الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        إنكم لذائقو العذاب الأليم وما تجزون إلا ما كنتم تعملون إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرمون في جنات النعيم على سرر متقابلين يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون وعندهم قاصرات الطرف عين كأنهن بيض مكنون

                                                                                                                                                                                                                                        قوله عز وجل: يطاف عليهم بكأس من معين أي من خمر معين وفيه ثلاثة أوجه:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها: أنه الجاري; قاله الضحاك .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: الذي لا ينقطع ، حكاه جويبر.

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: أنه الذي لم يعصر، قاله سعيد بن أبي عروبة.

                                                                                                                                                                                                                                        ويحتمل رابعا: أنه الخمر بعينه الذي لم يمزج بغيره.

                                                                                                                                                                                                                                        وفي المعين من الماء خمسة أوجه:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها: أنه الظاهر للعين ، قاله الكلبي .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: ما مدته العيون فاتصل ولم ينقطع ، قاله الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: أنه الشديد الجري من قولهم أمعن في كذا إذا اشتد دخوله فيه.

                                                                                                                                                                                                                                        الرابع: أنه الكثير مأخوذ من المعين وهو الشيء الكثير.

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 47 ] الخامس: أنه المنتفع به مأخوذ من الماعون ، قاله الفراء.

                                                                                                                                                                                                                                        بيضاء لذة للشاربين يعني أن خمر الجنة بيضاء اللون ، وهي في قراءة ابن مسعود "صفراء".

                                                                                                                                                                                                                                        ويحتمل أن تكون بيضاء الكأس صفراء اللون فيكون اختلاف لونهما في منظرهما قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                        فكأن بهجتها وبهجة كأسها نار ونور قيدا بوعاء.

                                                                                                                                                                                                                                        قوله عز وجل: لا فيها غول فيه خمسة تأويلات:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها: أي ليس فيها صداع، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: ليس فيها وجع البطن، قاله مجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: ليس فيها أذى، قاله الفراء وعكرمة وهذه الثلاثة متقاربة لاشتقاق الغول من الغائلة.

                                                                                                                                                                                                                                        الرابع: ليس فيها إثم، قاله الكلبي .

                                                                                                                                                                                                                                        الخامس: أنها لا تغتال عقولهم، قاله السدي وأبو عبيدة ، ومنه قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                        وهذا من الغيلة أن     يصرع واحد واحدا

                                                                                                                                                                                                                                        ولا هم عنها ينزفون فيه ثلاثة تأويلات:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها: لا تنزف العقل ولا تذهب الحلم بالسكر، قاله عطاء، ومنه قول الشاعر:

                                                                                                                                                                                                                                        لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم     لبئس الندامى كنتم آل أبجرا

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: لا يبولون ، قاله ابن عباس ، وحكى الضحاك عنه أنه قال: في الخمر أربع خصال: السكر والصداع والقيء والبول ، فذكر الله تعالى خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال.

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: أي لا تفنى مأخوذ من نزف الركية، قاله أبو عمرو بن العلاء، ومنه قول الشاعر:

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 48 ]

                                                                                                                                                                                                                                        دعيني لا أبا لك أن تطيقي     لحاك الله قد أنزفت ريقي

                                                                                                                                                                                                                                        وقد يختلف هذا التأويل باختلاف القراءة ، فقرأ حمزة والكسائي، ينزفون بكسر الزاي، وقرأ الباقون ينزفون بفتح الزاي، والفرق بينهما أن الفتح من نزف فهو منزوف إذا ذهب عقله بالسكر، والكسر من أنزف فهو منزوف إذا فنيت خمره ، وإنما صرف الله تعالى السكر عن أهل الجنة لئلا ينقطع عنهم التذاذ نعيمهم.

                                                                                                                                                                                                                                        قوله عز وجل: وعندهم قاصرات الطرف عين يعني بقاصرات الطرف النساء اللاتي قصرن أطرافهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم مأخوذ من قولهم: قد اقتصر على كذا إذا اقتنع به وعدل عن غيره ، قال امرؤ القيس:


                                                                                                                                                                                                                                        من القاصرات الطرف لو دب محول     من الذر فوق الخد منها لأثرا

                                                                                                                                                                                                                                        وفي العين وجهان:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: الحسان العيون ، قاله مجاهد ومقاتل.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: العظام الأعين ، قاله الأخفش وقطرب.

                                                                                                                                                                                                                                        كأنهن بيض مكنون

                                                                                                                                                                                                                                        فيه وجهان:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: يعني اللؤلؤ في صدفه ، قاله ابن عباس ، ومنه قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                        وهي بيضاء مثل لؤلؤة الغوا     ص ميزت من جوهر مكنون

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: يعني البيض المعروف في قشره، والمكنون المصون.

                                                                                                                                                                                                                                        وفي تشبيههم بالبيض المكنون أربعة أوجه:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها: تشبيها ببيض النعام يكن بالريش من الغبار والريح فهو أبيض إلى الصفرة، قاله الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: تشبيها ببطن البيض إذا لم تمسه يد، قاله سعيد بن جبير .

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 49 ] الثالث: تشبيها ببياض البيض حين ينزع قشره، قاله السدي .

                                                                                                                                                                                                                                        الرابع: تشبيها بالسحاء الذي يكون بين القشرة العليا ولباب البيض ، قاله عطاء.

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية