الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( ورد مقتد على إمامه ثم يساره وبه أحد )

                                                                                                                            ش : يعني أن السنة الحادية عشرة أن يرد المقتدي وهو المأموم السلام على إمامه بأن يسلم تسليمة ثانية بعد التسليمة الأولى التي يخرج بها من الصلاة ثم يرد على من في جهة يساره إن كان فيها أحد تسليمة ثالثة ، وهذا هو المشهور وهو مذهب المدونة قال فيها : ويسلم المأموم عن يمينه على الإمام فإن كان على يساره أحد رد عليه انتهى . ومقابل المشهور أقوال : أحدها أنه يسلم تسليمتين الأولى على يمينه للخروج من الصلاة والثانية على الإمام ، قال في التوضيح : نقل هذا القول ابن بشير وغيره ويريد هذا القائل أنه يقصد بالثانية الرد على الإمام انتهى ، وقال ابن ناجي : نقله ابن شاس .

                                                                                                                            ( قلت ) وهو رواية عن مالك كما يفهم من كلام ابن رشد في رسم شك من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة ، ومن كلام ابن عرفة ونصه والمأموم رويت تسليمتان يرد إحداهما على الإمام ورويت ثالثة على من على يساره وإليه رجع بعد تقديمها على رد الإمام ، انتهى . وظاهر كلام هؤلاء الجماعة أن الثانية إنما يقصد بها الرد على الإمام والذي في كلام الباجي في المنتقى عن القاضي عبد الوهاب ونقله صاحب الطراز عن الباجي أنه على هذا القول يقصد بها الرد على الإمام وعلى المأمومين قال في المنتقى : يسلم المأموم تسليمتين إحداهما عن يمينه يتحلل بها من الصلاة وأخرى يرد بها على إمامه وهل يرد بتلك الثانية على من كان على يساره أو يسلم ليرد عليهم تسليمة ثالثة ؟ قال القاضي : ذلك مختلف فيه ، انتهى . واختار هذا القول ابن العربي في المسالك إلا أن ظاهر كلام الجماعة المتقدمين أن المأموم يسلم الثانية تلقاء وجهه ، وقال ابن العربي :

                                                                                                                            إنه يسلم الثانية عن يساره ونصه الذي أقول به : أنه يسلم اثنتين واحدة عن يمينه يعتقد بها الخروج من الصلاة والثانية عن يساره يعتقد بها الرد على الإمام والمأمومين ، والتسليمة الثالثة احذروها فإنها بدعة لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة وحديث عائشة معلول ، انتهى . القول الثاني : إنه يسلم ثلاث تسليمات لكنه يبدأ بالرد على اليسار قبل الرد على الإمام وهذا القول رواية أشهب عن مالك ، والقول الآخر : إنه مخير في ذلك حكاه القاضي عبد الوهاب في شرح الرسالة رواية ، فيتحصل في سلام المأموم أربع روايات واستدل في المدونة للمشهور بما رواه ابن القاسم عن مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان يسلم عن يمينه ثم يرد على الإمام ثم إن كان على يساره أحد رد عليه وقال في الطراز : الأصل في الرد على الإمام ما رواه أبو داود عن سمرة بن جندب { أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نرد على الإمام وأن يسلم بعضنا على بعض } ( قلت ) وهو حديث ضعيف وقال في الذخيرة : يسلم المأموم على يمينه ثم على الإمام لما في أبي داود وأمرنا عليه الصلاة والسلام ثم ذكر التشهد { وقال : ثم سلموا على اليمين ثم على قارئكم ثم على أنفسكم . } ووجه تقديم الرد على الإمام على الرد على اليسار أن سلامه سبق سلام غيره فيكون الرد عليه سابقا ، ووجه القول بتقديم الرد على اليسار على الرد على الإمام هو ما قال صاحب الطراز : إن جواب التحية يجب اتصاله بها ; لقوله تعالى { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } والإمام قد انقطع اتصال تحيته بسلام المأموم فإذا انخرم ذلك في حقه فلا ينخرم في حق المأموم مع إمكانه ونقله التلمساني وقال : لأن رد التحية واجب ويجب اتصاله بها إلى آخره ، ونقله القرافي وقال ابن العربي في المسالك : لأن من سنة الرد الاتصال . ووجه القاضي عبد الوهاب هذه الرواية بأن من في اليسار خصه بالسلام بخلاف الإمام فإنه رد عليه في عموم المأمومين فمن خصه بالتسليم فهو أولى بالتقديم ووجه [ ص: 527 ] الرواية بالتخيير تعارض مقتضيات التقديم مع الاتفاق ، على أن ذلك على جهة الأولى ووجه الرواية بالاقتصار على التسليمتين قال القاضي عبد الوهاب : إنه لم يرد في شيء من الروايات أكثر من تسليمتين وقال الباجي : إنه لو لم يجز أن يرد على الإمام والمأمومين تسليمة واحدة وجب أن يفرد كل واحد منهم بتسليمة . قال صاحب الطراز : وفيه نظر ; لأنه لا يرد على جميع المأمومين فالأولى أن يقال ; لأن المقصود الرد ، فأجزأ فيه سلام واحد ، كمن سلم عليه جماعة فجمعهم في الرد بتسليمة واحدة ، وقال الأقفهسي في شرح الرسالة : قال صاحب الطراز هل يرد على الإمام وغيره تسليمة واحدة ؟ قيل يرد قياسا على جملة المأمومين فإنه لا يحتاج إلى كل واحد تسليمة ، وقيل : لا يجمع تشريفا للإمام ، انتهى .

                                                                                                                            ( تنبيهات الأول ) ما فسرنا به كلام المصنف من أن الرد على الإمام وعلى اليسار إن كان فيه أحد سنة واحدة هو الذي ذكره القاضي عياض في قواعده ، وعدهما الشبيبي في شرح الرسالة وفي قواعده سنتين ، وعدهما ابن جماعة في فرض العين فضيلتين وعد ابن يونس وابن رشد في المقدمات والقرافي الرد على الإمام من السنن ولم يذكروا معه الرد على اليسار ولا نبهوا على حكمه ، وقال القباب في شرح قواعد القاضي عياض بعد أن ذكر كلامه : عد ابن يونس وابن رشد الرد على الإمام من السنن ولم يعدوا فيها الرد على من على اليسار .

                                                                                                                            ( الثاني ) قال صاحب الطراز : إذا ثبت أنه يرد على من على يساره فهل يشترط تأخير الرد حتى يسلم من في اليسار ليس فيه نص والظاهر أنه غير مشترط ولا ينبغي للمأموم أن يؤخر سلامه بل يتحلل عقب سلام إمامه فيوقع الرد موقعه ، فمن أخر سلامه لم ينتظر ورد عليه ; لأن سلامه لما كان لا بد منه كان في حكم الواقع ، وتعلق الرد بمحله وقع فيه أو تأخر عنه ، انتهى . ونقله التلمساني في شرح الجلاب فأسقط منه لفظ " غير " وقال : الظاهر أنه مشترط هكذا رأيت في نسختين منه واختصره القرافي في شرحه على الجلاب كذلك فقال : يسلم على يساره . فالظاهر أنه يؤخر حتى يسلم من على يساره ، ومن أخر سلامه لم ينتظر ; لأنه لا بد منه فصار آخر الكلام يدافع أوله ، والعجب أنه ذكره في الذخيرة على الصواب فقال : هل يشترط في الرد على اليسار التأخر حتى يسلم من على اليسار ؟ ليس فيه نص والظاهر أنه ليس بشرط وهذا هو الصواب ، والله أعلم .

                                                                                                                            ( الثالث ) قال في الطراز : لو لم يكن على يسار المأموم أحد فظاهر قول مالك يعني كلام المدونة السابق أنه لا يرد وهو المشهور وعلى قول مالك أن المنفرد يسلم تسليمتين ويسلم المأموم على يساره وإن لم يكن عليه أحد ، ونقله التلمساني والقرافي في شرح الجلاب والذخيرة .

                                                                                                                            ( قلت ) والظاهر أن هذا البحث يقوي القول الذي يقول بتقديم الرد على اليسار على الرد على الإمام وعلى القول بالتخيير أيضا فتأمله ، والله أعلم .

                                                                                                                            ( الرابع ) قال في الطراز : إذا قلنا بالمشهور : إنه لا يسلم إذا لم يكن على يساره أحد فلو كان على يساره مسبوق فيحتمل أن يقال : لا يرد عليه ; لأن سلامه متأخر وليس هو محله حتى يقام محله مقامه ويحتمل أن يقال : يرد عليه ; لأن سلامه لا بد منه وإن تأخر لعذر فليقم من يليه السلام على سنته ، وليس مقصود الرد الجواب إذ لو كان كذلك لوجب اعتبار التسليم الأول حتى يتعلق به كما يقول المخالف وإنما التسليم الأول من أركان الصلاة وإنما شرع الرد لهيئة المصلي وتشبيها بالمسلمين فصار في نفسه يتعلق بوجود المصلين يمنة ويسرة ، حتى يرد على من لم يقصد السلام عليه بل على من حلف أن لا يسلم عليه ، ولا يحنث بذلك انتهى . ونقله التلمساني والقرافي في شرح الجلاب والذخيرة باختصار ونص كلامه في شرح الجلاب : فإن كان على يساره مسبوق قال سند : يحتمل عدم الرد لتأخير سلامه ويحتمل الرد ; لأنه لا بد منه انتهى . وهو كلام حسن وفيه ميل إلى ترجيح السلام على اليسار إذا كان فيه [ ص: 528 ] مسبوق قام للقضاء .

                                                                                                                            ( قلت ) وهو ظاهر قول المصنف وبه أخذ وهو الظاهر إن كان المسبوق أدرك من صلاة الإمام ركعة فأكثر وإن لم يدرك ركعة فلا يسلم عليه لا يدخل في كلام المصنف لما سيأتي في التنبيه الخامس والسادس ما قلنا : إنه ظاهر كلام المصنف

                                                                                                                            قال ابن ناجي في شرح المدونة : وهو ظاهر كلام المدونة وكلام ابن الحاجب لكنه خلاف قول أبي محمد في الرسالة ويرد أخرى على من كان سلم عليه عن يساره فإن لم يكن عليه أحد لم يرد على يساره شيئا قال : وما ذكرناه من مخالفة قول الرسالة لقول غيرها : أول ما سمعته من شيخنا أبي بكر الصفاقسي ذكره في درس شيخنا الشبيبي وسلمه ويمكن أن يقال : قول الرسالة مفسر لغيرها ، انتهى . وقال في شرح الرسالة : ظاهر كلام الشيخ أنه لو كان على يساره مسبوق لا يسلم عليه وظاهر كلام ابن الحاجب أنه يسلم عليه ولم يزد على هذا ، انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) والظاهر أن يؤول كلام الرسالة ويوفق بينه وبين غيره ، فيقال : إنه خرج مخرج الغالب فلا يعمل بمفهومه ونبه الجزولي والشيخ يوسف بن عمر على أنه يؤخذ من الرسالة أنه لا يسلم على اليسار إذا كان فيه مسبوق ولم يذكرا خلافه وكذا الشيخ زروق ولكنه أشار إلى الخلاف فقال في قول الرسالة : فإن لم يسلم عليه أحد لم يرد على يساره شيئا فلا يسلم على مدرك هناك ; لأنه لم يسلم عليه ويسلم على من قد قام من إمام ومأموم إذا سلم عليه وفي كلها اختلاف ، انتهى . وقال البساطي في شرح كلام المصنف إذا كان على اليسار مسبوق فهل يرد عليه ؟ فيه قولان واحتمال كلامه لهذا فيه بعد ، انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) ظاهر كلامه وكلام الشيخ زروق أن الخلاف في ذلك منصوص ولم أقف عليه ولعلهما أشارا بالخلاف إلى ظاهر كلام الرسالة وكلام غيرها والله أعلم . وذكر الشارح في الكبير الاحتمالين اللذين ذكرهما في الطراز لكن باختصار كما ذكرهما في الذخيرة وقوله في الطراز : يمنة ويسرة ، هو بفتح أولهما .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية