الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      زين للناس كلام مستأنف سيق للتنفير عن الحظوظ النفسانية التي كثيرا ما يقع القتال بسببها إثر بيان حال الكفرة والتنصيص على عدم نفع أموالهم وأولادهم لهم وقد كانوا يتعززون بذلك، والمراد من الناس الجنس، حب الشهوات أي المشتهيات وجعلها نفس الشهوات إشارة إلى ما ركز في الطباع من محبتها والحرص عليها حتى كأنهم يشتهون اشتهاءها كما قيل لمريض: ما تشتهي؟ فقال: أشتهي أن أشتهي، أو تنبيها على خستها لأن الشهوات خسيسة عند الحكماء [ ص: 99 ] والعقلاء ففي ذلك تنفير عنها وترغيب فيما عند الله تعالى، والمزين هو الله تعالى كما أخرجه ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وروي عن الحسن الشيطان، والله زينها لهم لأنا لا نعلم أحدا أذم لها من خالقها، وفي «الانتصاف» ((التزيين للشهوات يطلق ويراد به خلق حبها في القلوب وهو بهذا المعنى مضاف إليه تعالى حقيقة لأنه لا خالق إلا هو، ويطلق ويراد به الحض على تعاطي الشهوات المحظورة فتزيينها بالمعنى الثاني مضاف إلى الشيطان تنزيلا لوسوسته وتحسينه منزلة الأمر بها والحض على تعاطيها، وكلام الحسن رحمه الله تعالى محمول على التزين بالمعنى الثاني لا بالمعنى الأول فإنه يتحاشى أن ينسب خلق الله تعالى إلى غيره)) والإسناد في كل حقيقة كما أشرنا إليه فيما تقدم، ومن قال: الظاهر أنه من قبيل أقدمني بلدك حق لي عليك، إذ لا إقدام هنا بل قدوم محض، أثبت له مقدما للمبالغة، والمراد أن الشهوات زينت في أعينهم لنقصانهم ولا زينة لها في الحقيقة من غير أن يكون هناك مزين إلا أنه أثبت مزينا مبالغة في الزينة وتنزيلا لسبب الزينة منزلة الفاعل فقد تعسف وتصلف، ومن قال: المزين في الحقيقة هو الشيطان لأن التزيين صفة تقوم به، والقائل بأنه هو الله تعالى لأنه الخالق للأفعال والدواعي مخطئ في الدعوى وغير مصيب في الدليل فالمخطئ ابن أخت خالته، وقرأ مجاهد (زين) بالبناء للفاعل ونصب (حب) .

                                                                                                                                                                                                                                      من النساء والبنين في محل النصب على الحال من (الشهوات) وهي مفسرة لها في المعنى، وقيل: (من) لبيان الجنس وقدم النساء لعراقتهن في معنى الشهوة وهن حبائل الشيطان، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء " ويقال: فيهن فتنتان قطع الرحم وجمع المال من الحلال والحرام، وثنى بالبنين لأنهم من ثمرات النساء في الفتن، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الولد مبخلة مجبنة " ويقال فيهم فتنة واحدة وهي جمع المال، ولم يتعرض لذكر البنات لعدم الاطراد في حبهن، وقيل: إن البنين تشملهن على سبيل التغليب.

                                                                                                                                                                                                                                      والقناطير المقنطرة جمع قنطار وهو المال الكثير كما أخرجه ابن جرير عن الضحاك، وأخرج أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " القنطار اثنا عشر ألف أوقية "، وأخرج الحاكم عن أنس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " القنطار ألف أوقية "، وفي رواية ابن أبي حاتم عنه: القنطار ألف دينار، وأخرج ابن جرير عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " القنطار ألف أوقية ومائتا دينار "، وعن معاذ: ألف ومائتا أوقية، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اثنا عشر ألف درهم وألف دينار، وفي رواية أخرى عنه: ألف ومائتا دينار، ومن الفضة ألف ومائتا مثقال، وعن أبي سعيد الخدري: ملء جلد الثور ذهبا، وعن مجاهد: سبعون ألف دينار، وعن ابن المسيب: ثمانون ألفا، وعن أبي صالح: مائة رطل، وعن قتادة قال: كنا نحدث أن القنطار مائة رطل من الذهب أو ثمانون ألفا من الورق، وعن أبي جعفر: خمسة عشر ألف مثقال، والمثقال أربعة وعشرون قيراطا، وقيل: القنطار عند العرب وزن لا يحد، وقيل: ما بين السماء والأرض من مال وغير ذلك، ولعل الأولى كما قيل: ما روي عن الضحاك: ويحمل التنصيص على المقدار المعين في هذه الأقوال على التمثيل لا التخصيص والكثرة تختلف بحسب الاعتبارات والإضافات.

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف في وزنه فقيل: فعلال، وقيل: فنعال: فالنون على الأول أصلية وعلى الثاني زائدة، ولفظ المقنطرة مأخوذ منه، ومن عادة العرب أن يصفوا الشيء بما يشتق منه للمبالغة كظل ظليل وهو كثير [ ص: 100 ] في وزن فاعل ويرد في المفعول ك حجرا محجورا و نسيا منسيا وقيل: المقنطرة المضعفة، وخصها بعضهم بتسعة قناطير، وقيل: المقنطرة المحكمة المحصنة من قنطرت الشيء إذا عقدته وأحكمته، وقيل: المضروبة دنانير أو دراهم، وقيل: المنضدة التي بعضها فوق بعض، وقيل: المدفونة المكنوزة.

                                                                                                                                                                                                                                      من الذهب والفضة بيان للقناطير وهو في موضع الحال منها، والذهب مؤنث يقال: هي الذهب الحمراء ولذلك يصغر على ذهيبة، وقال الفراء: وربما ذكر، ويقال في جمعه: أذهاب وذهوب وذهبان، وقيل: إنه جمع في المعنى لذهبة واشتقاقه من الذهاب، والفضة تجمع على فضض واشتقاقه من انفض الشيء إذا تفرق والخيل عطف على (النساء) أو (القناطير) لا على (الذهب والفضة) لأنها لا تسمى قنطارا، وواحده خائل وهو مشتق من الخيلاء مثل طائر وطير، وقال قوم: لا واحد له من لفظه بل هو اسم جمع واحده فرس ولفظه لفظ المصدر، وجوز أن يكون مخففا من خيل المسومة أي الراعية، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في إحدى الروايات عنه فهي من سوم ماشيته إذا أرسلها في المرعى، أو المطهمة الحسان، قاله مجاهد فهي من السيما بمعنى الحسن، أو المعلمة ذات الغرة والتحجيل، قاله عكرمة فهي من السمة أو السومة بمعنى العلامة.

                                                                                                                                                                                                                                      والأنعام أي الإبل والبقر والغنم وسميت بذلك لنعومة مشيها ولينه، والنعم مختصة بالإبل والحرث مصدر بمعنى المفعول أي المزروع سواء كان حبوبا أم بقلا أم ثمرا.

                                                                                                                                                                                                                                      (ذلك) أي ما زين لهم من المذكور ولهذا ذكر وأفرد اسم الإشارة ويصح أن يكون ذلك لتذكير الخبر وإفراده وهو متاع الحياة الدنيا أي ما يتمتع به أياما قلائل ثم يزول عن صاحبه والله عنده حسن المآب [ 14 ] أي المرجع الحسن فالمآب مفعل من آب يؤوب أي رجع وأصله مأوب فنقلت حركة الواو إلى الهمزة الساكنة قبلها ثم قلبت ألفا وهو اسم مصدر ويقع اسم مكان وزمان والمصدر أوب وإياب.

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج ابن جرير عن السدي أنه قال: (حسن المآب) حسن المنقلب وهي الجنة، وفي تكرير الإسناد إلى الاسم الجليل زيادة تأكيد وتفخيم ومزيد اعتناء بالترغيب فيما عند الله تعالى من النعيم المقيم والتزهيد في ملاذ الدنيا السريعة الزوال، ومن غريب ما استنبط من الآية كما قال أبو حيان وجوب الزكاة في الخيل السائمة لذكرها مع ما تجب فيه الصدقة أو النفقة، والثاني: النساء والبنون ولا يخفى ما فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية