الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( وأذان فذ إن سافر )

                                                                                                                            ش الفذ : المنفرد ، والأصل في ذلك ما رواه مالك في الموطإ من حديث عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبي سعيد الخدري { أنه قال له : إني أراك تحب الغنم والبادية فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء ، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ، ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة ، قال أبو سعيد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم } ورواه البخاري في صحيحه بهذا اللفظ ، وفي الموطإ عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول : من صلى بأرض فلاة صلى عن يمينه ملك وعن شماله ملك فإذا أذن وأقام الصلاة أو أقام صلى وراءه من الملائكة أمثال الجبال . ( تنبيهات : الأول ) ذكر المصنف في التوضيح في الحديث الأول أنه من قول أبي سعيد لعبد الله بن زيد وليس كذلك إنما هو من قول سعيد لعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة كما تقدم عن الموطإ ، وهو كذلك في صحيح البخاري وغيره وعزا الحديث الثاني للبخاري وليس فيه ، وقد رواه مالك في الموطإ مرسلا وأسنده النسائي وغيره . ( الثاني ) : ذكر جماعة من الشافعية منهم إمام الحرمين والغزالي والرافعي حديث أبي سعيد بلفظ : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي سعيد : إنك رجل تحب الغنم . إلخ ، وتعقبهم ابن الصلاح ، وقال هذا وهم وتحريف وإنما قال ذلك أبو سعيد للراوي عنه ، وهو عبد الله بن عبد الرحمن ، وتبعه أيضا النووي ، فقال : هذا الحديث مما غيره القاضي حسين والمازري والرافعي وغيرهم من الفقهاء فجعلوا النبي صلى الله عليه وسلم هو القائل هذا الكلام لأبي سعيد وغيروا لفظه ، والصواب ما ثبت في صحيح البخاري والموطإ وسائر كتب الحديث ، وذكر اللفظ السابق ، قال ابن حجر في فتح الباري : وأجاب ابن الرفعة عنهم بأنهم فهموا أن قول أبي سعيد : " سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم " عائد إلى كل ما ذكر ، قال ابن حجر : ولا يخفى بعده ، وذكر نحو ذلك في البدر المنير . ( قلت ) وقع في كلام اللخمي وابن بشير وغيرهما من المالكية في حديث أبي سعيد نحو ما تقدم عن الغزالي وغيره من الشافعية .

                                                                                                                            ( الثالث ) قوله : مدى صوت المؤذن بفتح الميم مقصور يكتب بالياء ، وهو غاية الشيء ، والمعنى لا يسمع غاية صوته . إلخ . قال ابن حجر : قال البيضاوي : غاية الصوت تكون أخفى من ابتدائه فإذا شهد له من بعد عنه ، ووصل إليه [ ص: 450 ] منتهى صوته فلأن يشهد له من دنا منه ، وسمع منادى صوته أولى انتهى .

                                                                                                                            وقوله : " شهد له " ظاهر كلام ابن حجر وغيره أن الشهادة هنا على بابها ورأيت في حاشيته نسخة من الموطإ عن ابن القطان أن الشهادة هنا بمعنى الشفاعة ، قال ابن حجر : والسر في هذه الشهادة مع أنها تقع في عالم الغيب ، والشهادة أن أحكام الآخرة جرت على نعت أحكام الخلق في الدنيا من توجيه الدعوى والجواب والشهادة ، قاله ابن المنير ، وقال غيره : المراد من هذه الشهادة اشتهار المشهود له يوم القيامة بالفضل وعلو الدرجة وكما أن الله تعالى يفضح بالشهادة أقواما فكذلك يكرم بالشهادة أقواما آخرين انتهى . وفي حديث آخر : { المؤذن يغفر له مدى صوته ويشهد له كل رطب ويابس } . رواه أبو داود والنسائي المؤذن يغفر له مد صوته ، فعلى رواية مدى صوته يكون منصوبا على الظرفية ، وعلى رواية " مد صوته " يكون مرفوعا على النيابة ، والمعنى أن ذنوبه لو كانت أجساما غفر له منها قدر ما يملأ المسافة التي بينه وبين منتهى صوته ، وقيل تمد له الرحمة بقدر مد الأذان ، وقال الخطابي : المعنى أنه يستكمل مغفرة الله تعالى إذا استوفى وسعه في رفع الصوت فيبلغ الغاية في المغفرة إذا بلغ الغاية في رفع الصوت .

                                                                                                                            ( الرابع ) قوله : " إن سافر " المراد كونه في فلاة من الأرض ولا يشترط السفر حقيقة كما يفهم ذلك من كلام ابن عرفة الآتي في التنبيه الخامس . وقوله قد يقتضي أن الجماعة لا يستحب لها الأذان وليس كذلك فإن كانت الجماعة ترتجي حضور من يصلي معها فالأذان في حقها سنة وأما إن كانت لا ترتجي فالأذان في حقها مستحب ولا تكون الجماعة أحط رتبة من الفذ فإن أصل مشروعية الأذان للجماعة وهذا هو المفهوم من كلام المازري وابن بشير وابن شاس ، قال المازري في شرح التلقين : وأما المنفرد والجماعة فلا يفتقرون لإعلام غيرهم وهم بالحضر فاختلف هل يستحسن لهم الأذان ; لأنه ذكر فيه إظهار شعار الإسلام أو لا يستحسن ذلك لهم ; لأن الغرض الأكثر في الأذان الدعاء إلى صلاة الجماعة ، وهؤلاء لا يدعون أحدا ، ثم قال : وأما السفر فيستحسن فيه ، وإن كان فذا انتهى . وقال ابن بشير : واستحب متأخرو أهل المذهب الأذان للمسافر ، وإن كان فذا وذكر حديثي الموطإ ، وقال ابن شاس : واستحب المتأخرون للمسافر الأذان ، وإن كان منفردا ; لحديث أبي سعيد .

                                                                                                                            ( فإن قيل : ) لعل هذا على طريقة ابن بشير وابن شاس الآتية في أن الفذ والجماعة التي لا تطلب غيرها في الحضر يستحب لها الأذان .

                                                                                                                            ( قلت ) أما على طريقتهم فلا إشكال في استحبابه وإنما الكلام على الطريقة التي مشى عليها المصنف فإنه لا يستحب للجماعة التي لا تطلب غيرها فالذي يظهر أن ذلك في الحضر ، وأما في السفر فالظاهر أنه مستحب ، أما أولا فلأن ذلك يفهم من كلام المازري كما تقدم ، وفي كلامه ميل إلى عدم الأذان إذا لم تطلب الجماعة غيرها في الحضر ، وأما ثانيا فلاحتمال أن يكون أحد قريبا منهم يواريه عنهم جبل أو تل أو طريق فإذا سمع الأذان أتى إليهم ، وصلى معهم ، وأما ثالثا فإن حديث أبي سعيد شامل للجماعة أيضا فلأن العلة التي ذكرها في الفذ موجودة في الجماعة ، فإن القرافي ذكر أن الفذ في السفر في موضع ليس فيه إظهار شرائع الإسلام فشرع له إظهارها ، وسرايا المسلمين تقصده فيحتاج للذب عن نفسه بخلاف الحاضر فإنه مندرج في شعائر غيره وصيانته انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) وهذا موجود في حق الجماعة بل إظهار شعائر الإسلام في حق الجماعة أوكد ، ولأنه ربما مر بهم شخص منفرد فيخاف كونهم من العدو فإذا سمع الأذان أمن على نفسه ، ومفهوم قوله : " إن سافر " أنه لا يستحب له الأذان في الحضر وسيأتي بيان ذلك في قوله : " لا جماعة لم تطلب " .

                                                                                                                            ( الخامس ) عزا ابن بشير وابن شاس وابن الحاجب استحباب ذلك للمتأخرين كما تقدم وتعقبهم ابن عرفة بأنه منصوص لمالك وابن حبيب ، ونصه : " واستحب ابن حبيب ومالك للفذ المسافر ، ومن بفلاة [ ص: 451 ] لما ورد فيه فعزو ابن بشير وابن الجلاب استحبابه لهما للمتأخرين قصور " انتهى .

                                                                                                                            ص ( لا جماعة لم تطلب غيرها على المختار )

                                                                                                                            ش قال ابن بشير : وأما الفذ والجماعات المجتمعون بموضع ولا يريدون دعاء غيرهم إلى الصلاة فوقع في المذهب لفظان : أحدهما أنهم إن أذنوا فحسن ، والثاني : أنهم لا يؤذنون ، وأراد أبو الحسن اللخمي أن يجعل المذهب على قولين ، وليس كذلك بل لا يؤمرون بالأذان كما يؤمر به الأئمة ، وفي مساجد الجماعات فإن أذنوا فهو ذكر والذكر لا ينهى عنه من أراد لا سيما إذا كان من جنس المشروع انتهى . ونص كلام اللخمي الرابع المختلف فيه هل هو مستحب أم لا ؟ فإن الفذ في غير السفر والجماعة لا يحتاجون إلى إعلام غيرهم ، فقال مرة : " الأذان مستحب " وفي مختصر ما ليس في المختصر ، قال : لم يكن مالك يستحب الأذان لمن يصلي وحده إلا أن يكون مسافرا ، وقاله ابن حبيب فيمن صلى في منزله أو أم جماعة في غير مسجد ، قال فلا أذان لهم إلا المسافر ، وقاله ابن المسيب ، وقال مالك : فإن أقام فحسن ، وهذا هو الصواب ; لأن الأذان إنما جعل ليدعى به الغائب وإذا كان كذلك لم يكن لأذان الفذ وجه وحسن في المسافر لما جاء فيه أنه يصلي خلفه فصار في معنى الجماعة انتهى .

                                                                                                                            فهذا هو الذي أشار إليه المصنف بقوله : " على المختار " وآخر كلام اللخمي يدل على أن اختياره عدم الأذان إنما هو في حق الفذ ، لكن أول كلامه يدل على مساواة الجماعة التي لا تطلب غيرها للفذ ، وعلى ذلك فهمه الشيوخ ، والله تعالى أعلم . قال ابن عرفة ابن حبيب الفذ الحاضر والجماعة المنفردة لا أذان عليهم . مالك : إذا أذنوا فحسن ، ومرة لا أحبه ، فقال اللخمي والمازري خلاف ورده ابن بشير بحمل نفيه على نفي تأكده كالجماعة لا على نفي حسنه ; لأنه ذكر ، وروى أبو عمر : لا أحب لفذ تركه انتهى . قاله في مختصر الواضحة وكذلك الرجل تحضره الصلاة في منزله في حضر كان أو في قرية فالإقامة تجزئه ولا يستحب له الأذان إلا المسافر أو الرجل الواحد في الفلاة من الأرض فلا بأس أن يؤذن لنفسه إذا حضرته الصلاة في ليل كان أو نهار ، وقد استحب ذلك مالك وأهل العلم انتهى .

                                                                                                                            ( تنبيه ) فهم من كلام المصنف : أن الأذان لا يستحب للفذ في غير السفر ولا للجماعة التي لم تطلب غيرها وإذا قلنا لا يستحب فهل هو مكروه أو مباح ؟ ظاهر كلامهم أن الأولى تركه ، قال في الطراز في شرح ليس الأذان إلا في مسجد الجماعة ومساجد القبائل ، وقال ابن حبيب : فيمن صلى في منزله أو أم جماعة في غير مسجد لا أذان لهم إلا المسافر ، وقاله ابن المسيب ومالك : فإن أقام فحسن ، وقال صاحب القوانين : الأذان سنة مؤكدة ، وقيل : فرض كفاية وقيل : خمسة أنواع : واجب وهو أذان الجمعة ، ومندوب وهو لسائر الفرائض في المساجد ، وحرام وهو أذان المرأة ، وأجاز الشافعي أن يؤذن النساء ، ومكروه وهو الأذان للنوافل ، وأجازه للفوائت ابن حنبل وأبو حنيفة ، ومباح وهو أذان المنفرد ، وقيل : مندوب انتهى

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية