الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( وحلف وإلا لزم إن قال : أبيعكها بكذا أو أنا أشتريها به )

                                                                                                                            ش : لما ذكر الصورتين اللتين ينعقد فيهما البيع ويلزم ، ولو قال أحد المتبايعين : ما أردت البيع أو ما أردت الشراء ذكر ما ينعقد فيه البيع ويلزم إلا أن يقول أحدهما : ما أردت البيع أو ما أردت الشراء ; فإنه يحلف على ذلك ويقبل قوله ، وذلك حيث يكون اللفظ الدال على الرضا من جهته محتملا للدلالة على الرضا وليس بصريح ، وذكر من ذلك ثلاث مسائل وهاتين المسألتين مع مسألة السوم الآتية . أما هاتان المسألتان فالأولى منهما إذا قال البائع : أبيعك سلعتي بكذا أو أعطيكها بكذا فأجابه المشتري بما يدل على الرضا فقال : البائع لم أرد البيع وإنما أردت اختبار ثمنها أو كنت مازحا أو نحو ذلك فإنه يحلف أنه ما أراد بقوله أبيعكها إيجاب البيع ، وإنما أراد به ما ذكر فإن حلف لم يلزمه البيع ، وإن لم يحلف لزمه ، وقولنا فأجابه المشتري بما يدل على الرضا يفهم من المسألتين السابقتين ، وقولنا : فقال البائع : لم أرد البيع يفهم من قوله : حلف وإلا لزم فإنه يدل على أنه وقع منه إنكار ، وكذلك يقال في المسألة الثانية وهي ما إذا قال المشتري [ ص: 232 ] لصاحب السلعة : أنا أشتري منك هذه السلعة بكذا أو أبتاعها أو آخذها فأجابه البائع بما يدل على الرضا فقال المشتري ما أردت الشراء وإنما أردت اختبار ثمنها أو نحو ذلك ; فإنه يحلف على ما ادعاه فإن حلف لم يلزمه الشراء ، وإن لم يحلف لزمه فالحكم فيها كالأولى ففاعل حلف .

                                                                                                                            وقال ضمير يعود على أحد المتبايعين وبقية الكلام بعينه ; لأنه يفهم منه أن البائع إن قال : أبيعكها ، والمشتري إن قال : اشتريتها ، وفاعل لزم يعود إلى البيع ، وقد تقدم أن هاتين المسألتين ذكرهما ابن أبي زمنين مع المسألتين اللتين فوقهما ، وعنه نقلهما ابن يونس وأبو الحسن وابن عبد السلام وابن عرفة والمؤلف وغيرهم وقبلوه ، ونص كلامه في منتخب الأحكام بعد أن ذكر مسألة السوم الآتية في كلام المصنف رأيت فيما أملاه بعض مشايخنا إذا قال البائع : بعتكها بكذا أو قد أعطيتكها بكذا أو قد أخذتها فرضي المشتري ثم أبى البائع وقال : ما أردت البيع لم ينفعه ولزمه ، وكذلك إن قال المشتري : قد ابتعت منك سلعتك بكذا أو قد أخذتها منك بكذا فرضي البائع لم يكن للمشتري أن يرجع ، ولو قال البائع أنا : إما أبيعكها أو أعطيكها بكذا فرضي المشتري فقال البائع : ما أردت البيع فذلك له ويحلف ، وكذلك لو قال المشتري : أنا أشتريها أو آخذها منك بكذا فرضي المشتري فقال البائع : لم أرد البيع فذلك له ويحلف فافهم افتراق هذه الوجوه ا هـ . وله نحو ذلك في مقربه وزاد بعده وهي كلها مذهب ابن القاسم وطريقة فتياه ، قال ابن يونس بعد أن ذكر كلامه في المقرب : لأن قوله : أنا أفعل وعد وعده إياه في المستقبل ، وقوله : قد فعلت إيجاب أوجبه على نفسه فافترقا ، انتهى . وقال في التوضيح بعد أن ذكر كلامه في المقرب : وحاصله التفرقة بين أن تكون الصيغة بلفظ الماضي فتلزم أو بلفظ المضارع فيحلف ونحوه لابن عبد السلام فقال : حاصل كلامه أنه إن أتى بصيغة الماضي لم يقبل منه رجوع ، وإن أتى بصيغة المضارع فكلامه محتمل على ما أراده ثم قال : وقال بعض المتأخرين من الشافعية بعد أن ذكر هذا الكلام المعتبر في صيغ عقود البيع وغيره : إنما هو ألفاظ الإنشاء وجرى العرف فيها باستعمال صيغة الماضي ولم يجر بالمضارع ولا غيره ، ولو جرى الأمر فيها بالعكس لانعكس الأمر ، هذا معنى كلامه هو صحيح ا هـ . وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى : { وأحل الله البيع } البيع قول وإيجاب باللفظ الماضي والمستقبل فالماضي فيه حقيقة والمستقبل كناية ويقع بالصريح وبالكناية المفهوم منها نقل الملك ا هـ . وسيأتي إن شاء الله أن الخلاف الآتي في مسألة السوم يدخل في هاتين المسألتين أيضا فتأمله والله أعلم .

                                                                                                                            ( تنبيهان الأول ) حكى ابن رشد في أول رسم من سماع أشهب من كتاب العيوب الأقوال الثلاثة الآتية في مسألة السوم ، والمسألة الثانية في كلام المصنف أعني قول المشتري : أنا أشتريها بكذا ، ونقله عنه ابن عرفة وقبله وسيأتي كلامه في القولة التي بعد هذه ، ولا شك أن الخلاف الذي يدخل فيها يدخل في المسألة الأولى إذ لا فرق بينهما فيكون الخلاف في هاتين المسألتين وفي مسألة السوم على حد سواء والله أعلم .

                                                                                                                            ( الثاني ) قال في العتبية في المسألة السادسة من نوازل سحنون ومن جامع البيوع : قال سحنون عن ابن نافع عن مالك في الرجل يسوم بالدابة فيقول له رجل : تبيعني بكذا وكذا فيقول : لا أفعل إلا بكذا فيقول له المشتري : أنقصني دينارا فيقول : لا أنقص فيقول له المشتري : قد أخذتها بما قلت : أنه يلزم ذلك البيع البائع وليس له أن يرجع ابن رشد هذه مسألة صحيحة لا اختلاف فيها إذ تبين بتردد المماكسة أنه مجد في السوم غير لاعب ا هـ . ونقلها ابن عرفة بعد أن ذكر كلام ابن أبي زمنين وابن يونس ونصه : قلت في نوازل سحنون عن رواية ابن نافع : [ ص: 233 ] من قال لرجل : تبيعني دابتك بكذا فيقول : لا إلا بكذا فيقول : أنقصني دينارا فيقول : لا فيقول أخذتها بذلك لزم البائع البيع ابن رشد اتفاقا لدلالة تردد المماكسة على أنه غير لاعب .

                                                                                                                            ( قلت : ) مقتضى تبيعني جوابه بايعتك فإلزامه البيع يعارضه نقل ابن أبي زمنين أو يقيده بغير المماكسة ا هـ .

                                                                                                                            ( قلت : ) تأمل قوله : مقتضى قوله تبيعني أن يكون جوابه أبيعك ; فإن الظاهر أنه لا يقتضي ذلك ; لأنه لا يلزم إذا كان السؤال بلفظ المضارع أو الماضي أن يكون الجواب كذلك ، ولو فرض أن الجواب وقع بلفظ المضارع فلا شك أن تردد المماكسة فيها ينفي احتمال عدم إرادة البيع كما قال ابن رشد ، فلذلك لزم فيها البيع ، فيقيد كلام ابن أبي زمنين بأن لا يقترن بالكلام ما ينفي احتمال عدم إرادة البيع ، ولولا تردد المماكسة في المسألة المذكورة لكانت كمسألة السوم الآتية أو أحرى كما تقدم التنبيه على ذلك ، والمماكسة هي الكلام في مناقصة الثمن مأخوذة من المكس ، وهو ما ينقصه الظالم ويأخذه من مال الناس ، قاله القرطبي وغيره والله أعلم .

                                                                                                                            ص ( أو تسوق بها فقال : بكم ؟ فقال : بمائة فقال : أخذتها )

                                                                                                                            ش : هذه مسألة السوم المتقدمة عن المدونة وهي المسألة الثالثة من المسائل التي ينعقد فيها البيع ويلزم إلا أن يحلف المنكر لإرادة البيع وهو البائع في هذه المسألة ، وقوله : تسوق بها أي أوقفها في السوق للسوم ، وفاعل تسوق ضمير يعود للبائع والضمير في بها يعود للسلعة ، وفاعل قال الأول والثالث يعود على المشتري ، وفاعل قال الثاني يعود على البائع ، ولا بد من تقدير جملة بعد قوله : أخذتها وهي فقال صاحبها : ما أردت البيع ، ويدل على ذلك قوله : وحلف كما تقدم وجميع ذلك تدل عليه القرينة ويفرقه ذهن السامع ، ومعنى المسألة أن من أوقف سلعته في السوق للسوم فقال له شخص : بكم تبيعها فقال : صاحب السلعة بمائة مثلا فقال المشتري : أخذتها بها فقال صاحب السلعة : ما أردت البيع وإنما أردت اختبار ثمنها أو كنت لاعبا ونحو ذلك فإنه يحلف أنه ما أراد إيجاب البيع فإن حلف لم يلزمه البيع ، وإن لم يحلف لزمه ، وهذا قول مالك في كتاب الغرر من المدونة قال فيها : يحلف بالله أنه ما ساومه على إيجاب البيع وما ساومه إلا على كذا للأمر الذي يذكره ، فإذا حلف لم يلزمه البيع ، وإن لم يحلف لزمه ولمالك أيضا في أثناء أول رسم من سماع أشهب من كتاب العيوب أن البيع يلزمه وليس له أن يأبى ، ونصه : وسئل عن الرجل قد وقف عبده للبيع بكم عبدك هذا فيقول : بعشرين دينارا فيقول : أخذته بذلك فيقول البائع مجيبا مكانه : لا أبيعه بذلك أترى البيع لازما له . ؟

                                                                                                                            قال : نعم أرى ذلك لازما له وليس له أن يأبى أن يعطيه إياه بعشرين دينارا ، قال ابن رشد وكذلك لو قال السائم : أنا آخذه بكذا وكذا ، فقال : البائع قد بعتك بذلك فقال : السائم : لا آخذه بذلك لزمه الشراء على قول مالك ، هذا خلاف ما في كتاب بيع الغرر من المدونة من أن ذلك لا يلزم البائع ولا المشتري بعد أن يحلف كل واحد منهما أنه ما ساومه على الإيجاب والإمكان ، وإنما كان ذلك مبنى منه على وجه كذا وكذا لأمر يذكره ، وقال أبو بكر الأبهري إن كان الذي سمى قدر قيمة السلعة وكانت تباع بمثله لزمهما البيع ، وإن كان لا يشبه أن يكون ذلك ثمنها حلف أنه لاعب ولم يلزمه ، انتهى . فالأقوال ثلاثة وهكذا نقلها ابن رشد في الرسم المذكور والمصنف في التوضيح وابن عرفة وغيرهم ، ونص ابن عرفة ومن قال لمن وقف سلعته للبيع بكم هي فقال : بكذا فقال : أخذتها به فقال : لا أرضى ففي لزوم البيع لمن أوقفها ولغوه إن حلف ما ساومه على الإيجاب ، ثالثها إن كان الثمن ثمنها أو ما تباع به وإلا فالثاني لسماع القرينين ، ولهما ولابن رشد عن الأبهري ابن رشد وكذا لو قال السائم أنا آخذها بكذا فقال البائع : بعتكها به فقال : [ ص: 234 ] لا أرضى ، انتهى . وقوله أو ما تباع به لعله ثبت كذلك في نسخة من البيان بأو ، وأما الذي رأيته في البيان ونقله في التوضيح : وكانت تباع بالواو والله أعلم .

                                                                                                                            وظاهر كلام أبي إسحاق ترجيح رواية أشهب فإنه قال بعد أن ذكر كلام المدونة : وقول أشهب وهذا لعمري الأشبه إذا كان عادة من يساوم إنما يذكر ما يبيع به إلا أن يظهر عذر ظاهر ، انتهى .

                                                                                                                            ( تنبيهات الأول ) قول ابن رشد وكذلك لو قال السائم : أنا آخذها بكذا فقال البائع : قد بعتكها بذلك فقال السائم : لا آخذها بذلك هي مسألة ابن أبي زمنين المتقدمة وهي المسألة الثانية في كلام المصنف في القولة التي قبل هذه أعني قوله : وأنا أشتريها به وعلم منه أن الخلاف الذي في مسألة السوم هذه يدخل فيها على ما قاله ابن رشد ، وإذا دخل فيها فلا شك في دخوله في أختها بطريق القياس إذ لا فرق بينهما كما تقدم بيان ذلك في التنبيه الأول من شرح القولة التي قبل هذه ، فيكون الخلاف في المسائل الثلاث على حد السواء ، غاية الأمر أنه في مسألة السوم منقول مصرح به ، وفي الثانية صرح ابن رشد بأنها مثلها سواء ، والثالثة كذلك ، والقول الذي مشى عليه المصنف فيها هو قول مالك وابن القاسم في كتاب الغرر من المدونة ، وتقدم في كلام ابن أبي زمنين أنه مذهب ابن القاسم وطريق فتياه والله أعلم .

                                                                                                                            ( الثاني ) الذي ارتضاه ابن رشد أن هذه الأقوال إنما هي في السلعة الموقوفة للسوم ، ولو لم تكن موقوفة للسوم ; فإنه يقبل قول ربها إنه كان لاعبا ويحلف على ذلك ، ولا يلزمه البيع إلا أن يتبين صدق قوله فتسقط عنه اليمين ، ونصه بعد ذكره الخلاف المتقدم ، وهذا الاختلاف إنما هو في السلعة الموقوفة للبيع ، وأما إن لقي رجل رجلا في غير السوق فقال : بكم عبدك هذا أو ثوبك هذا أو لشيء لم يوقفه للبيع فقال : بكذا فقال : أخذته بذلك فقال : ربه لا أرضى إنما أنا لاعب وما أشبه ذلك ; فإنه يحلف على ذلك ، ولا يلزمه البيع إلا أن يتبين صدق قوله فتسقط عنه اليمين قولا واحدا على ما يقتضيه في هذا الرسم بعينه من سماع أشهب من جامع البيوع ، وقد ذهب بعض الناس إلى أن الخلاف في ذلك ولو لم تكن السلعة موقوفة للبيع على ما وقع في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم من جامع البيوع ، فإنه قال : إن البيع يلزمه ولم يذكر فيه أن السلعة كانت موقوفة ، وذهب إلى أنه يتحصل في المسألة ثلاثة أقوال عدم اللزوم وإن وقفت على ما في المدونة ، واللزوم وإن لم توقف على ما في رسم سلعة سماها المذكور .

                                                                                                                            ( الثالث ) الفرق بين أن تكون موقوفة أو لا على ما في سماع أشهب من البيوع وليس ذلك عندي بصحيح ; لأن مسألة رسم سلعة سماها وإن لم تكن السلعة موقوفة للبيع فذهاب المشتري بها ليستشير فيها بإذن البائع يخرجها من الخلاف ، وقد بين هذا في تفسير ابن مزين ، انتهى . ونقله ابن عرفة باختصار ونقلها في التوضيح أوله ( قلت : ) ويتبين صدق قوله والله أعلم بأن يكون أشهد قبل المساومة أنه لا يريد البيع ، وإنما يريد كذا أو بما يدل على ذلك من قرائن الأحوال ، نص ما في رسم سلعة سماها الذي أشار إليه ابن رشد ، قال مالك في الرجل يأتي بعض النخاسين الذين يبيعون الرقيق والدواب فيسومه بالرأس أو الدابة فيقول له السائم بثلاثين أو عشرين فيماكسه حتى يقف على ثمن لا يزيده على هذا الكلام ، ولا يقول له البائع إن رضيت فخذ ، ولا يزيد على قوله : هي بكذا وكذا فيقول السائم : أذهب بها فأستشير فيها فيقول : نعم فاذهب واستشر ، ولا يزيده السائم على ذلك من القول فيرضى بها ويأتيه بالثمن ، فيقول البائع : قد بدا لي وما كان بيننا إلا مساومة ، أو يقول : زيد عليك فبعتها لا أرى ذلك له وأراه بيعا نافذا عليه إن رضيه الذي ساومه وليس له أن ينزع ذلك ، وأرى أن يدخله النهي عن البيع على بيع أخيه ، قال ابن رشد هذه مسألة صحيحة بينة ليست بخلاف لما في كتاب الغرر من المدونة ، ولا لما في سماع أشهب من هذا [ ص: 235 ] الكتاب ومن كتاب البيوع ; لأن قول البائع للمبتاع : اذهب بها فاستشر فيها دليل على أنه قد أوجب البيع على نفسه وجعل الخيار فيها للمبتاع ، انتهى . وقال ابن عرفة بعد أن ذكر هذه المسألة : قلت : فكون البائع نخاسا وهو الدلال قائم مقام وقفها للبيع ، انتهى .

                                                                                                                            ( قلت : ) ما ذكره ابن عرفة غير ظاهر ; لأنه يقتضي أن يكون كالسلعة الموقوفة ، وقد علمت أن الراجح فيها أن البائع يحلف ويلزمه البيع ، والظاهر في المسألة ما قاله ابن رشد وأن قول البائع للمبتاع : اذهب واستشر دليل على أنه أوجب البيع على نفسه ، فلا يقبل قوله : أرضى بعد ذلك ، وأنه خارج من الخلاف فتأمله ، ونقل المسألة في النوادر عن مالك في كتاب ابن المواز في ترجمة ما يلزم به البيع من التساوم ولم يذكر فيها أن البائع نخاس ، ونصه من كتاب ابن المواز قال مالك فيمن ساوم سلعة فماكسه المشتري حتى وقفه المشتري على ثمن فلم يزده البائع على هذا ولا قال له : إن رضيت فخذ ، وإنما قال : هي بكذا فيقول السائم : أذهب بها فأشاور فيقول : افعل فيذهب بها المشاور ثم يرضى ويأتي بالثمن فيبدو للبائع أن يقول بعتها ممن زاد عليك ، ويقول : إنما بيني وبينك سوم فالبيع تام إن رضيه المبتاع وليس من ساوم بشيء فقال المبتاع : قد أخذتها فيبدو للبائع كمن وقف على ثمن سلعة ودفعها إلى المبتاع فذلك يلزمه إلا أن يقبله المبتاع ، وإن هلك ذلك بيد المبتاع قبل أن يرضى به فهو من البائع ، انتهى .

                                                                                                                            ونص ما في سماع أشهب من البيوع قال أشهب سألت مالكا عن الرجل يقول للرجل : أتبيعني سلعتك هذه فيقول : نعم بكذا وكذا فيقول : قد أخذتها فيقول رب السلعة : ما أردت بيعها وإنما أردت اختبار ثمنها فقال لي : سواء ، أما الذي يوقف سلعته بالسوق فأرى ذلك لازما له ، ولا يغني عنه إباؤه ، وإن لم يفترقا وكان ذلك مكانهما وكانت مناكرتهما من ساعتهما ، وأما الذي يعلم أنه كان لاعبا ولا يريد بيع سلعته ، فلا أرى ذلك لازما له ولا عليه جائزا ، قال ابن رشد هذه الرواية تدل على أن الخلاف إنما هو في الذي يسوم الرجل سلعته وقد أوقفها للبيع في السوق هل يصدق أنه لم يرد السوم وإنما أراد اختبار ثمنها وأنه كان لاعبا وما أشبه ذلك ، وأما الذي يلقى الرجل في غير السوق فيساومه في سلعته فيقول هي بكذا ، فلا اختلاف في أن البيع لا يلزمه إن ادعى أنه لم يكن مجدا بل لاعبا ويحلف إن لم يتبين صدقه ، وإنما يلزمه إن علم أنه كان مجدا غير لاعب إما بتردد المماكسة كرواية ابن نافع الواقعة في نوازل سحنون ، وإما بإقراره على نفسه إذ لا يعلم ذلك إذا لم تتردد المماكسة بينهما إلا من قبله ، وقد قيل إن الخلاف يدخل في هذه أيضا على ظاهر ما مضى في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم ، وليس ذلك عندي بصحيح على ما مضى القول فيه هنا ، وقد مضى تحصيل هذه المسألة في أول رسم من سماع أشهب من العيوب ، فمن أحب الشفاء فيها تأمله هناك .

                                                                                                                            وقوله : وكانت مناكرتهما من ساعتهما معناه وإن كانت مناكرتهما من ساعتهما ; لأن الخلاف إنما هو إذا كانت مناكرتهما من ساعتهما ، انتهى . وما قاله ابن رشد من أن هذه المسألة يؤخذ منها أن الخلاف إذا أوقفها في السوق صحيح ; لأن أشهب هو الذي روى لزوم البيع في كتاب العيوب وفي كتاب البيوع فروايته الأولى التي في كتاب العيوب إنما رواها في السلعة الموقوفة وروايته الثانية فرق فيها بين الموقوفة فيلزم وغيرها فلا يلزم فلم يرو أحد اللزوم في غير الموقوفة ، وإنما أخذوه من ظاهر سلعة سماها ، وقد تقدم القول عليها . والقول الذي عزاه ابن رشد للأبهري لعله أخذه مما في كتاب ابن المواز ، قال أبو إسحاق التونسي بعد مسألة المدونة المتقدمة ، وفي كتاب محمد من أوقف شاة في السوق فجاء رجل يسومه فقال : أخذتها بثلاثة دراهم فأربحه درهما فباعه ثم إن البائع قال : وهمت وإنما ابتعتها بثمانية وأنا آتي على ذلك بالبينة فقال : [ ص: 236 ] أرى أن يرد عليه البيع ، قيل لمالك فإن قال : إنما كنت لاعبا وإنما هي علي بعشرة وهذه البينة على ذلك ، قال : ينظر فيها حينئذ فإن كان لا يباع مثلها بثلاثة دراهم حلف ما كنت إلا مازحا ، وما أردت بيعها بذلك ، وإن كان يباع مثلها بذلك رأيت بيعها ماضيا ; لأنه ربما كسدت السلعة فيرضى به وتباع بالنقصان ، انتهى . أما أول المسألة وهو ما إذا وهم في الثمن فمذكور في كتاب المرابحة أن المشتري مخير بين أن يرد أو يأخذها بالثمن الذي قامت به البينة وربحه ، وأما آخرها فهو يشبه قول الأبهري الذي ذكره ابن رشد والله أعلم .

                                                                                                                            ( الثالث ) قول المصنف أو تسوق بها لا مفهوم له على مذهب المدونة الذي مشى عليه المصنف ; لأنه إذا لم يلزم البيع مع التسوق الذي هو مظنة الدلالة على الرضا بالبيع فأحرى إذا لم يتسوق بها فهو من باب مفهوم الموافقة ، وأيضا فإنه إذا لم يتسوق بها يحلف ولا يلزمه البيع اتفاقا على ما ارتضاه ابن رشد ، فقصد المصنف بيان حكم الوجه المختلف فيه ليعلم منه الحكم في الوجه المتفق عليه ، ولا يقال : الحكم مختلف لقول ابن رشد في الرسم المتقدم : إنه إذا لقيه في غير السوق أنه يحلف ، ولا يلزمه البيع إلا أن يتبين صدق قوله فتسقط عنه اليمين قولا واحدا ا هـ . فأسقط عنه اليمين إذا تبين صدقه مع عدم التسوق ; لأنا نقول الظاهر أن الحكم كذلك مع التسوق ، وقد صرح أبو الحسن في شرح هذه المسألة بأن اليمين يمين تهمة وأنها لا تنقلب واذا كانت يمين تهمة فإنها تتوجه على المتهم على المشهور ، واذا تبين صدقه فلا تهمة حينئذ ، فلا تتوجه اليمين ، فظهر أن الحكم في الوجهين سواء فتأمله والله أعلم .

                                                                                                                            ( الرابع ) تقدم أن معنى تسوق بها أوقفها للسوم في السوق ، والظاهر أن المراد بالسوق سوق تلك السلعة ، وأما سوق غيرها فحكمه حكم غير السوق ، وكلام الباجي في المنتقى يدل على ذلك فإنه لما ذكر الخلاف في مسألة السوم قال فيها : فإن كان في سوق تلك السلعة فروى أشهب يلزمه البيع ، وروى ابن القاسم يحلف ما ساومه على البيع ولا يلزمه ، انتهى . وهذا ظاهر والله أعلم .

                                                                                                                            ( الخامس ) تحصل من هذا أن البائع إذا قال في مسألة السوم : لا أرضى لأني ما أردت البيع يقبل قوله سواء تسوق بسلعته أو لم يتسوق بها ، وسواء قال : إنما أردت اختبار ثمن تلك السلعة أو كنت لاعبا أو غير ذلك ، ويحلف أنه ما أراد إلا ذلك إلا أن يتبين صدق قوله فتسقط عنه اليمين ، ويتبين صدق قوله بما تقدم من أن يكون أشهد قبل المساومة أنه إنما يريد كذا وكذا ولا يريد البيع ، أو ما يدل على ذلك من قرائن الأحوال ، وهذا إذا أنكر البيع كأنه من ساعته ، وأما لو سكت بعد قول المشتري : أخذتها سكوتا يقتضي رضاه بالبيع لم يقبل قوله كما فهم ذلك من كلام ابن رشد ، وكذلك إذا وقع بينه وبين المشتري تردد في المماكسة ; لأن تردد المماكسة يقتضي رضاه بالبيع ويلزمه بلا خلاف كما تقدم في شرح المسألتين السابقتين في كلام ابن رشد ونقله عنه ابن عرفة ، وكذلك أيضا إذا وقع منه لفظ يقتضي الرضا بالبيع كقوله : اذهب فاستشر فيها فإنه يلزمه كما تقدم في كلام ابن رشد ، وكذلك إذا أقر على نفسه أنه أراد البيع ، ولكن قال : بدا لي الآن فإنه لا يفيده ذلك لكن تقدم في كلامابن رشد أن ذلك لا يعلم إلا من قبله ، وكل هذا أيضا يجري في قول المشتري : أنا آخذها بكذا وأنا أشتريها بكذا على ما اقتضاه كلام ابن رشد المتقدم في التنبيه الأول ، ويجري أيضا في قول البائع أبيعكها بكذا إذ لا فرق بينهما كما تقدم وكما يؤخذ من كلام ابن رشد الآتي في التنبيه السابع والله أعلم .

                                                                                                                            ( السادس ) لفظ المدونة في مسألة السوم المحكي عن المشتري في جواب قول البائع بعشرة إنما هو رضيت ، وحكاه المصنف بلفظ أخذتها ، وكذلك ابن الحاجب ، قال الوانوغي في حاشية المدونة إن قلت : لم نسب ابن الحاجب للمدونة أخذتها في مسألة المساومة وترك الرضا المذكور فيها . ؟ قلت : للإعلام بأنهما [ ص: 237 ] سواء وإلا فعليه درك نقله قلت : الظاهر أنهما سواء ولذلك تبع المصنف ابن الحاجب في ذلك على أنه قد يقال : لا درك على المصنف بحال ; لأنه لم ينسب المسألة للمدونة ، بخلاف ابن الحاجب فإنه نسبها للمدونة

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية