الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم

قوله تعالى: إن الذين ينادونك إلى قوله تعالى: "غفور رحيم" نزلت في وفد بني تميم، حيث كان الأقرع بن حابس، والزبرقان بن بدر ، وعمرو بن الأهتم، وغيرهم، وذلك أنهم وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلوا المسجد ودنوا من حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهي تسع، فجعلوا ونادوا ولم ينتظروا، فنادوا بجملتهم: يا محمد، اخرج إلينا، يا محمد، اخرج إلينا، فكان في فعلهم ذلك جفاء وبداوة وقلة توقير، فتربص رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة، ثم خرج إليهم، فقال له الأقرع بن حابس: يا محمد، إن مدحي زين، وذمي شين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ويلك ذلك الله تعالى"، واجتمع الناس في المسجد، فقام خطيبهم فخطب وفخر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه، فخطب وذكر الله تعالى والإسلام و أربى على خطيبهم، ثم قام شاعرهم فأنشد مفتخرا، فقام حسان بن ثابت رضي الله عنه ففخر بالله تعالى وبالرسول صلى الله عليه وسلم وبالبسالة فكان أشعر من شاعرهم، فقال بعضهم لبعض: والله إن هذا الرجل لمؤتى له، [ ص: 10 ] لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ثم نزلت فيهم هذه الآية.

هذا تلخيص ما تظاهرت به الروايات في هذه الآية، وقد رواه موسى بن عقبة عن أبي سلمة عن الأقرع بن حابس، وفي مصحف ابن مسعود : "أكثرهم بنو تميم لا يعقلون".

و "الحجرات" جمع حجرة، وقرأ الجمهور من القراء: "الحجرات" بضم الحاء والجيم، وقرأ أبو جعفر القارئ وحده: "الحجرات" بفتح الجيم. وقوله تعالى: لكان خيرا لهم يعني في الثواب عند الله تعالى، وفي انبساط نفس النبي صلى الله عليه وسلم وقضائه لحوائجهم ووده لهم، وذلك كله خير، لا محالة أن بعضه انزوى بسبب جفائهم. وقوله تعالى: والله غفور رحيم ترجية لهم وإعلام بقبوله توبة التائب، وغفرانه ورحمته لمن أناب ورجع.

وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ الآية. سببها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق مصدقا، فروي أنه كان معاديا لهم فأراد إذايتهم، فرجع من بعض طريقه وكذب عليهم -قاله الضحاك - وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنهم منعوني الصدقة وطردوني وارتدوا، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وهم بغزوهم، ونظر في ذلك، وبعث خالد بن الوليد إليهم، فورده وفدهم منكرين لذلك، وروي عن أم سلمة [ ص: 11 ] وابن عباس رضي الله عنهم أن الوليد بن عقبة ، لما قرب منهم خرجوا إليه متلقين له، فرآهم على بعد، ففزع منهم، وظن بهم الشر وانصرف، فقال ما ذكرناه، وروي أنه لما قرب منهم بلغه عنهم أنهم قالوا: لا نعطيه الصدقة ولا نعطيه، فعمل على صحة هذا الخبر وانصرف فقال ما ذكرناه، فنزلت الآية بهذا السبب، والوليد -على ما ذكر مجاهد وقتادة - هو المشار إليه بالفاسق، وحكى الزهراوي : قالت أم سلمة : هو الوليد بن عقبة . ثم هي باقية فيمن اتصف بهذه الصفة غابر الدهر. "والفسق": الخروج عن نهج الحق، وهو مراتب متباينة، كلها مظنة للكذب وموضع تثبت وتبين، وتأنس القائلون بقبول خبر الواحد بما يقتضيه دليل خطاب هذه الآية; لأنه يقتضي أن غير الفاسق إذا جاء بنبأ أن يعمل بحسبه، وهذا ليس باستدلال قوي، وليس هذا موضع الكلام على مسألة خبر الواحد.

وقرأ الجمهور من القراء: "فتبينوا" من التبين، وقرأ حمزة ، والحسن ، وابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش ، وعيسى : "فتثبتوا". و"إن" في قوله تعالى: "أن تصيبوا" مفعول من أجله، كأنه تعالى قال: مخافة أن تصيبوا، قال قتادة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما نزلت هذه الآية: "التثبت من الله والعجلة من الشيطان"، قال منذر بن سعيد : هذه الآية ترد على من قال إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة لأن الله تعالى أمر بالتبين قبل القبول.

[ ص: 12 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وقوله يقتضي أن المجهول الحال يخشى أن يكون فاسقا، والاحتياط لازم. قال النقاش : وقوله تعالى: "فتبينوا" أبلغ من تثبتوا; لأنه قد يتثبت من لا يتبين.

وقوله تعالى: واعلموا أن فيكم رسول الله توبيخ للكذبة ووعيد للفضيحة، أي: فليفكر الكاذب في أن الله يفضحه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ، أي لشقيتم وهلكتم، والعنت: المشقة، أي: لو يطيعكم أيها المؤمنون في كثير مما ترونه باجتهادكم وتقدمكم بين يديه، وقوله تعالى: ولكن الله حبب إليكم الإيمان الآية، كأنه تعالى قال: ولكن الله أنعم بكذا وكذا، وفي ذلك كفاية وأمر لا تقومون بشكره، فلا تتقدموا في الأمور واقنعوا بإنعام الله تعالى عليكم، وحبب الله تبارك وتعالى الإيمان وزينه بأن خلق في قلوب المؤمنين حبه وحسنه، وكذلك تكريه الكفر والفسوق والعصيان، وحكى الرماني عن الحسن أنه حبب الإيمان بما وصف من الثواب عليه، وكره الثلاثة المقابلة للإيمان بما وصف من العقاب عليها.، وقوله تعالى: أولئك هم الراشدون رجوع من الخطاب إلى ذكر الغيبة، كأنه تعالى قال: ومن فعل هذا وقبله وشكر عليه فأولئك هم الراشدون.

وقوله تعالى: فضلا من الله ونعمة مصدر مؤكد بنفسه، لأن ما قبله هو بمعناه; إذ التحبيب والتزيين هو نفس الفضل، وقد يجيء المصدر مؤكدا لما قبله إذا لم يكن هو نفس ما قبله، كقولك: جاء زيد حقا ونحوه، وكان قتادة رحمه الله تعالى يقول: قد قال تعالى لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ، وأنتم والله أسخف رأيا وأطيش أحلاما، فليتهم رجل نفسه ولينتصح كتاب الله تبارك وتعالى.

التالي السابق


الخدمات العلمية