الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فاعلم أنه لا إله إلا الله مسبب عن مجموع القصة من مفتتح السورة لا عن قوله تعالى: ( هل ينظرون ) كأنه قيل: إذا علمت أن الأمر كما ذكر من سعادة هؤلاء وشقاوة هؤلاء فاثبت على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية فهو من موجبات السعادة، وفسر الأمر بالعلم بالثبات عليه لأن علمه صلى الله عليه وسلم بالتوحيد لا يجوز أن يترتب على ما ذكره سبحانه من الأحوال فإنه عليه الصلاة والسلام موحد عن علم حال ما يوحى إليه ولأن المعنى فتمسك بما أنت فيه من موجبات السعادة لا بطلب السعادة، وقال بعض الأفاضل: إن الثبات أيضا حاصل له عليه الصلاة والسلام، فأمره بذلك صلى الله عليه وسلم تذكير له بما أنعم الله تعالى عليه توطئة لما بعده، وتعقب بأن المراد بالثبات الاستمرار وهو بالنظر إلى الأزمنة الآتية وذلك وإن كان مما لا بد من حصوله له عليه الصلاة والسلام لمكان العصمة لكن المعصوم يؤمر وينهى فيأتي بالمأمور ويترك المنهي ولا بد للعصمة، والأمر في قوله تعالى: واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات قيل على معنى الثبات أيضا، وجعل الاستغفار كناية عما يلزمه من التواضع وهضم النفس والاعتراف بالتقصير لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم أو مغفور لا مصر ذاهل عن الاستغفار، وقيل: التحقيق أنه توطئة لما بعده من الاستغفار للمؤمنين والمؤمنات ولعل الأولى إبقاؤه على الحقيقة من دون جعله توطئة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر الاستغفار، أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن حبان عن الأغر المزني رضي الله تعالى عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة).

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج النسائي وابن ماجه وغيرهما عن أبي موسى قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أصبحت غداة قط إلا استغفرت الله فيها مائة مرة).

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (إنا كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس يقول: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة) وفي لفظ (التواب الغفور) إلى غير ذلك من الأخبار الصحيحة.

                                                                                                                                                                                                                                      والذنب بالنسبة إليه عليه الصلاة والسلام ترك ما هو الأولى بمنصبه الجليل ورب شيء حسنة من شخص سيئة من آخر كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين وقد ذكروا أن لنبينا صلى الله عليه وسلم في كل لحظة عروجا إلى مقام أعلى مما كان فيه فيكون ما عرج منه في نظره الشريف ذنبا بالنسبة إلى ما عرج إليه فيستغفر منه، وحملوا على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إنه ليغان على قلبي) الحديث. وفيه أقوال أخر، وقوله تعالى: وللمؤمنين على حذف مضاف بقرينة ما قبل أي ولذنوب المؤمنين. وأعيد الجار لأن ذنوبهم جنس آخر غير ذنبه عليه الصلاة والسلام فإنها معاص كبائر وصغائر وذنبه صلى الله عليه وسلم ترك الأولى بالنسبة إلى منصبه الجليل، ولا يبعد أن يكون بالنسبة إليهم من أجل حسناتهم، قيل: وفي حذف المضاف وتعليق الاستغفار بذواتهم إشعار بفرط احتياجهم إليه فكأن ذواتهم عين الذنوب وكذا فيه إشعار بكثرتها، وجوز بعضهم كون الاستغفار للمؤمنين بمعنى طلب المغفرة لهم وطلب سببها كأمرهم بالتقوى، وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز مع أن في صحته كلاما، فالظاهر إبقاء اللفظ على حقيقته.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي تقديم الأمر بالتوحيد إيذان بمزيد شرف التوحيد فإنه أساس الطاعات ونبراس العبادات، وفي الكلمة الطيبة أبحاث شريفة ولطائف منيفة لا بأس بذكر بعضها وإن تقدم شيء من ذلك فنقول: المشهور أن إلا للاستثناء. والاسم الجليل بدل من محل اسم لا النافية للجنس وخبر لا محذوف، واستشكل الإبدال من جهتين أولاهما أنه بدل بعض وليس معه ضمير يعود على المبدل منه وهو شرط فيه، وأجيب بمنع كونه شرطا مطلقا [ ص: 56 ] بل هو شرط حيث لا تفهم البعضية بقرينة وهاهنا قد فهمت بقرينة الاستثناء ثانيتهما أن بين المبدل منه والبدل مخالفة فإن الأول منفي والثاني موجب.

                                                                                                                                                                                                                                      وأجاب السيرافي بأنه بدل عن الأول في عمل العامل والتخالف نفيا وإيجابا لا يمنع البدلية لأن مذهب البدل أن يجعل الأول كأنه لم يذكر والثاني في موضعه وقد تتخالف الصفة والموصوف في ذلك نحو مررت برجل لا كريم ولا لبيب على أنه لو قيل: إن البدل في الاستثناء قسم على حياله مغاير لغيره من الإبدال لكان له وجه.

                                                                                                                                                                                                                                      واستشكل أمر الخبر بأنه إن قدر ممكن يلزم عدم إثبات الوجود بالفعل للواحد الحقيقي تعالى شأنه أو موجود يلزم عدم تنزيهه تعالى عن إمكان الشركة وتقدير خاص مناسب لا قرينة عليه قيل: ولصعوبة هذا الإشكال ذهب صاحب الكشاف وأتباعه إلى أن الكلمة لا غير محتاجة إلى خبر وجعل ( إلا الله ) مبتدأ و ( لا إله ) خبره والأصل الله إله أي معبود بحق لكن لما أريد قصر الصفة على الموصوف قدم الخبر وقرن المبتدأ بإلا إذ المقصور عليه هو الذي يلي إلا والمقصود هو الواقع في سياق النفي، والمبتدأ إذا اقترن بإلا وجب تقديم خبره. وتعقب بأنه مع ما فيه من التمحل يلزم منه بناء الخبر مع لا وهي لا يبني معها إلا المبتدأ، وأيضا لو كان الأمر كذلك لم يكن لنصب الاسم الواقع بعدها وجه وقد جوزه جماعة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض الأفاضل: إن لا إله إلا الله على هذا المذهب قضية معدولة الطرفين بمنزلة غير الحي لا عالم بمعنى الحي عالم ولا يدفع الاعتراض كما لا يخفى، وقال بعضهم: إن الخبر هو ( إلا الله ) أعني إلا مع الاسم الجليل وأورد عليه أن الجنس مغاير لكل من أفراده فكيف يصدق حينئذ سلب مغايرة فرد عنه اللهم إلا أن يقال: إن ذلك بناء على تضمين معنى من وإن المفهوم منه أنه انتفى من هذا الجنس غير هذا الفرد، والوجه كما قيل أن يقال: إن المغايرة المنفية هي المغايرة في الوجود لا المغايرة في المفهوم حتى لا يصدق، ولا شك أن المراد من الجنس المنفي بلا هذه هو المفهوم من غير اعتبار حصوله في الأفراد كلها أو بعضها فيكون محمولا لا بمعنى اعتبار عدم حصوله فيها أصلا حتى لا يصح حمله إذ لا يلزم من عدم اعتبار شيء اعتبار عدمه ومتى تحقق الحمل تحقق عدم المغايرة في الوجود فتدبره.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعضهم: لا خبر للا هذه أصلا على ما قاله بنو تميم فيها، وأورد عليه أنه يلزم حينئذ انتفاء الحكم والعقد وهو باطل قطعا ضرورة اقتضاء التوحيد ذلك ولا يبعد أن يقال: إن القول بعدم احتياج لا إلى الخبر لا يخرج المركب منها ومن اسمها عن العقد وذلك لأن معنى المركب نحو لا رجل على هذا التقدير انتفى هذا الجنس فإذا قلنا: لا رجل إلا حاتم كان معناه انتفى هذا الجنس في غير هذا الفرد ويخدشه أن تركب الكلام من الحرف والاسم مما ليس إليه سبيل، وربما يدفع بما قيل في النداء مثل يا زيد من أنه قائم مقام ادعوه، والشريف العلامة قدس سره صرح في بيان ما نقل عن بني تميم من عدم إثبات خبر لا هذه بأنه يحتمل أن يكون بناء على أن المفهوم من التركيب كما ذكر آنفا انتفاء هذا الجنس ثم إن كلمة إلا على هذا التقدير بمعنى غير ولا مجال لكونها للاستثناء لا لما يتوهم من التناقض بناء على أن سلب الجنس عن كل فرد فرد ينافي إثباته لواحد من أفراده فإنه مدفوع بنحو ما اختاره نجم الأئمة في دفع التناقض المتوهم في مثل ما قام القوم إلا زيدا لوجوب شمول القوم المنفي عنهم الفعل لزيد المثبت هو له فيما يتبادر بأن يقال: إن الجنس الخارج عنه هذا الفرد منتف في ضمن كل ما عداه ولا لما قد يتوهم من عدم تناول الجنس المنفي لما هو بعد إلا وهو شرط الاستثناء لما عرفت من الفرق بين [ ص: 57 ] الجنس بدون اعتبار حصوله في الأفراد وبينه مع اعتبار عدم حصوله فيها بل لأنها لو كانت للاستثناء لما أفاد الكلام التوحيد لأنه يكون حاصله حينئذ أن هذا الجنس على تقدير عدم دخول هذا الفرد فيه منتف فيفهم منه عدم انتفائه في إفراد غير خارج عنها ذلك الفرد فأين التوحيد، فالواجب حملها على معنى غير وجعلها تابعة لمحل اسم لا بدلا عنه أو صفة كما في قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان

                                                                                                                                                                                                                                      كذا رأيته في بعض نسخ قديمة وذكره بعض شيوخ مشايخنا العلامة الطبقجلي في رسالته شرح الكلمة الطيبة ولم يتعقبه بشيء، وعندي أن ما ذكر في نفي الكون إلا للاستثناء على ذلك التقدير لا يخلو عن نظر. ثم إنه قيل: إذا كان مضمون المركب على ذلك التقدير إن هذا الجنس منتف فيما عدا هذا الفرد كانت القضية شخصية ولها لازم هو قضية كلية. أعني قولنا كل ما يعتبر فردا له سوى هذا الفرد فهو منتف. ولا استبعاد في شيء من ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وذهب الكثير إلى تقدير الخبر "موجود" وأجاب عن الإشكال بأنه يلزم نفي الإمكان العام من جانب الوجود عن الآلهة غير الله تعالى وذلك مبني على مقدمة قطعية معلومة للعقلاء هي أن المعبود بالحق لا يكون إلا واجب الوجود فيصير المعنى لا معبود بحق موجود إلا الله وإذا ليس موجودا ليس ممكنا لأنه لو كان ممكنا لكان واجبا بناء على المقدمة القطعية فيكون موجودا، وقد أفادت الكلمة الطيبة أنه ليس بموجود فليس بممكن لأن نفي اللازم يدل على نفي الملزوم. واعترض بأن المقدمة القطعية وإن كانت صحيحة في نفس الأمر لكنها غير مسلمة عند المشركين لأنهم يعبدون الأصنام ويعتقدونها آلهة مع اعترافهم بأنها ممكنة محتاجة إلى الصانع ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله فيمكن أن يعترف المكلف بالكلمة الطيبة ويعتقد أن نفي الوجود لا يستلزم نفي الإمكان فيمكن عنده وجود آلهة غير الله تعالى فلا يكون التلفظ بالكلمة نصا على إيمانه ولو كانت المقدمة المذكورة مسلمة عند الكل لأمكن أن يقدر الخبر من أول الأمر موجود بالذات أي لا إله موجود بالذات إلا الله وإذا لم يكن غيره تعالى موجودا بالذات لم يكن مستحقا للعبادة لأن المستحق لها لا يكون إلا واجبا لذاته.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قرر الجواب بوجهين آخرين: الأول أن لا إله موجود قضية سالبة حملية لا بد لها من جهة وهي الإمكان العام فيكون المعنى أن الجانب المخالف للسلب وهو إثبات الوجود ليس ضروريا للآلهة إلا الله تعالى فإنه موجود بالإمكان العام أي جانب السلب ليس ضروريا له تعالى فيكون الوجود ضروريا له سبحانه تحقيقا للتناقض بين المستثنى والمستثنى منه.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني أن لا إله موجود بالإمكان العام سالبة كلية ممكنة عامة فيكون المتحصل بالاستثناء الذي هو نقيض موجبة جزئية ضرورية أي الله موجود بالضرورة. وأورد على التقريرين أنهما إنما يتمان إذا كان كل من طرفي المستثنى والمستثنى منه قضية مستقلة وهو ممنوع، والصحيح عند أهل العربية أنهما كلام واحد مقيد بالاستثناء فلا يجري فيهما أحكام الناقض إلا أن يؤول بالمعنى اللغوي، وأيضا جعل الله موجودا بالضرورة قضية جزئية فيه تساهل، وقيل: يمكن أن يقال: الخبر المقدر هو الموجود مطلقا سواء كان بالفعل أو بالإمكان على استعمال المشترك في كلا معنييه أو على تأويله بما يطلق عليه اسم الموجود وهو كما ترى، وقيل: يجوز تقديره ممكن، ونفي الإمكان يستلزم نفي الوجود لأن الإله واجب الوجود وإمكان [ ص: 58 ] اتصاف شيء بوجوب الوجود يستلزم اتصافه بالفعل بالضرورة، فإذا استفيد من الكلمة الطيبة إمكانه يستفاد منه وجوده أيضا إذ كل ما لم يوجد يستحيل أن يكون واجب الوجود، ويعلم ما فيه مما مر فلا تغفل، وقال بعضهم: الخبر المقدر مستحق للعبادة، فالمعنى لا إله مستحق للعبادة إلا الله، ولا محذور فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      واعترض بأن هذا كون خاص ولا بد في حذفه من قرينة ولا قرينة فلا يصح الحذف. وأجيب بأنها كنار على علم لأن الإله بمعنى المعبود فدل على العبادة واستحقاقها، يؤيده ملاحظة المقام واعتبار حال المخاطبين لأن هذه الكلمة الطيبة واردة لرد اعتقاد المشركين الزاعمين أن الأصنام تستحق العبادة.

                                                                                                                                                                                                                                      واعترض أيضا بأنه لا يدل على نفي التعدد مطلقا أي لا بالإمكان ولا بالفعل لجواز وجود إله غيره سبحانه لا يستحق العبادة، وأيضا يمكن أن يقال: المراد إما نفي إله مستحق للعبادة غيره تعالى بالفعل أو بالإمكان فعلى الأول لا ينفي إمكان إله مستحق للعبادة أيضا غيره عز وجل وعلى الثاني لا يدل على استحقاقه قال للعبادة بالفعل. ورد بأن وجوب الوجود مبدأ جميع الكمالات ولذا فرعوا عليه كثيرا منها فلا ريب أنه يوجب استحقاق التعظيم التبجيل، ولا معنى لاستحقاق العبادة إلا ذلك فإذا لم يستحق غيره تعالى العبادة لم يوجد واجب وجود غيره سبحانه وإلا لاستحق العبادة قطعا، وإذا لم يوجد لم يكن ممكنا أيضا فثبت أن نفي استحقاق العبادة يستلزم نفي التعدد جزما.

                                                                                                                                                                                                                                      وتعقب بأن فيه البناء على أن الإله لا يكون إلا واجب الوجود، وقد سمعت أنها وإن كانت قطعية الصدق في نفس الأمر إلا أنها غير مسلمة عند المشركين. ومن المحققين من قال: إنه لا يلتفت إلى عدم تسليمهم لمكابرتهم ما عسى أن يكون بديهيا. نعم ربما يقال: إن الكلمة الطيبة على ذلك التقدير إنما تدل على نفي المعبود بالفعل بناء على ما قرر في المنطق أن ذات الموضوع يجب اتصافه بالعنوان بالفعل، ويجاب بمنع وجوب ذلك بل يكفي الاتصاف بالإمكان كما صرح به الفارابي، وأما ما نقل عن الشيخ فمعناه كونه بالفعل بحسب الفرض العقلي لا بحسب نفس الأمر كما تدل عليه عبارته في الشفاء والإشارات فيرجع إلى معنى الإمكان.

                                                                                                                                                                                                                                      والفرق بين المذهبين أن في مذهب الشيخ زيادة اعتبار ليست في مذهب الفارابي وهي أن الشيخ اعتبر مع الإمكان بحسب نفس الأمر فرض الاتصاف بالفعل ولم يعتبره الفارابي، وبالجملة إن الاتصاف بالفعل غير لازم فكل ما يمكن اتصافه بالمعبودية داخل في الحكم بأنه لا يستحق العبادة، ولما كانت القضية سالبة صدقت وإن لم يوجد الموضوع، ولعل التحقيق في هذا المقام أن الكلمة الطيبة جارية بين الناس على متفاهم اللغة والعرف لا على الاصطلاحات المنطقية والتدقيقات الفلسفية، وهي كلام ورد في رد اعتقاد المشرك الذي اعتقد أن آلهة غير الله سبحانه تستحق العبادة، فإذا اعترف المشرك بمضمونه من أنه لا معبود مستحق للعبادة إلا الله تعالى علم من ظاهر حاله الإيمان، ولهذا اكتفى به الشارع عليه الصلاة والسلام، وأما الكافر الذي يعتقد إمكان وجود ذات تستحق العبادة بعد فلا تكفي هذه الكلمة الطيبة في إيمانه كما لا تكفي في إيمان من أنكر النبوة أو المعاد أو نحو ذلك مما يجب الإيمان به بل لا بد من الاعتراف بالحكم الذي أنكره ولا محذور في ذلك، ولما كان الكفرة الذين يعتقدون أن آلهة غير الله تعالى تستحق العبادة هم المشهورون دون من يعتقد إمكان وجودها بعد اعتبرت الكلمة علما للتوحيد بالنسبة إليهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ويعلم من هذا أنه لو قدر الخبر المحذوف من أول الأمر "موجود" أمكن دفع الإشكال بهذا الطريق أعني متفاهم اللغة وعرف الناس من الأوساط، وأما أن نفي الوجود لا يستلزم نفي الإمكان فلا يلزم من الكلمة الطيبة حينئذ نفي إمكان آلهة غير الله تعالى فمما لا يسبق إلى الأفهام ولا يكاد يوجد كافر يعتقد نفي وجود إله [ ص: 59 ] غيره تعالى مع اعتقاده إمكان وجود إله غيره سبحانه بعد ذلك، ومن الناس من أيد تقدير الخبر كذلك بأن الظاهر أن لا نافية للجنس، ونفي الماهية نفسها بدون اعتبار الوجود واتصافها به كنفي السواد نفسه لا نفي وجوده عنه بعيد، فكما أن جعل الشيء باعتبار الوجود إذ لا معنى لجعل الشيء وتصييره نفسه فكذلك نفيه ورفعه أيضا باعتبار رفع الوجود عنه. وتعقب بأن هذا هو الذي يقتضيه النظر الجليل، وأما النظر الدقيق فقد يحكم بخلافه لأن نفي الماهية باعتبار الوجود ينتهي بالآخرة إلى نفي ماهية ما باعتبار نفسها، وذلك لأن نفي اتصافها بالوجود لا يكون باعتبار اتصاف ذلك الاتصاف به إلى ما لا يتناهى، فلا بد من الانتهاء إلى اتصاف منتف بنفسه لا باعتبار اتصافه بالوجود دفعا للتسلسل، وقيل: الظاهر أن نفي الأعيان كما في الكلمة الطيبة إنما هو باعتبار ذلك، وأما غيرها فتارة وتارة فتدبر، و (إلا ) على التقدير المذكور للاستثناء ورفع الاسم الجليل على ما سمعت من المشهور، وقيل: هي فيه بمعنى "غير" صفة الاسم لا باعتبار المحل أي لا إله غير الله تعالى موجود. واعترض بأن المقصود من الكلام أمران: نفي الألوهية عن غيره تعالى وإثباتها له سبحانه، وهو إنما يتم إذا كانت لا فيه للاستثناء إذ يستفاد النفي والإثبات حينئذ بالمنطوق أما إن كانت بمعنى "غير" فلا يفيد بمنطوقه إلا نفي الألوهية عن غيره تعالى سبحانه وفي كون إثباتها له تعالى بالمفهوم ويكتفى به بحث لأن ذلك إن كان مفهوم لقب فلا عبرة عند القائلين بالمفهوم على الصحيح خلافا للدقاق والصيرفي من الشافعية، وابن خويز منداد من المالكية، ومنصور بن أحمد من الحنابلة، وإن كان مفهوم صفة فمن البين أنه غير مجمع عليه بل أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه لم يقل بشيء من مفاهيم المخالفة أصلا، وأنت تعلم أن ما ذكره من إفادة الكلمة الطيبة إثبات الإلهية لله تعالى ونفيها عما سواه عز وجل على تقدير كون إلا للاستثناء غير مجمع عليه أيضا فإن الاستثناء من النفي ليس بإثبات عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وجعل الإثبات في كلمة التوحيد بعرف الشرع، وفي المفرغ نحو ما قام إلا زيد بالعرف العام، وما له وما عليه في كتب الأصول فلا تغفل، وتمام الكلام فيما يتعلق بإعراب هذه الكلمة الطيبة في كتب العربية، وقد ذكرنا ذلك في تعليقاتنا على شرح السيوطي للألفية، وهي عند السادة الصوفية قدست أسرارهم جامعة لجميع مراتب التوحيد ودالة عليها إما منطوقا أو بالاستلزام، ومراتبه أربع: الأولى توحيد الألوهية. الثانية توحيد الأفعال. الثالثة توحيد الصفات، وإن شئت قلت: توحيد الوجوب الذاتي فإنه يستلزم سائر الصفات الكمالية كما فرعها عليه بعض المحققين. الرابعة توحيد الذات وإن شئت قلت: توحيد الوجود الحقيقي فإن المآل واحد عندهم، وبيان ذلك أن لا إله إلا الله منطوقه. على ما يتبادر إلى الأذهان وذهب إليه المعظم. قصر الألوهية على الله تعالى قصرا حقيقيا أي إثباتها له تعالى بالضرورة ونفيها عن كل ما سواه سبحانه كذلك وهو يستلزم توحيد الأفعال، وتوحيد الصفات، وتوحيد الذات. أما الأول الذي هو قصر الخالقية فيه تعالى فلأن مقتضى قصر الألوهية عليه تعالى قصرا حقيقيا هو أن الله عز وجل هو الذي يستحق أن يعبده كل مخلوق فهو النافع الضار على الإطلاق فهو سبحانه وتعالى الخالق لكل شيء فإن كل من لا يكون خالقا لكل شيء لا يكون نافعا ضارا على الإطلاق، وكل من لا يكون كذلك لا يستحق أن يعبده كل مخلوق لأن العبادة هي الطاعة والانقياد والخضوع ومن لا يملك نفعا ولا ضرا بالنسبة إلى بعض المخلوقين لا يستحق أن يعبده ذلك البعض ويطيعه وينقاد له، فإن من لا يقدر على إيصال نفع إلى شخص أو دفع ضر عنه لا يرجوه، ومن لا يقدر على إيصال ضر إليه لا يخافه، وكل من لا يخاف ولا يرجى أصلا لا يستحق أن يعبد وهو ظاهر لكن الذي يقتضيه قصر الألوهية عليه تعالى قصرا حقيقيا هو أن الله تعالى هو الذي يستحق أن يعبده كل مخلوق فهو النافع الضار [ ص: 60 ] على الإطلاق فهو الخالق لكل شيء وهو المطلوب، وأما الثاني فلأن الكلمة الطيبة تدل على أن الألوهية ثابتة له تعالى ثبوتا مستمرا ممتنع الانفكاك ومنتفية عن غيره انتفاء كذلك، وكل ما كان كذلك فهي دالة على أنه عز وجل واجب الوجود، وأن كل موجود سواه تعالى ممكن الوجود، وكل ما كان كذلك كان وجوب الوجود مقصورا عليه تعالى وهو مستلزم لسائر صفات الكمال وهو المطلوب، أما دلالتها على أنه عز وجل واجب الوجود فلأن الألوهية لا تكون إلا لموجود حقيقة اتفاقا، وكل ما لا يكون صفة إلا لموجود إذا دل كلام على أنه ثابت لشيء ثبوتا ممتنع الانفكاك سرمدا فقد دل على أن الوجود ثابت لذلك الشيء ثبوتا ممتنع الانفكاك سرمدا، ولا يكون كذلك إلا إذا كان موجودا لذاته وهو المعني بواجب الوجود لذاته، وحيث دلت على ثبوت الألوهية ثبوتا مستمرا ممتنع الانفكاك فقد دلت على وجوب وجوده تعالى وهو مستلزم لسائر صفات الكمال وهو المطلوب.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما دلالتها على أن كل موجود سواه فهو ممكن الوجود فلأن موجودا ما سواه لو كان واجب الوجود لذاته لكان مستحقا أن يعبد لكنها قد دلت على أنه لا يستحق أن يعبد إلا الله فقد دلت على أنه لا واجبا وجوده لذاته إلا الله تعالى فكل ما سواه فهو ممكن وهو المطلوب، أو يقال: إنها قد دلت على أنه تعالى هو النافع الضار على الإطلاق فهو الجامع لصفات الجلال والإكرام فهو سبحانه المتصف بصفات الكمال كلها وهو المطلوب.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الثالث فقد قال حجة الإسلام الغزالي في باب الصدق من الإحياء: كل ما تقيد العبد به فهو عبد له كما قال عيسى عليه السلام: يا عبيد الدنيا . وقال نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم: (تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم وعبد الحلة وعبد الخميصة) سمي كل من تقيد قلبه بشيء عبدا له، وقال في باب الزهد منه: من طلب غير الله تعالى فقد عبده وكل مطلوب معبود، وكل طالب عبد بالإضافة إلى مطلبه، وقال في الباب الثالث من كتاب العلم منه. كل متبع هواه فقد اتخذ هواه معبودا قال تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه

                                                                                                                                                                                                                                      وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: (أبغض إله عبد في الأرض عند الله تعالى هو الهوى) انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن المعلوم أنه ما في الوجود شيء إلا وهو مطلوب لطالب ما وقد صح بما مر إطلاق الإله عليه ولا إله إلا الله فما في الوجود حقيقة إلا الله ومنهم من قرر دلالة الكلمة الطيبة على توحيد الذات ونفي وجود أحد سواه عز وجل بوجه آخر، وهو أن ( إلا ) بمعنى "غير" بدل من الإله المنفي فيكون النفي في الحقيقة متوجها إلى الغير ونفي الغير توحيد حقيقي عندهم. وإذا تبين لك دلالتها على جميع مراتل التوحيد لاح لك أن الشارع لأمر ما جعلها مفتاح الإسلام وأساس الدين ومهداة الأنام:

                                                                                                                                                                                                                                      وفي حديث أخرجه أبو نعيم عن عياض الأشعري أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (لا إله إلا الله كلمة كريمة ولها عند الله مكان جمعت وسولت، من قالها صادقا من قلبه دخل الجنة).

                                                                                                                                                                                                                                      وفي حديث أخرجه ابن النجار عن دينار عن أنس أنه عليه الصلاة والسلام قال: (لا إله إلا الله كلمة عظيمة كريمة على الله تعالى من قالها مخلصا استوجب الجنة).

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال: (قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة).

                                                                                                                                                                                                                                      وحديث البطاقة أشهر من أن يذكر، وكذا الحديث القدسي المروي عن علي الرضا عن آبائه عليهم السلام، وجاء (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله [ ص: 61 ] دخل الجنة).

                                                                                                                                                                                                                                      أي بلا حساب وإلا فما الفرق بين ذلك ومن قالها ولم تكن آخر كلامه من الدنيا، وبالجملة إن فضلها لا يحصى وإنها لتوصل قائلها إلى المقام الأقصى، وقد ألفت كتب في فضلها وكيفية النطق بها وآداب استعمالها فلا نطيل الكلام في ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      بقي هاهنا بحث وهو أن المسلمين أجمعوا على وجوب معرفة الله تعالى وإن اختلفوا في كونه شرعيا أو عقليا، وأما النظر في معرفته تعالى لأجل حصولها بقدر الطاقة البشرية فقد قال العلامة التفتازاني في شرح المقاصد: لا خلاف بين أهل الإسلام في وجوبه لأنه أمر مقدور يتوقف عليه الواجب المطلق الذي هو المعرفة، وكل مقدور يتوقف عليه الواجب المطلق فهو واجب شرعا إن كان وجوب الواجب المطلق شرعيا كما هو رأي الأصحاب وعقلا إن كان عقليا كما هو رأي المعتزلة لئلا يلزم تكليف المحال، أما كون النظر مقدورا فظاهر، وأما توقف المعرفة عليه فلأنها ليست بضرورية بل نظرية، ولا معنى للنظري إلا ما يتوقف على النظر ويتحصل به، وظاهر كلام السند في شرح المواقف إجماع المسلمين كافة على ذلك أيضا. والحق وقوع الخلاف في وجوب النظر كما يدل عليه كلام ابن الحاجب في مختصره، والعضد في شرحه، وكلام التاج السبكي في جمع الجوامع، والجلال المحلي في شرحه، وقول شيخ الإسلام في حاشيته عليه: محل الخلاف في وجوب النظر في أصول الدين وعدم وجوبه في غير معرفة الله تعالى منها أما النظر فيها فواجب إجماعا كما ذكره السعد التفتازاني كغيره اعترضه المحقق ابن قاسم العبادي في حاشيته الآيات البينات بقوله: إن الظاهر أن ما نقله السعد من الإجماع على وجوب النظر في معرفة الله تعالى غير مسلم عند الشارح وغيره، ألا ترى إلى تمثيل الشارح لمحل الخلاف بقوله: كحدوث العالم ووجود الباري تعالى وما يجب له جل شأنه وما يمتنع عليه سبحانه من الصفات فإن قوله: ووجود الباري تعالى إلخ يتعلق بمعرفته عز وجل إلى آخر ما قال. نعم قال كثير ورجحه الإمام الرازي والآمدي: إنه يجب النظر في مسائل الاعتقاد ومعرفة الله تعالى أسها فيجب فيها بالأولى، وقالوا في ذلك لأن المطلوب اليقين لقوله تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم فاعلم أنه لا إله إلا الله وقد علم ذلك، وقال تعالى للناس: واتبعوه لعلكم تهتدون ويقاس غير الوحدانية عليها، ولا يتم الاستدلال إلا بضم توقف حصول اليقين على النظر. وهؤلاء لم يجوزوا التقليد في الأصول وهو أحد أقوال في المسألة. ثانيها قول العنبري: إنه يجوز التقليد فيها بالعقد الجازم ولا يجب النظر لها لأنه عليه الصلاة والسلام كان يكتفي في الإيمان بالعقد الجازم ويقاس غير الإيمان عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد أنه عليه الصلاة والسلام كان يكتفي بذلك نظرا إلى ظاهر الحال فإن الخبر كما صرح به المحقق عيسى الصفوي في شرحه للفوائد الغياثية على ما نقله عنه تلميذه ابن قاسم العبادي في الآيات البينات دال وضعا على صورة ذهنية على وجه الإذعان تحكي الحال الواقعية، ولا شك أن لا إله إلا الله محمد رسول الله من قسم الخبر فهما دالان وضعا على أن قائلهما ولو تحت ظلال السيف معتقد لمضمونهما على وجه الإذعان، وعدم كونه معتقدا في نفس الأمر احتمال عقلي، والمطلع على ما في القلوب علام الغيوب. وثالث الأقوال: إنه يجب التقليد بالعقد الجازم ويحرك النظر لأنه مظنة الوقوع في الشبه والضلال لاختلاف الأذهان بخلاف التقليد وهذا ليس بشيء أصلا. والذي أوجب النظر من المحققين لم يرد به النظر على طريق المتكلمين بل صرح كما في الجواب العتيد للكوراني بأن المعتبر هو النظر على طريق العامة، والظاهر أنه ليس مظنة الوقوع فيما ذكر، وهل القائل بوجوبه من أولئك جاعل له شرطا لصحة الإيمان أم لا ففيه خلاف. فيفهم من بعض [ ص: 62 ] عبارات شرح الأربعين لابن حجر أنه جاعل له كذلك فلا يصح إيمان المقلد عنده، بل يفهم منها أن النظر المعتبر عند ذلك هو النظر على طريق المتكلمين، وكلام الجلال المحلي في شرح جمع الجوامع صريح في أن القائلين بوجوب النظر غير أبي هاشم ليسوا جاعلين النظر شرطا لصحة الإيمان ولا زاعمين بطلان إيمان المقلد بل هو صحيح عندهم مع الإثم بترك النظر الواجب. نعم سيأتي إن شاء الله تعالى نقل الإمام حجة الإسلام في كتابه فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة نقل الاشتراط عن طائفة من المتكلمين مع رده.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما ما نقل عن الشيخ الأشعري من الاشتراط وأنه لا يصح إيمان المقلد فكذب عليه كما قاله الأستاذ أبو القاسم القشيري، وقال التاج السبكي: التحقيق أنه إن كان التقليد أخذا بقول الغير بغير حجة مع احتمال شك أو وهم فلا يكفي، وإن كان جزما فيكفي خلافا لأبي هاشم. والظاهر أن القائل بكفاية التقليد مع الجزم يمنع القول بأن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر ويقول: إنها قد تحصل بالإلهام أو التعليم أو التصفية، فمن حصل له العقد الجازم بما يجب عليه اعتقاده فقد صح إيمانه من غير إثم لحصول المقصود، ومن لم يحصل له ذلك ابتداء أو تقليدا أو ضرورة فالنظر عليه متعين ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها .

                                                                                                                                                                                                                                      ويكفي دليلا للصحة اكتفاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم من عوام العجم كأجلاف العرب وإن أسلم أحدهم تحت ظل السيف بمجرد الإقرار بلا إله إلا الله محمد رسول الله الدال بحسب ظاهر حالهم على أنهم يعتقدون مضمون ذلك ويذعنون له، ولو كان الاستدلال فرضا لأمروا به بعد النطق بالكلمتين أو علموا الدليل ولقنوه كما لقنوهما وكما علموا سائر الواجبات، ولو وقع ذلك لنقل إلينا فإنه من أهم مهمات الدين، ولم ينقل أنهم أمروا أحدا منهم أسلم بترديد نظر ولا سألوه عن دليل تصديقه ولا أرجؤوا أمره حتى ينظر فلو كان النظر واجبا على الأعيان ولو إجماليا على طريق العامة لما اكتفى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من أولئك العوام والأجلاف بمجرد الإقرار لأن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه لا يقرون أحدا على ترك فرض العين من غير عذر، فلا يكون تاركه آثما فضلا عن أن يكون بتركه غير صحيح الإيمان، ويشهد لذلك ما قاله صلى الله تعالى عليه وسلم لأسامة بن زيد عند اعتذاره عن قتل مرداس بن نهيك من أهل فدك وغيره من الأخبار الكثيرة. وما في المواقف والمقاصد وشرح المختصر العضدي وغيرها من كتب الكلام والأصول من أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه كانوا يعلمون أنهم- أي العوام- وأجلاف العرب يعلمون الأدلة إجمالا كما قال الأعرابي: البعرة تدل على البعير وأثر الأقدام على المسير أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج لا تدل على اللطيف الخبير أي فلذلك لم يلزموهم النظر ولا سألوهم عنه ولا أرجؤوا أمرهم وكل ما كان كذلك لم يكن اكتفاؤهم بمجرد الإقرار دليلا على أن النظر ليس واجبا على الأعيان ولا على أن تاركه غير آثم دعوى لا دليل عليها، وحكاية الأعرابي إن كانت مسوقة للاستدلال لا تدل غاية ما في الباب أن ذلك الأعرابي كان عالما بدليل إجمالي، ولا يلزم منه أن جميع الأجلاف والعوام كانوا عالمين بالأدلة الإجمالية في عهد النبوة وغيره وإلا لكانت حجة على أنه لا مقلد في الوجود، على أن بعضهم أسند ذلك القول إلى قس بن ساعدة وكان في الفترة. والجلال المحلي ذكره لأعرابي قاله في جواب الأصمعي وكان في زمن الرشيد بل قد يقال: إن ظاهر كثير من الآيات والأخبار يدل على أن كثيرا من المشركين في عهده عليه الصلاة والسلام لم يكونوا عالمين بأدلة التوحيد مطلقا، وذلك كقوله تعالى حكاية عنهم:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 63 ] أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب . إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أإنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون وقول بعضهم في بعض الحروب: اعل هبل اعل هبل وما ذكره المحقق العضد في شرح المختصر من الدليل على عدم جواز التقليد حيث قال: إن الأمة أجمعوا على وجوب معرفة الله تعالى وأنها لا تحصل بالتقليد لثلاثة أوجه: أحدها أنه يجوز الكذب على المخبر فلا يحصل بقوله العلم. ثانيها أنه لو أفاد العلم لأفاده بنحو حدوث العالم من المسائل المختلف فيها فإذا قلد واحد في الحدوث والآخر في القدم كانا عالمين بهما فيلزم حقيقتهما وأنه محال. ثالثها أن التقليد لو حصل العلم فالعلم بأنه صدق فيما أخبر به إما أن يكون ضروريا أو نظريا لا سبيل إلا الأول بالضرورة فلا بد له من دليل والمفروض أنه لا دليل إذ لو علم صدقه بدليله لم يبق تقليدا. تعقبه العلامة الكوراني فقال: فيه بحث، أما في الوجه الأول فلأن من جوز التقليد مثل المقلد بمن نشأ على شاهق جبل ولم ينظر في ملكوت السماوات والأرض وأخبره غيره بما يلزمه اعتقاده وصدقه بمجرد إخباره من غير تفكر وتدبر وهو صريح في أن الكلام في مقلد أخبره غيره بما يلزمه اعتقاده وما يلزمه اعتقاده لا يكون إلا صدقا فإن الكذب لا يلزم أحدا اعتقاده، وأما من أخبر بالأكاذيب فاعتقدها فهو لم يعتقد إلا أكاذيب والأكاذيب ليس من معرفة الله تعالى في شيء فكيف يحكم عليه أحد من العقلاء بأنه مؤمن بالله تعالى عارف به مع أنه لم يعتقد إلا الأكاذيب وهو ظاهر، وأما في الوجه الثاني فلمثل ما مر لأنا لا نقول: إن كل تقليد مفيد للعلم ولا أن كل مقلد عالم كيف وليس كل نظر مفيدا للعلم ولا كل ناظر مصيبا، فإذا لم يكن النظر موجبا للعلم مطلقا وإنما الموجب النظر الصحيح فكذلك نقول: ليس كل تقليد مفيدا للعلم وإنما المفيد التقليد الصحيح، وهو أن يقلد عالما بمسائل معرفة الله تعالى صادقا فيما يخبره به فإن الكلام إنما هو في صحة إيمان مثل هذا المقلد لا مطلقا، وأما في الثالث فلأنا نختار أن علمه بأنه صدق فيما أخبر به ضروري قولكم لا سبيل إليه بالضرورة قلنا: ممنوع لقوله تعالى: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد روي مرفوعا أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن شرح الصدر فقال عليه الصلاة والسلام: (نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينفسح) فصرح صلى الله عليه وسلم بأنه نور لا يحصل من دليل وإنما يقذفه الله تعالى في قلبه فلا يقدر على دفعه من غير فكر ولا روية ولا نظر ولا استدلال، وقد صرح بعض أكابر المحققين بأن توحيد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن علم ضروري وجدوه في نفوسهم لم يقدروا على دفعه وبأن من أهل الفترة من وجد كذلك بل قد صرح بأن الإيمان علم ضروري يجده المؤمن في قلبه لا يقدر على دفعه فكم من آمن بلا دليل ومن لم يؤمن مع الدليل، وقلما يوثق بإيمان من آمن عن دليل فإنه معرض للشبه القادحة فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الباب المائة والاثنين والسبعين والمائة والسابع والسبعين والمائتين والسابع والسبعين من الفتوحات المكية ما يؤيد ذلك، وقال الإمام حجة الإسلام في فيصل التفرقة: من أشد الناس غلوا وانحرافا طائفة من المتكلمين كفروا عوام المسلمين وزعموا أن من لا يعرف الكلام معرفتنا ولم يعرف الأدلة الشرعية بأدلتنا التي حررناها فهو كافر فهؤلاء ضيقوا رحمة الله تعالى الواسعة على عباده أولا، وجعلوا الجنة وقفا على شرذمة يسيرة من المتكلمين، ثم جهلوا ما تواترت به السنة ثانيا إذ ظهر من عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين حكمهم بإسلام طوائف من أجلاف العرب كانوا مشغولين بعبادة الوثن ولم يشتغلوا بتعليم الدلائل ولو اشتغلوا بها لم يفهموها، ومن ظن أن مدرك الإيمان الكلام والأدلة المحررة والتقسيمات المرتبة فقد أبعد، لا بل الإيمان نور يقذفه الله تعالى في قلب عبده عطية وهداية من عنده، تارة بتنبه في الباطن لا يمكن التعبير [ ص: 64 ] عنه، وتارة بسبب رؤيا في المنام، وتارة بمشاهدة حال رجل متدين وسراية نوره إليه عند صحبته ومجالسته، وتارة بقرينة حال، فقد جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاحدا له منكرا، فلما وقع بصره على طلعته البهية وغرته الغريرة السنية فرآها يتلألأ منها نور النبوة قال: والله ما هذا وجه كذاب، وسأله أن يعرض عليه الإسلام فأسلم، وجاء آخر فقال: أنشدك الله بعثك الله نبيا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بلى إني والله الله بعثني نبيا فصدقه بيمينه وأسلم، فهذا وأمثاله أكثر من أن يحصى ولم يشتغل واحد منهم قط بالكلام وتعلم الأدلة بل كان تبدو أنوار الإيمان أولا بمثل هذه القرائن في قلوبهم لمعة بيضاء ثم لا تزال تزداد وضوحا وإشراقا بمشاهدة تلك الأحوال العظيمة وبتلاوة القرآن وتصفية القلوب، وليت شعري من نقل عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعن الصحابة إحضاره أعرابيا أسلم وقوله الدليل على أن العالم حادث لأنه لا يخلو عن الأعراض وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، وإن الله تعالى عالم بعلم وقادر بقدرة كلاهما زائد على الذات لا هو ولا غيره إلى غير ذلك من رسوم المتكلمين، ولست أقول: لم تجر هذه الألفاظ بل لم يجر أيضا ما معناه معنى هذه الألفاظ بل كان لا تنكشف ملحمة إلا عن جماعة من الأجلاف يسلمون تحت ظلال السيوف وجماعة من الأسارى يسلمون واحدا واحدا بعد طول الزمان أو على القرب وكانوا إذا نطقوا بكلمة الشهادة علموا الصلاة والزكاة وردوا إلى صناعتهم من رعاية الغنم أو غيرها. نعم لست أنكر أنه يجوز أن يكون ذكر أدلة المتكلمين أحد أسباب الإيمان في حق بعض الناس ولكن ذلك ليس بمقصور عليه وهو نادر أيضا وساق الكلام إلى أن قال: والحق الصريح أن كل من اعتقد أن ما جاء به الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم واشتمل عليه القرآن حق اعتقادا جزما فهو مؤمن وإن لم يعرف أدلته، فالإيمان المستعار من الدلائل الكلامية ضعيف جدا مشرف على التزلزل بكل شبهة بل الإيمان الراسخ إيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصبا بتواتر السماع والحاصل بعد البلوغ بقرائن لا يمكن العبارة عنها اهـ.

                                                                                                                                                                                                                                      وفيه فوائد شتى ولذا نقلناه بطوله، ومتى جاز أن يقذف الله تعالى في قلوب العبد نور الإيمان فيؤمن بلا نظر واستدلال جاز أن يقذف سبحانه في قلبه صدق المخبر بحيث لا يقدر على دفعه ولا يدري أنه من أين جاء لا سيما إذا كان المخبر هو النبي صلى الله عليه وسلم، فإن من لازم قذف نور الإيمان في قلب المؤمن به عليه الصلاة والسلام أن يقذف في قلبه صدقه صلى الله عليه وسلم لأن الإيمان لا يتم إلا بذلك، فقد ظهر أن دعوى الضرورة في أنه لا سبيل إلى العلم بصدق المخبر فيما أخبر به علما ضروريا إن لم تكن مكابرة فمنعها ليس مكابرة أيضا، فإن الدليل قد قام على جواز حصول العلم الضروري بصدقه بل على وقوعه فليست تلك الدعوى من المقدمات الضرورية التي يكون منعها مكابرة غير مسموعة، وقد اتضح من جميع ما ذكر أن ما قاله السعد في شرح المقاصد من أن الحق أن المعرفة بدليل إجمالي يرفع الناظر من حضيض التقليد فرض عين لا مخرج عنه لأحد من المكلفين وبدليل تفصيلي يتمكن معه من إزاحة الشبه وإلزام المنكرين وإرشاد المسترشدين فرض كفاية لا بد من أن يقوم به البعض لا يخلو عن نظر على ما قيل، لكن الظاهر عندي أن الحق مع السعد من جهة أن الإيمان بمعنى التصديق مكلف به وشرط المكلف به كونه اختياريا، وقد صرحوا أن التكليف بما ليس باختياري تكليف في الحقيقة بما يتوقف عليه من الأمور الاختيارية وإن التصديق نفسه لكونه غير اختياري كان التكليف به في الحقيقة تكليفا بما يتوقف هو عليه من النظر الاختياري، فالإيمان الذي يحصل بقذفه تعالى النور في القلب من غير فكر ولا روية ولا نظر ولا استدلال ليس اختياريا بنفسه ولا باعتبار ما يحصل هو منه فكيف يكون مكلفا به، وما مراد السعد ومن [ ص: 65 ] وافقه بالمعرفة إلا المعرفة من حيث إنها مكلف بها كما يشير إليه قوله: لا مخرج عنه لأحد من المكلفين، وكون ذلك مكلفا به باعتبار أمر اختياري غير النظر كتحصيل الاستعداد لإفاضة النور، وخلق العلم الضروري في قلب العبد غير ظاهر. نعم لست أنكر أن من المعرفة ما لا يتوقف على نظر في دليل إجمالي أو غيره كمعرفة الأنبياء عليهم السلام على ما سمعت عن بعضهم، وكمعرفة من شاء الله تعالى من عباده سبحانه غيرهم ولا أسمي نحو هذه المعرفة تقليدية، وكذا لا أنكر أن المعرفة الحاصلة من قذف النور فوق المعرفة الحاصلة من النظر في الدليل فإنها يخشى عليها من عواصف الشبه، وأذهب إلى أن النظر في الدليل مطلقا واجب على من لم يحصل له العقد الجازم إلا به، وأما من حصل له ذلك بأي طريق كان دونه فلا يجب عليه وكذا لا يأثم بتركه، وحكاية الإجماع على إثمه به لا يخفى ما فيها، وتوجيه ذلك بأن جزم المؤمن حينئذ لا ثقة به إذ لو عرضت له شبهة فات وبقي مترددا بخلاف الجزم الناشئ عن الاستدلال فإنه لا يفوت بذلك غير ظاهر لأنه إذا سلم أن من تم جزمه من غير نظر فقد أتى بواجب الإيمان فلا وجه لتأثيمه بترك النظر بناء على مجرد احتمال عروض شبهة مشوشة لجزمه لأنه إذا سلم أن الواجب عليه ليس إلا أن يجزم وقد جزم فقد أدى واجب الوقت وما ترك منه شيئا، وكل من لم يترك واجبا معينا في وقت معين لا معنى لتأثيمه في ذلك الوقت من جهة ذلك الواجب، وكما يحتمل عقلا أن تعرض له شبهة تشوش عليه الجزم لعدم الدليل كذلك يحتمل عقلا أن يحصل له الدليل على ما جزم قبل عروض شبهة ولعل هذا الاحتمال أقوى وأقرب إلى الوقوع.

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا أحطت خبرا بجميع ما ذكرنا علمت أن الاستدلال بقوله تعالى: فاعلم أنه لا إله إلا الله على وجوب النظر فيه نظر لتوقفه على صحة قولهم: إن العلم لا يحصل إلا بالنظر وقد سمعت ما فيه. ويقوي ذلك إذا قلنا: إن علمه صلى الله تعالى عليه وسلم بالوحدانية ضروري إذ يكون المراد الأمر بالثبات والاستمرار على ما هو صلى الله تعالى عليه وسلم فيه من اجتناب ما يخل بالعلم، وقد يقال: يجوز أن يكون الاستدلال نظرا إلى ظاهر اللفظ من حيث إنه أمر بالعلم بالوحدانية فلا بد أن يكون مقدورا بنفسه أو باعتبار ما يحصل هو منه، وحيث انتفى كونه مقدورا بنفسه تعين كونه مقدورا باعتبار ما يحصل هو منه، والظاهر أنه النظر.

                                                                                                                                                                                                                                      وأنت تعلم أنه إن كان التقليد سببا من أسباب العلم أيضا لم يتم هذا وإن لم يكن سببا تم فتأمل، ثم اعلم أن النظر الذي قالوا به في الأصول الاعتقادية أعم من النظر في الأدلة العقلية والنظر في الأدلة السمعية، فإن منها ما ثبت بالسمع كالأمور الأخروية ومدخل العقل فيها ليس إلا بأنها أمور ممكنة أخبر الصادق بوقوعها وكل ممكن أخبر الصادق بوقوعه واقع فتلك الأمور واقعة، وأما النظر في معرفة الله تعالى أعني التصديق بوجوده تعالى وصفاته العلا. فقيل: يتعين أن يكون المراد به النظر في الأدلة العقلية فقط، ولا يجوز أن يكون النظر في الأدلة السمعية طريقها إليه لاستلزامه الدور. وفي الجواب العتيد الدور لازم لكن لا مطلقا بل بالنسبة إلى كل مطلوب يتوقف العلم بصدق الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم على العلم به، وذلك لأن النظر في الأدلة السمعية إنما يكون طريقا إلى المعرفة إذا كانت صادقة عند الناظر فيها، وصدقها في علم الناظر موقوف على علمه بأن هذا الذي يدعي أنه رسول الله الذي جاء بها صادقا في دعواه الرسالة. وعلمه بذلك [ ص: 66 ] موقوف على العلم بأن الله تعالى قد أظهر المعجزات على يده تصديقا له في دعواه، وعلمه بذلك موقوف على العلم بأن ثمت إلها على صفة يمكن بها أن يبعث رسولا ككونه حيا عالما مريدا قادرا وهو من معرفة الإله سبحانه، فلو استفدنا العلم بوجود الله تعالى وبتلك الصفات من الدلائل السمعية الموقوفة على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام لزم الدور كما ترى. نعم إذا قيل: إن المكلف بعد ما آمن بالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم واعتقد اعتقادا جازما بصدقه في جميع ما جاء به من عند الله تعالى بأي وجه كان ذلك الجزم بالضرورة أو بالنظر أو بالتقليد فله أن يأخذ عقيدته من القرآن من غير تأويل ولا ميل من غير أن ينظر في دليل عقلي كان ذلك كلاما صحيحا لا غبار عليه، ولا يلزم منه تحصيل للحاصل بالنسبة إلى ما حصله أولا من المسائل التي يتوقف عليها صدق الرسول عليه الصلاة والسلام لأن التحصيل الثاني من حيث إن الجائي بدلائلها صادق فيها والتحصيل الأول كان بالنظر العقلي من غير اعتبار صدق الرسول عليه الصلاة والسلام فاختلفت الحيثية فليفهم والله تعالى أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      والله يعلم متقلبكم في الدنيا ومثواكم في الآخرة، وخص المتقلب بالدنيا والمثوى بالآخرة لأن كل أحد متحرك في الدنيا دائما نحو معاده غير قاد وفي الآخرة مقيم لا حركة له نحو دار وراءها، والمراد من علمه تعالى بذلك تحذيرهم من جزائه وعقابه سبحانه أو الترغيب في امتثال ما يأمرهم جل شأنه به والترهيب عما ينهاهم عز وجل عنه على طريق الكناية. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: متقلبكم تصرفكم في حياتكم الدنيا ومثواكم في قبوركم وآخرتكم، وقال عكرمة : متقلبكم في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ومثواكم إقامتكم في الأرض وقال الطبري وغيره: متقلبكم تصرفكم في يقظتكم ومثواكم منامكم، وقيل: متقلبكم في معايشكم ومتاجركم ومثواكم حيث تستقرون من منازلكم، وقيل: متقلبكم في أعمالكم ومثواكم من الجنة والنار.

                                                                                                                                                                                                                                      واختار أبو حيان عمومهما في كل متقلب وفي كل إقامة، ونحوه ما قيل: المراد يعلم جميع أحوالكم فلا يخفى عليه سبحانه شيء منها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن عباس (منقلبكم) بالنون.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية