الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                [ ص: 491 ] سورة الإسراء

                                                                                                                                                                                                مكية [إلا الآيات 26 و 32 و 33 و 57، ومن آية 73 إلى غاية آية 80 فمدنية]

                                                                                                                                                                                                وآياتها 111 [نزلت بعد القصص]

                                                                                                                                                                                                بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير

                                                                                                                                                                                                سبحان : علم للتسبيح كعثمان للرجل، وانتصابه بفعل مضمر متروك إظهاره، تقديره: أسبح الله سبحان، ثم نزل سبحان منزلة الفعل فسد مسده، ودل على التنزيه البليغ من جميع القبائح التي يضيفها إليه أعداء الله، و "أسرى": وسرى لغتان، و "ليلا": نصب على الظرف.

                                                                                                                                                                                                فإن قلت: الإسراء لا يكون إلا بالليل، فما معنى ذكر الليل ؟ [ ص: 492 ] قلت: أراد بقوله: "ليلا" بلفظ التنكير: تقليل مدة الإسراء، وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة، وذلك أن التنكير فيه قد دل على معنى البعضية، ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة : "من الليل"، أي: بعض الليل، كقوله: ومن الليل فتهجد به نافلة [الإسراء: 79]، يعني: الأمر بالقيام في بعض الليل، واختلف في المكان الذي أسري منه فقيل: هو المسجد الحرام بعينه، وهو الظاهر، وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل عليه السلام بالبراق"، وقيل: أسري به من دار أم هانئ بنت أبي طالب والمراد بالمسجد الحرام: الحرم، لإحاطته بالمسجد والتباسه به، وعن ابن عباس: الحرم كله مسجد، وروي أنه كان نائما في بيت أم هانئ بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته، وقص القصة على أم هانئ، وقال: مثل لي النبيون فصليت بهم وقام ليخرج إلى المسجد فتشبثت أم هانئ بثوبه فقال: مالك ؟ قالت: أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم، قال: وإن كذبوني، فخرج فجلس إليه أبو جهل فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحديث الإسراء، فقال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤي، هلم فحدثهم، فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا، وارتد ناس ممن كان قد آمن به، وسعى رجال إلى أبي بكر -رضي الله عنه- فقال: إن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: أتصدقه على ذلك ؟ قال: إني لأصدقه على أبعد من ذلك، فسمي الصديق ، وفيهم من [ ص: 493 ] سافر إلى ما ثم، فاستنعتوه المسجد فجلي له بيت المقدس، فطفق ينظر إليه وينعته لهم، فقالوا: أما النعت فقد أصاب، فقالوا: أخبرنا عن عيرنا، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها، وقال: تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس، يقدمها جمل أورق، فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية، فقال قائل منهم: هذه والله الشمس قد شرقت، فقال آخر: وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد، ثم لم يؤمنوا وقالوا: ما هذا إلا سحر مبين، وقد عرج به إلى السماء في تلك الليلة، وكان العروج به من بيت المقدس وأخبر قريشا أيضا- بما رأى في السماء من العجائب، وأنه لقي الأنبياء، وبلغ البيت المعمور وسدرة المنتهى، واختلفوا في وقت الإسراء، فقيل: كان قبل الهجرة بسنة، وعن أنس والحسن أنه كان قبل البعث، واختلف في أنه كان في اليقظة أم في المنام، فعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "والله، ما فقد جسد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكن عرج بروحه"، وعن معاوية : إنما عرج بروحه، وعن الحسن: كان في المنام رؤيا رآها، وأكثر الأقاويل بخلاف ذلك، والمسجد الأقصى: بيت المقدس، لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد، باركنا حوله : يريد بركات الدين والدنيا، لأنه متعبد الأنبياء من وقت موسى ومهبط الوحي، وهو محفوف بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة، وقرأ الحسن: "ليريه" بالياء، ولقد تصرف الكلام على لفظ الغائب والمتكلم، فقيل: أسرى به ثم باركنا ليريه، على قراءة الحسن: "ثم من آياتنا"، "ثم إنه هو"، وهي طريقة الالتفات التي هي من طرق البلاغة، إنه هو السميع : لأقوال محمد، البصير : بأفعاله، العالم بتهذبها وخلوصها، فيكرمه ويقربه على حسب ذلك.

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية