الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون

قال عروة بن الزبير ، وقتادة ، وابن زيد ، وغيرهم: نزلت هذه الآية بيانا لعدد [ ص: 561 ] الطلاق الذي للمرء فيه أن يرتجع، دون تجديد مهر وولي، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية يطلقون ويرتجعون إلى غير غاية، فقال رجل لامرأته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: لا أؤويك ولا أدعك تحلين. فقالت: وكيف؟ قال: أطلقك فإذا دنا مضي عدتك راجعتك، فشكت ذلك، فنزلت الآية .

وقال ابن عباس ، وابن مسعود ، ومجاهد وغيرهم: المراد بالآية التعريف بسنة الطلاق، أي من طلق اثنتين فليتق الله في الثالثة، فإما تركها غير مظلومة شيئا من حقها، وإما أمسكها محسنا عشرتها.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

والآية تتضمن هذين المعنيين.

والإمساك بالمعروف: هو الارتجاع بعد الثانية إلى حسن العشرة، والتزام حقوق الزوجية. والتسريح يحتمل لفظه معنيين أحدهما: تركها تتم العدة من الثانية، وتكون أملك بنفسها، وهذا قول السدي ، والضحاك ، والمعنى الآخر: أن يطلقها ثالثة فيسرحها بذلك، وهذا قول مجاهد ، وعطاء ، وغيرهما، ويقوى عندي هذا القول من ثلاثة وجوه أولها: أنه روي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله: هذا ذكر الطلقتين فأين الثالثة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هي قوله: أو تسريح بإحسان . والوجه الثاني: أن [ ص: 562 ] التسريح من ألفاظ الطلاق، ألا ترى أنه قد قرئ: "وإن عزموا السراح".

والوجه الثالث: أن فعل تفعيلا بهذا التضعيف يعطي أنه أحدث فعلا مكررا على الطلقة الثانية، وليس في الترك إحداث فعل يعبر عنه بالتفعيل، و "إمساك" مرتفع بالابتداء، والخبر: أمثل، أو أحسن، ويصح أن يرتفع على خبر ابتداء تقديره: فالواجب إمساك، وقوله: "بإحسان" معناه ألا يظلمها شيئا من حقها، ولا يتعدى في قول.

وقوله تعالى: ولا يحل لكم أن تأخذوا الآية، خطاب للأزواج، نهاهم به أن يأخذوا من أزواجهم شيئا على وجه المضارة، وهذا هو الخلع الذي لا يصح إلا بألا ينفرد الرجل بالضرر.

وخص بالذكر ما آتى الأزواج نساءهم، لأن العرف من الناس أن يطلب الرجل عند الشقاق والفساد ما خرج عن يده، هذا وكدهم في الأغلب فلذلك خص بالذكر.

وقرأ جميع السبعة -إلا حمزة- "يخافا" بفتح الياء على بناء الفعل للفاعل، فهذا باب "خاف" في التعدي إلى مفعول واحد، وهو "أن"، وقرأ حمزة وحده "يخافا" بضم الياء على بناء الفعل للمفعول، فهذا على تعدية "خاف" إلى مفعولين أحدهما أسند الفعل إليه، والآخر أن بتقدير حرف جر محذوف. فموضع "أن" خفض بالجار المقدر عنه سيبويه والكسائي ونصب عند غيرهما لأنه لما حذف الجار، وصار الفعل إلى المفعول الثاني مثل استغفر الله ذنبا، وأمرتك الخير.

[ ص: 563 ] وفي مصحف ابن مسعود : "إلا أن يخافوا" بالياء وواو الجمع والضمير على هذا للحكام ومتوسطي أمور الناس.

وحرم الله تعالى على الزوج -في هذه الآية- أن يأخذ إلا بعد الخوف ألا يقيما، وأكد التحريم بالوعيد لمن تعدى الحد. وأجمع عوام أهل العلم على تحظير أخذ مالها، إلا أن يكون النشوز وفساد العشرة من قبلها. قال ابن المنذر : روينا ذلك عن ابن عباس ، والشعبي ، ومجاهد ، وعطاء ، والنخعي ، وابن سيرين ، والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير ، والزهري ، وحميد بن عبد الرحمن ، وقتادة ، وسفيان الثوري ، ومالك ، وإسحاق ، وأبي ثور .

وقال مالك رحمه الله، والشعبي ، وجماعة معهما: فإن كان مع فساد الزوجة ونشوزها فساد من الزوج. وتفاقم ما بينهما فالفدية جائزة للزوج.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ومعنى ذلك أن يكون الزوج -لو ترك فساده- لم يزل نشوزها هي.

وأما إن انفرد الزوج بالفساد فلا أعلم أحدا يجيز له الفدية إلا ما روي عن أبي حنيفة أنه قال: إذا جاء الظلم والنشوز من قبله فخالعته. فهو جائز ماض، وهو آثم لا يحل ما صنع، ولا يرد ما أخذ. قال ابن المنذر : وهذا خلاف ظاهر كتاب الله، وخلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو قيل لأحد: أجهد نفسك في طلب الخطأ ما وجد أمرا أعظم من أن ينطق القرآن بتحريم شيء فيحله هو ويجيزه.

و"حدود الله" -في هذا الموضع- هي ما يلزم الزوجين من حسن العشرة وحقوق العصمة.

[ ص: 564 ] ونازلة حبيبة بنت سهل ، وقيل: جميلة بنت أبي ابن سلول -والأول أصح- مع ثابت بن قيس حين أباح له النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الفدية منها ، إنما كان التعسف فيها من المرأة لأنها ذكرت عنه كل خير وأنها لا تحب البقاء معه.

وقوله تعالى: فإن خفتم ألا يقيما حدود الله المخاطبة للحكام والمتوسطين لمثل هذا الأمر وإن لم يكن حاكما، وترك إقامة حدود الله هو استخفاف المرأة بحق زوجها وسوء طاعتها إياه. قاله ابن عباس ، ومالك بن أنس ، وجمهور الفقهاء، وقال الحسن بن أبي الحسن ، وقوم معه: إذا قالت له لا أطيع لك أمرا، ولا أغتسل لك من جنابة، ولا أبر لك قسما، حل الخلع. وقال الشعبي : ألا يقيما حدود الله معناه: ألا يطيعا الله، وذلك أن المغاضبة تدعو إلى ترك الطاعة. وقال عطاء بن أبي رباح : يحل الخلع والأخذ أن تقول المرأة لزوجها إني لأكرهك ولا أحبك، ونحو هذا.

وقوله تعالى: فلا جناح عليهما فيما افتدت به إباحة للفدية، وشركهما في ارتفاع الجناح، لأنها لا يجوز لها أن تعطيه مالها، حيث لا يجوز له أخذه، وهي تقدر على المخاصمة، فإذا كان الخوف المذكور جاز له أن يأخذ ولها أن تعطي، ومتى لم يقع الخوف فلا يجوز لها أن تعطي على طالب الفراق.

وقال ابن عمر ، والنخعي، وابن عباس ، ومجاهد ، وعثمان بن عفان رضي الله عنه، ومالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة، وعكرمة ، وقبيصة بن ذؤيب ، وأبو ثور ، وغيرهم: مباح للزوج أن يأخذ من المرأة في الفدية جميع ما تملكه، وقضى بذلك عمر بن الخطاب . وقال طاوس ، والزهري ، وعطاء ، وعمر بن شعيب ، والحسن ، والشعبي ، [ ص: 565 ] والحكم ، وحماد ، وأحمد ، وإسحاق : لا يجوز له أن يزيد على المهر الذي أعطاها، وبه قال الربيع ، وكان يقرأ هو والحسن بن أبي الحسن : "فيما افتدت به منه" بزيادة "منه" يعني: مما آتيتموهن، وهو المهر، وحكى مكي هذا القول عن أبي حنيفة ، وابن المنذر أثبت. وقال ابن المسيب : لا أرى أن يأخذ منها كل مالها، ولكن ليدع لها شيئا، وقال بكر بن عبد الله المزني : لا يجوز للرجل أن يأخذ من زوجه شيئا خلعا قليلا ولا كثيرا قال: وهذه الآية منسوخة بقوله عز وجل: وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا ضعيف لأن الأمة مجمعة على إجازة الفدية، ولأن المعنى المقترن بآية الفدية غير المعنى الذي في آية إرادة الاستبدال.

وقوله تعالى: تلك حدود الله الآية، أي هذه الأوامر والنواهي هي المعالم بين الحق والباطل، والطاعة والمعصية، فلا تتجاوزوها. ثم توعد تعالى على تجاوز الحد، ووصف المتعدي بالظلم، وهو وضع الشيء في غير موضعه، والظلم معاقب صاحبه. وهو كما قال صلى الله عليه وسلم: الظلم ظلمات يوم القيامة .

التالي السابق


الخدمات العلمية