الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم [ ص: 505 ] للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يعني بالمهاجرين من هاجر عن وطنه من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار هجرته وهي المدينة خوفا من أذى قومه ورغبة في نصرة نبيه فهم المقدمون في الإسلام على جميع أهله. يبتغون فضلا من الله ورضوانا يعني فضلا من عطاء الله في الدنيا ، ورضوانا من ثوابه في الآخرة.

                                                                                                                                                                                                                                        ويحتمل وجها ثانيا: أن الفضل الكفاية ، والرضوان القناعة. وروى علي بن رباح اللخمي أن عمر بن الخطاب خطب بالجابية فقال: من أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت ، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل ، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني فإن الله تعالى جعلني خازنا وقاسما ، إني بادئ بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فمعطيهن ، ثم بالمهاجرين الأولين أنا وأصحابي أخرجنا من مكة من ديارنا وأموالنا. قال قتادة : لأنهم اختاروا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على ما كانت من شدة ، حتى ذكر لنا أن الرجل كان يعصب على بطنه الحجر ليقيم صلبه من الجوع ، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها. والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم ويكون على التقديم والتأخير ومعناه تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أن الكلام على ظاهره ومعناه أنهم تبوءوا الدار والإيمان قبل الهجرة إليهم يعني بقبولهم ومواساتهم بأموالهم ومساكنهم. يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا فيه وجهان:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: غيرة وحسدا على ما قدموا به من تفضيل وتقريب ، وهو محتمل.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: يعني حسدا على ما خصوا به من مال الفيء وغيره فلا يحسدونهم عليه ، قاله الحسن . ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة يعني يفضلونهم ويقدمونهم [ ص: 506 ] على أنفسهم ولو كان بهم فاقة وحاجة ، ومنه قول الشاعر


                                                                                                                                                                                                                                        أما الربيع إذا تكون خصاصة عاش السقيم به وأثرى المقتر

                                                                                                                                                                                                                                        وفي إيثارهم وجهان:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: أنهم آثروا على أنفسهم بما حصل من فيء وغنيمة حتى قسمت في المهاجرين دونهم ، قاله مجاهد ، وابن حيان. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم على المهاجرين ما أفاء الله من النضير ونفل من قريظة على أن يرد المهاجرون على الأنصار ما كانوا أعطوهم من أموالهم فقالت الأنصار بل نقيم لهم من أموالنا ونؤثرهم بالفيء ، فأنزل الله هذه الآية.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنهم آثروا المهاجرين بأموالهم وواسوهم بها. روى ابن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: (إن إخوانكم تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم فقالوا: أموالنا بينهم قطائع ، فقال: (أو غير ذلك فقالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ فقال: (هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم التمر يعني مما صار إليهم من نخيل بني النضير ، قالوا نعم يا رسول الله. ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون فيه ثماينة أقاويل:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها: أن هذا الشح هو أن يشح بما في أيدي الناس يحب أن يكون له ولا يقنع ، قاله ابن جريج وطاوس.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنه منع الزكاة، قاله ابن جبير.

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: يعني هوى نفسه، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                        الرابع: أنه اكتساب الحرام، روى الأسود عن ابن مسعود أن رجلا أتاه فقال: إني أخاف أن أكون قد هلكت ، قال وما ذاك؟ قال سمعت الله عز وجل يقول ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون وأنا رجل شحيح لا أكاد أخرج من يدي شيئا فقال ابن مسعود : ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن، [ ص: 507 ] إنما الشح الذي ذكره الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلما ولكن ذلك البخل ، وبئس الشيء البخل.

                                                                                                                                                                                                                                        الخامس: أنه الإمساك عن النفقة ، قاله عطاء.

                                                                                                                                                                                                                                        السادس: أنه الظلم ، قاله ابن عيينة.

                                                                                                                                                                                                                                        السابع: أنه أراد العمل بمعاصي الله ، قاله الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                        الثامن: أنه أراد ترك الفرائض وانتهاك المحارم ، قاله الليث. وفي الشح والبخل قولان:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: أن معناهما واحد.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنهما يفترقان وفي الفرق بينهما وجهان:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: أن الشح أخذ المال بغير حق ، والبخل أن يمنع من المال المستحق ، قاله ابن مسعود .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أن الشح بما في يدي غيره ، والبخل بما في يديه ، قاله طاوس. والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا فيهم قولان:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: أنهم الذين هاجروا بعد ذلك ، قاله السدي والكلبي .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنهم التابعون الذين جاءوا بعد الصحابة ثم من بعدهم إلى قيام الدنيا هم الذين جاءوا من بعدهم، قاله مقاتل. وروى مصعب بن سعد قال: الناس على ثلاثة منازل ، فمضت منزلتان وبقيت الثالثة: فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت. وفي قولهم: اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان وجهان:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: أنهم أمروا أن يستغفروا لمن سبق من هذه الأمة ومن مؤمني أهل الكتاب. قالت عائشة: فأمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنهم أمروا أن يستغفروا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا الآية. في الغل وجهان:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: الغش ، قاله مقاتل.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: العداوة ، قاله الأعمش. [ ص: 508 ]

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية