الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            جرجيس :

            هو رجل صالح أدرك بقايا من حواريي عيسى عليه السلام
            .

            روى محمد بن إسحاق ، عن وهب وغيره: أنه كان بالموصل ملك جبار ، يقال له دازانه ، وكان جبارا عاتيا وكان جرجيس رجلا صالحا من أهل فلسطين فكتم إيمانه في عصبة معه يكتمون الإيمان قد أدركوا بقايا من الحواريين ، وكان جرجيس كثير المال عظيم الصدقة ربما نفد ماله في الصدقة ثم يعود يكتسب مثله ، ولولا الصدقة لكان الفقر أحب إليه من الغنى ، وكان يخاف بالشام أن يفتتن عن دينه ، فقصد الموصل ومعه هدية لملكها لئلا يجعل لأحد عليه سبيلا ، فجاءه حين جاءه ، وقد أحضر عظماء قومه وأوقد نارا وأعد أصنافا من العذاب وأمر بصنم له يقال له أفلون فنصب ، فمن لم يسجد له عذبه وألقي في النار .

            فلما رأى جرجيس ما يصنع استعظمه وحدث نفسه بجهاده ، فعمد إلى المال الذي معه فقسمه في أهل ملته وأقبل عليه وهو شديد الغضب فقال له : اعلم أنك عبد مملوك لا تملك لنفسك شيئا ولا لغيرك شيئا ، وأن فوقك ربا هو الذي خلقك ورزقك ، فأخذ في ذكر عظمة الله تعالى وعيب صنمه . فأجابه الملك بأن سأله من هو ؟ ومن أين هو ؟ . فقال جرجيس : أنا عبد الله وابن أمته من التراب خلقت وإليه أعود . فدعاه الملك إلى عبادة صنمه وقال له : لو كان ربك ملك الملكوت لرؤي عليك أثره كما ترى على من حولي من ملوك قومي . فأجابه جرجيس بتعظيم أمر الله وتمجيده وقال له : تعبد أفلون الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يغني من رب العالمين ، أم تعبد الذي قامت بأمره السماوات والأرض ، أم تعبد طرقلينا عظيم قومك من الناس - عليه السلام - فإنه كان آدميا يأكل ويشرب فأكرمه الله بأن جعله إنسيا ملكيا ، أم تعبد عظيم قومك مخليطيس أيضا وما نال بولايتك من عيسى عليه السلام ! وذكر من معجزاته وما خصه الله به من الكرامة .

            فقال له الملك : إنك أتيتنا بأشياء لا نعلمها ! ثم خيره بين العذاب والسجود للصنم . فقال جرجيس : إن كان صنمك هو الذي رفع السماء ، وعدد أشياء من قدرة الله ، عز وجل ، فقد أصبت ونصحت ، وإلا فاخسأ أيها الملعون .

            فلما سمع الملك أمر بحبسه ، ومشط جسده بأمشاط الحديد حتى تقطع لحمه وعروقه ، وينضح بالخل والخردل ، فلم يمت . فلما رأى ذلك لم يقتله أمر بستة مسامير من حديد فأحميت حتى صارت نارا ثم سمر بها رأسه ، فسال دماغه ، فحفظه الله تعالى . فلما رأى ذلك لم يقتله أمر بحوض من نحاس فأوقد عليه حتى جعله نارا ثم أدخله فيه وأطبق عليه حتى برد . فلما رأى ذلك لم يقتله دعاه وقال له : ألم تجد ألم هذا العذاب ؟ قال : إن إلهي حمل عني عذابك وصبرني ليحتج عليك .

            فأيقن الملك بالشر وخافه على نفسه وملكه فأجمع رأيه على أن يخلده في السجن ، فقال الملأ من قومه : إنك إن تركته في السجن طليقا يكلم الناس ويميل بهم عليك ، ولكن يعذب بعذاب يمنعه من الكلام . فأمر به فبطح في السجن على وجهه ثم أوتد في يديه ورجليه أوتادا من حديد ، ثم أمر بأسطوان من رخام حمله ثمانية عشر رجلا فوضع على ظهره ، فظل يومه ذلك تحت الحجر ، فلما أدركه الليل أرسل الله إليه ملكا ، وذلك أول ما أيد بالملائكة ، فأول ما جاءه الوحي قلع عنه الحجر ونزع الأوتاد وأطعمه وسقاه وبشره وعزاه ، فلما أصبح أخرجه من السجن فقال له : الحق بعدوك فجاهده ، فإني قد ابتليتك به سبع سنين يعذبك ويقتلك فيهن أربع مرات في كل ذلك أرد إليك روحك ، فإذا كانت القتلة الرابعة تقبلت روحك وأوفيتك أجرك .

            فلم يشعر الملك إلا وقد وقف جرجيس على رأسه يدعوه إلى الله ، فقال له : أجرجيس ؟ قال : نعم . قال : من أخرجك من السجن ؟ قال : أخرجني من سلطانه فوق سلطانك !

            فملئ غيظا ودعا بأصناف العذاب ومدوه بين خشبتين ووضعوا على رأسه سيفا ثم وشروه حتى سقط بين رجليه وصار جزلتين ، ثم قطعوهما قطعا ، وكان له سبعة أسد ضارية في جب فألقوا جسده إليها ، فلما رأته خضعت برءوسها وقامت على براثنها لا تألو أن تقيه الأذى الذي تحتها ، فظل يومه تحتها ميتا ، فكانت أول ميتة ذاقها . فلما أدركه الليل جمع الله جسده وسواه ورد فيه روحه وأخرجه من قعر الجب . فلما أصبحوا أقبل جرجيس ، وهم في عيد لهم صنعوه فرحا بموت جرجيس ، فلما نظروا إليه مقبلا قالوا : ما أشبه هذا بجرجيس ! قال الملك : هو هو ! قال جرجيس : أنا هو حقا ، بئس القوم أنتم ! قتلتم ومثلتم فرد الله روحي إلي ! هلموا إلى هذا الرب العظيم الذي أراكم قدرته . فقالوا : ساحر سحر أعينكم وأيديكم عنه ، فجعلوا من ببلادهم من السحرة ، فلما جاءوا قال الملك لكبيرهم : اعرض علي من سحرك ما يسرى به عني . فدعا بثور فنفخ في أذنيه فإذا هو ثوران ، ودعا ببذر فحرث وزرع وحصد ودق وذري وطحن وخبز وأكل من ساعته . فقال له الملك : هل تقدر أن تمسخه كلبا ؟ قال : ادع لي بقدح من ماء ، فأتي به ، فنفث فيه الساحر ثم قال الملك لجرجيس : اشربه ، فشربه جرجيس حتى أتى على آخره . فقال له الساحر : ماذا تجد ؟ قال : ما أجد إلا خيرا ! كنت عطشان فلطف الله بي فسقاني . وأقبل الساحر على الملك وقال : لو كنت تقاسي جبارا مثلك لغلبته وإنما تقاسي جبار السماء والأرض .

            وكانت أتت جرجيس امرأة من الشام ، وهو في أشد العذاب ، فقالت له : إنه لم يكن لي مال إلا ثورا أعيش به من حرثه فمات ، وجئتك لترحمني وتسأل الله أن يحيي ثوري . فأعطاها عصا وقال : اذهبي إلى ثورك فاضربيه بهذه العصا وقولي له : احي بإذن الله . فأخذت العصا وأتت مصرع الثور فرأت روقيه وشعر ذنبه فجمعتها ثم قرعتها بالعصا وقالت ما أمرها به جرجيس ، فعاش ثورها ، وجاء الخبر بذلك .

            فلما قال الساحر ما قال ، قال رجل من أصحاب الملك ، وكان أعظمهم بعد الملك : اسمعوا مني . قالوا : نعم . قال : إنكم قد وضعتم أمره على السحر ، وإنه لم يعذب ولم يقتل ، فهل رأيتم ساحرا قط قدر أن يدفع عن نفسه أو أحيا ميتا ؟ وذكر الثور وإحياءه ، فقالوا له : إن كلامك كلام رجل قد أصغى إليه . فقال : قد آمنت به وأشهد الله أني بريء مما تعبدون ! فقام إليه الملك وأصحابه بالخناجر فقطعوا لسانه بالخناجر ، فلم يلبث أن مات ، وقيل : أصابه الطاعون فأعجله قبل أن يتكلم ، وكتموا شأنه ، فكشفه جرجيس للناس ، فاتبعه أربعة آلاف وهو ميت ، فقتلهم الملك بأنواع العذاب حتى أفناهم ، وقال له رجل من عظماء أصحاب الملك : يا جرجيس إنك زعمت أن إلهك يبدأ الخلق ثم يعيده ، وإني أسألك أمرا إن فعله إلهك آمنت به وصدقتك وكفيتك قومي . هذا تحتنا أربعة عشر منيرا ومائدة وأقداح وصحاف من خشب يابس ، وهو من أشجار شتى ، فادع ربك أن يعيدها خضرا كما بدأها ، يعرف كل عود بلونه وورقه وزهره وثمره . قال جرجيس : قد سألت أمرا عزيزا علي وعليك ، وإنه على الله يسير ، ودعا الله فما برحوا حتى اخضرت وساخت عروقها وتشعبت ونبت ورقها وزهرها حتى عرفوا كل عود باسمه .

            فقال الذي سأله هذا : أنا أتولى عذابه . فعمد إلى نحاس فصنع منه صورة ثور مجوف ثم حشاها نفطا ورصاصا وكبريتا وزرنيخا وأدخل جرجيس في وسطها ثم أوقد تحت الصورة النار حتى التهبت وذاب كل شيء فيها واختلط ومات جرجيس في جوفها . فلما مات أرسل الله ريحا عاصفا ورعدا وبرقا وسحابا مظلما وأظلم ما بين السماء والأرض وبقوا أياما متحيرين ، فأرسل الله ميكائيل ، فاحتمل تلك الصورة ، فلما أقلها ضرب بها الأرض ، ففزع من روعتها كل من سمعها وانكسرت ، وخرج منها جرجيس حيا ، فلما وقف وكلمهم انكشفت الظلمة وأسفر ما بين السماء والأرض .

            قال له عظيم من عظمائهم : ادع الله بأن يحيي موتانا من هذه القبور . فأمر جرجيس بالقبور فنبشت وهي عظام رفات ، ثم دعا فلم يبرحوا حتى نظروا إلى سبعة عشر إنسانا ، تسعة رجال وخمس نسوة وثلاثة صبية وفيهم شيخ كبير . فقال له جرجيس : متى مت ؟ فقال : في زمان كذا وكذا ، فإذا هو أربعمائة عام .

            فلما رأى ذلك الملك قال : لم يبق من عذابكم شيء إلا وقد عذبتموه وأصحابه به إلا الجوع والعطش ، فعذبوه به . فعمدوا إلى بيت عجوز فقيرة ، وكان لها ابن أعمى أبكم مقعد ، فحصروه فيه ، فلا يصل إليه طعام ولا شراب . فلما جاع قال للعجوز : هل عندك طعام أو شراب ؟ قالت : لا والذي يحلف به ما لنا عهد بالطعام من كذا وكذا وسأخرج لألتمس لك شيئا . فقال لها : هل تعبدين الله ؟ قالت : لا . فدعاها فآمنت ، وانطلقت تطلب له شيئا ، وفي بيتها دعامة من خشبة يابسة تحمل خشب البيت ، فدعا الله فاخضرت تلك الدعامة وأنبتت كل فاكهة تؤكل وتعرف ، فظهر للدعامة فروع من فوق البيت تظله وما حوله ، وعادت العجوز وهو يأكل رغدا . فلما رأت الذي حدث في بيتها قالت : آمنت بالذي أطعمك في بيت الجوع ، فادع هذا الرب العظيم أن يشفي ابني . قال : أدنيه مني ، فأدنته ، فبصق في عينيه فأبصر ، فنفث في أذنيه فسمع . قالت له : أطلق لسانه ورجليه . قال لها : أخريه فإن له يوما عظيما .

            ورأى الملك الشجرة فقال : أرى شجرة ما كنت أعهدها ! قالوا : تلك الشجرة نبتت لذلك الساحر الذي أردت أن تعذبه بالجوع وقد شبع منها وأشبعت العجوز ، وشفى لها ابنها .

            فأمر بالبيت فهدم ، وبالشجرة أن تقطع ، فلما هموا بقطعها أيبسها الله وتركوها . وأمر بجرجيس فبطح على وجهه ، وأمر بعجل فأوقر أسطوانا وجعل في أسفل العجل خناجر وشفارا ثم دعا بأربعين ثورا فنهض بالعجل نهضة واحدة وجرجيس تحتها ، فانقطع ثلاث قطع ، ثم أمر بقطعه فأحرقت حتى صارت رمادا ، وبعث بالرماد مع رجال فذروه في البحر ، فلم يبرحوا حتى سمعوا صوتا من السماء : يا بحر إن الله يأمرك أن تحفظ ما فيك من هذا الجسد الطيب فإني أريد أن أعيده . فأرسل الرياح فجمعته كما كان قبل أن يذروه ، والذين ذروه قيام لم يبرحوا ، وخرج جرجيس حيا مغبرا ، فرجعوا ورجع معهم وأخبروا الملك خبر الصوت والرياح . فقال له الملك : هل لك فيما هو خير لي ولك ؟ ولولا أن يقال إنك غلبتني لآمنت بك ، ولكن اسجد لصنمي سجدة واحدة أو اذبح له شاة واحدة وأنا أفعل ما يسرك . فطمع جرجيس في إهلاك الصنم حين يراه وإيمان الملك عند ذلك ، فقال له : أفعل - خديعة منه - وأدخلني على صنمك أسجد له وأذبح .

            ففرح الملك بذلك وقبل يديه ورجليه وطلب منه أن يكون يومه وليلته عنده ، ففعل ، فأخلى له الملك بيتا ودخله جرجيس ، فلما جاء الليل قام يصلي ويقرأ الزبور ، وكان حسن الصوت ، فلما سمعته امرأة الملك استجابت له وآمنت به وكتمت إيمانها ، فلما أصبح غدا به إلى بيت الأصنام ليسجد لها .

            وقيل للعجوز : إن جرجيس قد افتتن وطمع في الملك . فخرجت تحمل ابنها على عاتقها في أعراضهم توبخ جرجيس ، فلما دخل بيت الأصنام نظر فإذا العجوز وابنها أقرب الناس إليه ، فدعا ابنها ، فأجابه وما تكلم قبل ذلك قط ، ثم نزل على عاتق أمه يمشي على قدميه سويتين وما وطئ الأرض قط . فلما وقف بين يدي جرجيس قال له : ادع لي هذه الأصنام ، وهي على منابر من ذهب واحد وسبعون صنما ، وهم يعبدون الشمس والقمر معها ، فدعاها ، فأقبلت تتدحرج إليه . فلما انتهت إليه ركض برجله الأرض فخسف بها وبمنابرها ، فقال له الملك : يا جرجيس خدعتني وأهلكت أصنامي ! فقال له : فعلت ذلك عمدا لتعتبر وتعلم أنها لو كانت آلهة لامتنعت مني . فلما قال هذا قالت امرأة الملك وأظهرت إسلامها ، وعدت عليهم أفعال جرجيس وقالت : ما تنظرون من هذا الرجل إلا دعوة فتهلكون كما هلكت أصنامكم . فقال الملك : ما أسرع ما أضلك هذا الساحر ! ثم أمر بها فعلقت على خشبة ، ثم مشط لحمها بمشاط الحديد ، فلما آلمها العذاب قالت لجرجيس : ادع الله أن يخفف علي الألم . فقال : انظري فوقك . فنظرت فضحكت . فقال لها الملك : ما يضحكك ؟ قالت : أرى على رأسي ملكين معهما تاج من حلي الجنة ينتظران خروج روحي ليزيناني به ويصعدا بها إلى الجنة . فلما ماتت أقبل جرجيس على الدعاء وقال : اللهم أكرمتني بهذا البلاء لتعطيني أفضل منازل الشهداء ، وهذا آخر أيامي ، فأسألك أن تنزل بهؤلاء المنكرين من سطوتك وعقوبتك ما لا قبل لهم به ، فأمطر الله عليهم النار فأحرقتهم . فلما احترقوا بحرها عمدوا إليه فضربوه بالسيوف فقتلوه ، وهي القتلة الرابعة . فلما احترقت المدينة بجميع ما فيها رفعت من الأرض وجعل عاليها سافلها ، فلبث زمانا يخرج من تحتها دخان منتن .

            وكان جميع من آمن به وقتل معه أربعة وثلاثين ألفا وامرأة الملك .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية