أما لو لم يمكنه المرور إلى منزله إلا بالمرور على مكة فلا إشكال في [ ص: 37 ] أنه يجب عليه الإحرام ، والله أعلم .

                                                                                                                            ( تنبيهان الأول : ) ما ذكره المصنف من أن المصري ، ومن ذكر معه إذا مروا بالحليفة فالأولى لهم أن يحرموا منها ، ويجوز لهم التأخير للجحفة إنما ذلك إذا كان المصري ، ومن ذكر معه يمرون بالجحفة أو يحاذونها ، أما إن أرادوا ترك المرور بالجحفة فلا رخصة لهم في ترك الإحرام من ذي الحليفة قال ابن حبيب في الواضحة إن أراد المصري ، ومن ذكر معه ترك الممر بالجحفة فلا رخصة لهم حينئذ في ترك الإحرام من ذي الحليفة انتهى .

                                                                                                                            وقال اللخمي لما ذكر أن لأهل الشام ومصر وأهل المغرب إذا مروا على ذي الحليفة أن يؤخروا إلى الجحفة ما نصه : وإن لم يمروا بالجحفة فلهم أن يؤخروا ليحرموا إذا حاذوها ، وكذلك كل من لا يمر بميقاته فمهله إذا حاذاه في بر أو بحر ، وقالابن حبيب : إذا لم يكن مرور أهل الشام وأهل المغرب بالجحفة فلا رخصة لهم في ترك الإحرام من ذي الحليفة يريد إذا لم يكن مرورهم على موضع يحاذي ميقاتهم انتهى .

                                                                                                                            ونقله المصنف في التوضيح وابن عرفة والتادلي وابن فرحون ، وظاهر كلامهم : أن كلام اللخمي تقييد لما قاله ابن حبيب لا خلاف ، وهو ظاهر إذ لو ترك على ظاهره لكان مشكلا ، ولذلك استشكله الشيخ أبو محمد ، وقال : انظر لم ذلك ، وهم يحاذون الجحفة نقله عنه ابن عبد السلام والمصنف في التوضيح وابن فرحون وغيرهم ، ولم يذكر سند وابن عبد السلام تقييد اللخمي وكلام سند في غير موضع من الطراز يقتضي اعتباره ، والله أعلم .

                                                                                                                            ( الثاني : ) فهم من قول المصنف إلا كمصري إلخ أن غير المصري ، ومن ذكر معه كالعراقي ونحوه إذا مروا بذي الحليفة أنه يتعين عليهم الإحرام منها وصرح بذلك في مناسكه قال : ولو مر العراقي ونحوه من ذي الحليفة تعين عليهم الإحرام إذ لا يتعداه إلى ميقات له فقوله : إنه يتعين عليهم الإحرام يقتضي أن ذلك واجب عليهم وأنهم إن أخروا الإحرام عن ذي الحليفة لزمهم الدم ، وهذا ظاهر المدونة وصرح بذلك الشيخ أبو محمد في مختصر المدونة ، فقال : ومن مر من أهل اليمن أو نجد أو العراق بذي الحليفة صارت ميقاتا له لا يتعداها ، فإن تعداها إلى الجحفة فعليه دم إذ لا يتعداها إلى ميقات له ، وكذلك سائر أهل البلدان خلا أهل الشام ومصر والمغرب فذلك لهم إذ الجحفة ميقاتهم ، والفضل لهم في إحرامهم من ذي الحليفة انتهى .

                                                                                                                            وقال في الرسالة بعد أن ذكر أهل العراق واليمن ونجد : ومن مر من هؤلاء بالمدينة فواجب عليه أن يحرم من ميقات أهلها من ذي الحليفة إذ لا يتعداه إلى ميقات له انتهى .

                                                                                                                            وقال أبو إسحاق : وكل من مر بميقات ليس له فعليه أن يحرم منه إذا لم يكن ميقاته بين يدي هذا الذي مر ; لأنه قد صار هذا الذي مر به ميقاتا له لما لم يكن بين يديه ميقات له ، ومن تعداه كان عليه الدم انتهى .

                                                                                                                            ونحوه في كلام صاحب التلقين وغير واحد من أهل المذهب ، وقال في الطراز بعد أن ذكر لفظ المدونة : هذا يقتضي أن ذلك يجب عليهم حتى إنهم إن أخروا عن ذي الحليفة أهدوا ، وقال في المختصر : وأحب لأهل المشرق إن مروا بذي الحليفة أن يحرموا منها ، وهذا يقتضي أن ذلك على الاستحباب ثم وجه كلا من القولين ثم قال والأول : أبين انتهى .

                                                                                                                            وقال في النوادر بعد أن ذكر كلام مالك في المختصر ، وقال في المدونة : ليس لمن مر بها من أهل العراق أن يجاوزها ; لأنه لا يتعداه إلى ميقات له انتهى .

                                                                                                                            فنبه على أنه خلاف مذهب المدونة ويوجد في بعض نسخ ابن عبد السلام بعد أن ذكر كلام المختصر ، وهو خلاف المدونة ، ولم يذكر المصنف في التوضيح ، ولا ابن عرفة القول الثاني فتأمله ، والله أعلم .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية