الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير

أخبر الله تعالى أن مداراة هؤلاء الكفار غير نافعة في الدنيا وأنها ضارة في الآخرة، [ ص: 279 ] ليبين فساد رأي مصانعهم، فقال تعالى: "إن يثقفوكم" أي: إن يتمكنوا منكم وتحصلوا في ثقافهم ظهرت العداوة وانبسطت أيديهم بضرركم وقتلكم، وألسنتهم بسبكم، وهذا هو السوء، وأشد من هذا كله أنهم إنما يقنعهم منكم أن تكفروا، وهذا هو ودهم.

ثم أخبر تعالى أن هذه الأرحام التي رغبتم في وصلها ليست بنافعة يوم القيامة، فالعامل في "يوم" قوله تعالى: "تنفعكم"، وقال بعض النحاة في كتاب الزهراوي : العامل فيه "يفصل" وهو مما بعده لا مما قبله.

وقرأ ابن كثر، ونافع ، وأبو عمرو ، والعامة: "يفصل" بضم الياء وسكون الفاء وتخفيف الصاد مفتوحة، وقرأ ابن عامر ، والأعرج ، وعيسى : "يفصل" بضم الياء وفتح الفاء وشد الصاد منصوبة، واختلف -على هاتين القراءتين- في إعراب قوله تعالى: "بينكم" فقيل: نصب على الظرف، وقيل: رفع على ما لم يسم فاعله إلا أن لفظه بقي منصوبا لأنه كذلك كثر استعماله، وقرأ عاصم ، والأعمش : "يفصل" بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد خفيفة، وقرأ حمزة ، والكسائي ، وابن وثاب : "يفصل" بضم الياء وفتح الفاء وشد الصاد المكسورة، وإسناد الفعل في هاتين القراءتين إلى الله تعالى، وقرأ النخعي ، وطلحة بن مصرف : "نفصل" بنون العظمة مرفوعة وفتح الفاء وشد الصاد وفي قوله تعالى: والله بما تعملون بصير وعيد وتحذير.

وقرأ جمهور السبعة: "إسوة" بكسر الهمزة، وقرأ عاصم وحده: "أسوة" بضمها، وهما لغتان، والمعنى: قدوة وإمام، ومثال، و"إبراهيم" صلى الله عليه وسلم هو خليل الرحمن عز وجل واختلف الناس في "الذين معه"، فقال قوم من المتأولين: أراد من آمن به من الناس، وقال الطبري وغيره: أراد الأنبياء الذين كانوا في عصره عليه السلام وقريبا من عصره، وهذا القول أرجح لأنه لم يرو أن إبراهيم عليه السلام كان له أتباع مؤمنون في مكافحته نمروذ، وفي البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال لسارة حين رحل بها إلى الشام مهاجرا من بلد النمروذ: ما على الأرض من يعبد الله غيري وغيرك، وهذه الأسوة مفيدة في التبري من الإشراك وهو مطرد في كل ملة، وفي نبينا صلى الله عليه و سلم أسوة حسنة على الإطلاق لأنها في العقائد وفي أحكام الشرع كلها.

وقرأ جمهور الناس "برءاء" على وزن فعلاء، والهمزة الأولى لام الفعل، وقرأ عيسى الثقفي : "براء" على وزن فعال، بكسر الباء ككريم وكرام، وقرأ يزيد بن القعقاع: [ ص: 280 ] "براء" على وزن فعال بضم الفاء كتؤام، وقد رويت عن عيسى قراءة، قال أبو حاتم : زعموا أنه عيسى الهمداني-، "ويجوز": "براء" على المصدر بفتح الباء، يوصف به الجمع والإفراد.

وقوله تعالى: "كفرنا بكم" معناه: كذبناكم في أقوالكم ولم نؤمن بشيء منها، ونظير هذا قوله عليه الصلاة والسلام حكاية عن الله عز وجل: "فهو مؤمن بي كافر بالكوكب"، ولم يلحق العلامة في "بدا" لأن تأنيث العداوة والبغضاء غير حقيقي.

ثم استثنى تعالى استغفار إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه، فذكر أنه كان عن موعدة، وقد فسرنا ذلك في موضعه، وهذا استثناء ليس من الأول، والمعنى عند مجاهد ، وقتادة ، وعطاء الخراساني ، وغيرهم أن الأسوة لكم في هذا الوجه لا في هذا الآخر لأنه كان في علة ليست في نازلتكم، ويحتمل أن يكون استثناء من التبري والقطيعة التي ذكرت، أي: لم تبق صلة إلا كذا.

وقوله تعالى: ربنا عليك توكلنا الآية... حكاية عن قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام والذين معه إنه هكذا كان.

التالي السابق


الخدمات العلمية