الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن

اختلف الناس في هؤلاء الذين لم ينه عنهم أن يبروا منهم، فقال مجاهد : هم المؤمنون من أهل مكة الذين آمنوا ولم يهاجروا وكانوا لذلك في رتبة سوء لتركهم فرص الهجرة، وقال آخرون: أراد المؤمنين التاركين للهجرة كانوا من أهل مكة ومن غيرها، وقال الحسن، وأبو صالح : أراد خزاعة وبني الحارث وقبائل من العرب كفارا إلا أنهم كانوا مظاهرين للنبي صلى الله عليه وسلم، محبين فيه وفي ظهوره، ومنهم كنانة وبنو الحارث بن عبد مناة ومزينة، وقال قوم: أراد من كفار قريش من لم يقاتل ولا أخرج ولا أظهر سوءا، وعلى هذين القولين فالآية منسوخة بالقتال، وقال عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: أراد النساء والصبيان من الكفرة، وقال: إن الآية نزلت بسبب أم أسماء حين استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في برها وصلتها فأذن لها، وكانت المرأة خالتها فيما روي فسمتها في حديثها أما، وقال أبو جعفر بن النحاس ، والثعلبي : أراد المستضعفين من المؤمنين الذين لم يستطيعوا الهجرة، وهذا قول ضعيف، وقال مرة الهمداني، وعطية العوفي : نزلت في قوم من بني هاشم منهم العباس رضي الله تعالى عنه، وقال قتادة : نسختها "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" . وقوله تعالى: "أن تبروهم" بدل، وهذا هو بدل [ ص: 283 ] الاشتمال، و"الإقساط": العدل، و"ظاهروا" معناه: عاونوا، و "الذين قاتلوا في الدين وأخرجوهم" مردة قريش.

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات الآية... نزلت إثر صلح الحديبية، وذلك أن الصلح تضمن أن يرد المؤمنون إلى الكفار كل من جاء مسلما من رجل وامرأة، فنقض الله تعالى من ذلك أمر النساء بهذه الآية، وحكم أن المهاجرة المؤمنة لا ترد إلى الكفر بل تبقى تستبرئ وتتزوج، ويعطى زوجها الكافر الصداق الذي أنفق، وأمر أيضا المؤمنين بطلب صداق من فرت امرأته من المؤمنين، وحكم تعالى بهذا في النازلة، وسماهن مؤمنات قبل أن يتيقن ذلك لأنه ظاهر أمرهن، و"مهاجرات" نصب على الحال، و"امتحنوهن" معناه: جربوهن واستخبروا حقيقة ما عندهن.

واختلف الناس في هذا الامتحان، كيف كان؟ فقال ابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد ، وعكرمة : كان بأن تستحلف المرأة أنها ما هاجرت لبغض زوجها، وبجريرة جرتها، ولا بسبب من أعراض الدنيا سوى حب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والدار الآخرة، قال ابن عباس رضي الله عنهما أيضا: الامتحان أن تطلب بأن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا فعلت ذلك لم ترد، فقال فريق منهم عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: الامتحان هو أن تعرض عليها الشروط التي في الآية بعد هذا من ترك السرقة والزنا والبهتان والعصيان، فإذا أقرت بذلك فهو امتحانها، وقيل: إن هذه الآية نزلت في أميمة بنت بشر امرأة حسان بن الدحداحة، وفي كتاب الثعلبي أنها نزلت في سبيعة بنت الحارث .

وقوله تعالى: الله أعلم بإيمانهن إشارة إلى الاسترابة ببعضهن، وحض على امتحانهن، وذكر تعالى العلة في ألا يرد النساء إلى الكفار وهي امتناع الوطء وحرمته، وقرأ طلحة : "لا هن يحللن لهم".

التالي السابق


الخدمات العلمية