الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ( الخامس ) اختلف في سلام المسبوق إذا فرغ من صلاته فقيل : كسلام الفذ ، وقيل : كسلام المأموم ، وهما روايتان عن مالك حكاهما اللخمي والمازري وابن الحاجب وغيرهم ، قال في التوضيح : واختار ابن القاسم أنه يرد على من سلم عليه انصرف أم لا ، انتهى .

                                                                                                                            قال المازري في شرح التلقين : علل بعض المتأخرين ثبوت سلام الرد بأن حكم الإمام باق عليه في فضائله وعلل بقية بأن من سنة الرد الاتصال بسلام الابتداء فإذا لم يوجد الاتصال لم يثبت الرد وهذا التعليل يقتضي وجود الخلاف وإن كان من يرد عليه حاضرا ، وأشار بعض أشياخي إلى أن الخلاف لا يتصور مع حضور من يرد عليه وإنما يتصور مع غيبته ، انتهى باختصار ونقله المصنف في التوضيح وابن عرفة .

                                                                                                                            ( قلت ) وبعض أشياخه هو اللخمي فإنه قال : إذا فات المأموم بعض صلاة الإمام فقضى ما فاته فإن كان الإمام لم ينصرف ولا من على يسار المأموم رد عليهما ، واختلف إذا انصرفا فقال قال مالك : مرة لا يرد عليهما ، ومرة قال : يرد وهو أحسن ; لأن السلام يتضمن دعاء وهو تحية تقدمت منهم يجب ردها ، انتهى . وهكذا قال الرجراجي : إنه إذا قضى صلاته قبل أن ينصرفوا فلا إشكال أن حكمه حكم من سلم مع الإمام ، انتهى . وقال الشبيبي : واختلفوا في المسبوق إذا قام الإمام والناس هل يسلم سلام الفذ أو سلام المأموم ؟ على قولين وإن قضى ما بقي قبل قيامهم يسلم سلام المأموم قولا واحدا ، انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) وذكر صاحب النوادر وصاحب الطراز أن الرواية التي اختارها ابن القاسم هي التي رجع إليها مالك فيحصل من هذا أن المسبوق يسلم سلام المأموم إن لم ينصرف الإمام ، ومن على يساره باتفاق إلا ما يفهم من تعليل بعض الشيوخ الذي ذكره المازري ، وكذا إذا انصرفوا على القول الراجح الذي رجع إليه مالك واختاره ابن القاسم وبه صرح في الشامل فقال : والمسبوق كغيره ، [ ص: 529 ] وقيل : إن كان الإمام ، ومن على يساره لم يذهبا وإلا فواحدة ( فإن قيل ) قول المصنف وبه أحد يقتضي خلاف ذلك .

                                                                                                                            ( قلت ) لا يصح حمله على الرواية الأولى التي رجع عنها مالك لرجوع مالك عنها فلا يعمل بها ولأن المصنف قيد ذلك بمن على اليسار ، والرواية المذكورة عامة في الإمام ومن على اليسار ; فيتعين حمل قول المصنف : وبه أحد ، على أن المراد وبه أحد من المأمومين الذين أدرك معهم المأموم جزءا من صلاة الإمام في الجزء الذي أدركه معهم سواء استمر بعد فراغ الإمام من الصلاة أو ذهب ; لأن المعتبر كونه على يساره في الجزء الذي أدركه من صلاة الإمام بدليل أنه لو لم يكن على يساره أحد في الجزء الذي أدركه ثم بعد سلام الإمام جلس فيه بعض المأمومين لم يرد عليه ، والله أعلم . وبهذا يظهر لك كثرة فوائد قول المصنف : وبه أحد ، مع شدة اختصاره .

                                                                                                                            ( السادس ) قال في النوادر : قال سحنون : ومن لم يدرك إلا التشهد فلا يرد على الإمام . وقال سند : لما ذكر الخلاف في رد المسبوق على الإمام وهذا فيمن أدرك ركعة مع الإمام فصاعدا ، فإن لم يدرك غير التشهد قال سحنون في المجموعة : هذا لا يرد عليه وهذا بين ، فإن السنة إنما تعلقت برد المأموم على إمامه في صلاته وهذا ليس بإمام له في صلاته ; لأنه صلاها فذا ولهذا لا يسجد معه في سهوه انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) وإذا لم يرد على الإمام فأحرى أن لا يرد على من كان على يساره وهذا ظاهر . وتوقف البساطي في المغني في ذلك فقال : قال سحنون : ومن لم يدرك إلا التشهد فلا يرد على الإمام .

                                                                                                                            ( قلت ) وانظر هل يرد على يساره ؟ انتهى وقد تقدم عند قول المصنف : وتدرك فيه الصبح بركعة . عن الجزولي والشيخ يوسف بن عمر والشيخ زروق أن من أدرك ركعة فسلامه كسلام المأموم ، وأن مفهوم كلامهم أن من أدرك دون ركعة فسلامه كسلام الفذ وهذا ظاهر ، والله أعلم .

                                                                                                                            ( السابع ) قال ابن ناجي في شرح المدونة : قال عبد الحق : والرد على الإمام فرض خارج عن فرائض الصلاة ; لقوله تعالى { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } وقاله اللخمي في صلاة الجنائز انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) لم أقف على ما ذكره عن عبد الحق لا في النكت ولا في التهذيب والذي في اللخمي في كتاب الجنائز أنه لما ذكر عن مالك في العتبية أن المأموم يرد تسليمة ثانية على الإمام قال : وهو أحسن أن يجري السلام في العدد يعني في صلاة الجنازة على ما يجري في غيرها من الصلوات ، فيرد المأموم على الإمام وعلى من على شماله بعد التسليمة التي يخرج بها ; لأن رد التحية فرض والإمام يسلم على من خلفه فيردوا عليه ، وكل واحد من المأمومين قد سلم عليه صاحبه بالتي خرج بها من الصلاة ، انتهى . فليس في كلامه تصريح بأنه يرى تسليمة الرد على الإمام وعلى من على يسار المصلي فريضة خارجة عن فرائض الصلاة وإنما فيه أن يختار أن يسلم من صلاة الجنازة كما يسلم من غيرها من الصلوات وهو نحو ما تقدم له في التنبيه الخامس في الكلام على المسبوق ، ونحوه ما تقدم في كلام صاحب الطراز والتلمساني في توجيه القول بتقديم السلام على اليسار على السلام على الإمام ، والظاهر أن مرادهم بذلك كله إنما هو تشبيه رد المصلي برد السلام خارج الصلاة ; لأنه مثله في الحكم كما يفهم ذلك من كلام صاحب الطراز المتقدم في التنبيه الرابع ، ويؤيد ذلك ما ذكره المواق عن بعض الشيوخ في هذا المحل ولم يسمه أن التسليمة الأولى من الإمام والمأمومين للخروج من الصلاة وتقع على المأمومين بالتبع فلذلك كان الرد سنة بخلاف الرد في غير الصلاة فإنه فرض انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) وهو كلام حسن يؤيده ما تقدم وما يأتي في كلام صاحب الطراز أيضا في التنبيه التاسع وقد ذكر التلمساني والقرافي في شرح الجلاب عن الأبهري أنه قال : قال مالك : إن ترك الرد فلا شيء عليه ; لأن غيره من المأمومين قد ردوا ; لأنه ليس بمتفق على أن الرد على الإمام سنة ولا فيه حديث ثابت ، وإنما هو [ ص: 530 ] عن ابن عمر ، فكان أمره أخف بخلاف الرد على المسلم ، انتهى باختصار القرافي فإذا أطلق الوجوب في ذلك فإنما هو على سبيل المسامحة ومثله قول صاحب الطراز لأن جواب التحية يجب اتصاله بها فإن الظاهر أنه لم يرد حقيقة الوجوب وإنما أراد أن ذلك سنتها كما عبر بذلك ابن العربي في المسالك وقد تقدم أن الملبي والمؤذن يردان السلام بعد فراغهما فتأمله ، والله أعلم . وقال في النوادر : ومن جهل ترك الرد على الإمام وسلم الأولى أو جهل فترك الثانية فلم يسلمها أن صلاته تامة ، كذلك قال مالك في ذلك كله .

                                                                                                                            ( الثامن ) قال في الرسالة : ويرد أخرى على الإمام قبالته يشير إليه ، قال ابن ناجي في شرحها : قال ابن سعدون : لو صلى المأموم بين يدي الإمام فإنه يسلم على الإمام على حاله وينوي الإمام ولا يلتفت إليه ، انتهى وقال الشيخ زروق ويكون سلامه على إمامه تلقاء وجهه ، وليس عليه أن يشير إلى ناحية الإمام كما أن الإمام ليس عليه أن يشير إلى المأمومين ولأن المأموم لو كان بين يدي الإمام لم يكن عليه أن يرد وجهه والنية تجزئه في ذلك ، انتهى . وقال الشيخ يوسف بن عمر : قوله : قبالة وجهه أي قبالة المأموم وقوله يشير إليه ، قيل : بقلبه ، وقيل : برأسه إذا كان أمامه وإن كان خلفه أو على يمينه أو على يساره ترك الإشارة برأسه ; لأنه لا يمكنه ذلك ، انتهى . وقال الجزولي : قوله : يشير إليه ، يريد إذا كان أمامه أو عن يمينه أو عن يساره وأما إذا كان خلفه فيشير إليه بالنية ، وقيل : الإشارة هنا بالقصد إلى الإمام وهو الذي ارتضاه الشيخ انتهى . كأنه يعني بالشيخ نفسه وهذا هو الظاهر أن المراد بالإشارة القصد لا الإشارة بالرأس ، وإذا قلنا : إن المراد الإشارة بالرأس فإن كان خلفه لم يشر إليه وإن كان عن يمينه أو شماله فالظاهر أنه لا يشير إليه كما قال الشيخ يوسف بن عمر خلافا لما قاله الجزولي فتأمله ، والله أعلم .

                                                                                                                            ( التاسع ) قال ابن بشير : ويقصد الإمام بها أي بالتسليمة الخروج من الصلاة والسلام على الملائكة ومن معه من المقتدين ، ويقصد الفذ الخروج من الصلاة والسلام على الملائكة ، وأما المأموم فيسلم أولا تسليمة يشير بها إلى يمينه ثم اختلف هل يبتدئ بعدها بالرد على الإمام أو بالسلام على من على يساره من الملائكة والمصلين ، وإذا قلنا : إنه يبتدئ بالرد على الإمام فلا يسلم عن يساره إلا أن يكون هناك أحد من المصلين يرد عليه ، وهذا راجع إلى النقل انتهى . وقال في التلقين : والمأموم يسلم اثنتين ، ينوي بالأولى التحليل وبالثانية الرد على الإمام وإن كان على يساره من سلم عليه نوى الرد عليه ، انتهى . وقال في الذخيرة : قال صاحب الطراز : وعندنا لا يرد على الإمام تسليمة التحليل ; لأنه يصير بمنزلة المتكلم في الصلاة ، انتهى . والذي في الطراز بعد أن حكى عن الشافعي أنه ينوي المأموم بالأولى التحليل والحفظة والإمام إن كان على يمينه ومن على يمينه من المأمومين .

                                                                                                                            ووجه المذهب أنه سلام يتحلل به من الصلاة فلا يجوز أن يقصد تحية مخلوق ولا مخاطبه ، كما لا يجوز أن يقصد به الرد على من يسلم عليه من عابري السبيل أو التحية على من حضر من غير المصلين ، انتهى .

                                                                                                                            ( العاشر ) لم يذكر المصنف حكم الإمام والفذ إلا ما يفهم من كلامه أنه لا يسلم كل واحد منها إلا تسليمة واحدة وهذا هو المشهور في المذهب . قال في التوضيح : وقد قال مالك : إن على ذلك العمل ، ولفظه على ما نقل ابن يونس وقد سلم النبي صلى الله عليه وسلم واحدة كذلك وأبو بكر وعثمان وغيرهم . قال مالك في غير المدونة : وكما يدخل في الصلاة بتكبيرة واحدة فكذلك يخرج منها بتسليمة واحدة على ذلك كان الأمر في الأئمة وغيرهم وإنما حدث التسليمتان منذ كان بنو هاشم ، انتهى كلام التوضيح وأصله في آخر رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم وفي رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب من كتاب الصلاة . قال في الطراز : فاحتج مالك بالأمر الذي أدرك عليه الناس وهو أقوى عنده فإن الصلاة مشروعة على الجميع مطلوبة من الكافة فلا يثبت فيها مطلوب إلا بأمر [ ص: 531 ] مستفيض ، والمرجع في ذلك إلى العمل المتصل سيما عمل أهل المدينة فإنها دار الهجرة وبها استقر الشرع وقبض الرسول ، وأقامت الخلفاء بعده الصلوات في الجمع على ما كانت تقام يوم وفاته واتصل بذلك عمل الخلف عن السلف ، انتهى . ومقابل المشهور ذكره صاحب الطراز وغيره فقال في الطراز قبل كلامه السابق : وروى مطرف في الواضحة عن مالك أن الفذ يسلم تسليمة واحدة عن يمينه وتسليمة عن يساره ، قال وبهذا كان يأخذ مالك في خاصة نفسه .

                                                                                                                            قال الباجي تخريجا على ذلك : إن الإمام يسلم تسليمتين ، انتهى . وظاهر كلام الباجي وصاحب الطراز أن الإمام ليس فيه إلا رواية واحدة ، ونقل المازري روايتين كالفذ فقال الإمام : والفذ يسلمان تسليمة واحدة في المشهور من المذهب ، وروى عن مالك أن كل واحد منهما يسلم تسليمتين ولا يسلم المأموم حتى يفرغ الإمام منهما ، انتهى . ونقل اللخمي عنه في ذلك ثلاث روايات : الأولى أنه يسلم واحدة . الثانية من سماع أشهب أنه يسلم تسليمتين . قال : ولا يسلم من خلفه حتى يفرغ منهما . الثالثة ذكرها أبو الفرج أنه يسلم تسليمة تلقاء وجهه وإن كان عن يساره أحد رد عليه تسليمة ثانية . قال اللخمي يريد أنه إذا كان معه واحد يسلم واحدة وإن كان عن يساره أحد سلم أخرى على من كان على يساره وهو أحسن ، انتهى . وقال ابن عرفة : فالإمام والفذ تسليمة اللخمي ورويت ثانية عن اليسار . أبو الفرج إن كان عن يسار الإمام أحد وروى المازري يخفي سلامه للرد على من على يساره ; لئلا يقتدي به فيه . قال ابن عرفة : قلت : ففي الإمام ثلاثة عياض الأول المشهور ، ومن العجب قول ابن زرقون لم يختلف قول مالك : الإمام واحدة ، انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) ليس بعجيب بل هو تابع للباجي في جعله القول بأن الإمام يسلم تسليمتين تخريجا كما تقدم في كلام صاحب الطراز ، والله تعالى أعلم . وصرح صاحب الطراز وابن بشير وابن شاس بتشهير القول الأول أن الإمام والفذ يسلمان تسليمة واحدة ، والله أعلم .

                                                                                                                            ( الحادي عشر ) كل من أثبت التسليمة الثانية فإنه يقول : إنها غير واجبة إلا أحمد بن حنبل والحسن بن الصلاح

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية