الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه كلا إنها لظى نزاعة للشوى تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون

[ ص: 405 ] المجرم -في هذه الآية-: الكافر بدليل شدة الوعد وذكر "لظى"، وقد يدخل مجرم المعاصي فيما ذكر من الابتداء، وقرأ جمهور الناس: "يومئذ" بكسر الميم، وقرأ الأعرج بفتحها، ومن حيث أضيف إلى غير متمكن جاز فيه الوجهان، وقرأ أبو حيوة: "من عذاب" منونا "يومئذ" مفتوح الميم، و"الصاحبة": هنا-: الزوجة.

و"الفصيلة"- في هذه الآية-: قرابة الرجل الأدنون، مثال ذلك بنو هاشم مع النبي صلى الله عليه وسلم، والفصيلة في كلام العرب أيضا: الزوجة، ولكن ذكر "الصاحبة" في هذه الآية لم يبق في معنى الفصيلة إلا الوجه الذي ذكرناه. وقوله تعالى: "ثم ينجيه" الفاعل هو الفداء الذي تضمنه قوله سبحانه: "لو يفتدي"، فهو المتقدم الذكر، وقرأ الزهري : "تؤويه" و"تنجيه" برفع الهاءين.

وقوله تعالى: كلا إنها لظى رد لقولهم وما ودوه، أي: ليس الأمر كذلك، ثم ابتدأ الإخبار عن "لظى" وهي طبقة من طبقات جهنم، وفي هذا اللفظ تعظيم لأمرها وهولها. وقرأ السبعة، وأبو جعفر والحسن ، والناس: "نزاعة" بالرفع، وقرأ حفص عن عاصم : "نزاعة" بالنصب، فالرفع على أن يكون "لظى" بدلا من الضمير المنصوب "ونزاعة" خبر "إن"، أو على إضمار مبتدأ، أي: هي نزاعة، أو على أن يكون الضمير في "إنها" للقصة و"لظى" ابتداء، و"نزاعة" خبر، أو على أن يكون "لظى" خبر "إن" و"نزاعة" بدلا من لظى، أو على أن يكون "لظى" خبرا و"نزاعة" خبر بعد خبر، وقال الزجاج : "نزاعة" ، رفع بمعنى المدح.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا هو القول بأنها خبر ابتداء تقديره: هي نزاعة; لأنه إذا تضمن الكلام معنى المدح أو الذم جاز لك القطع رفعا بإضمار مبتدأ، أو نصبا بإضمار فعل. ومن قرأ بالنصب فذلك إما على مدح "لظى" كما قلنا، وإما على الحال من "لظى" لما فيها من معنى التلظي، كأنه تعالى قال: كلا، إنها النار تتلظى نزاعة، قال الزجاج : فهي حال مؤكدة.

و"الشوى" جلد الإنسان، وقيل: جلد الرأس والهامة، قاله الحسن، ومنه قول الأعشى: [ ص: 406 ]


قالت قتيلة ما له ... قد جللت شيبا شواته



ورواه أبو عمرو بن العلاء "سراته" فلا شاهد في البيت على هذه الرواية، قال أبو عبيدة : سمعت أعرابيا يقول: "اقشعرت شواتي". والشوى أيضا قوائم الحيوان، ومنه "عبل الشوى"، الشوى أيضا كل عضو ليس بمقتل، ومنه "رمى فأشوى" إذا لم يصب المقتل، وقال ابن جرير : الشوى العصب والعقب، فنار "لظى" تذهب هذا من ابن آدم وتنزعه.

وقوله تعالى: تدعو من أدبر وتولى يريد الكفار، واختلف الناس في دعائها، فقال ابن عباس وغيره: هو حقيقة، تدعوهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، وقال الخليل بن أحمد : هي عبارة عن حرصها عليهم واستدنائها لهم وما توقعه من عذابها، وقال ثعلب: "تدعوا" معناه: تهلك، تقول العرب: "دعاك الله" أي أهلكك، وحكاه الخليل عن العرب.

و"أوعى" معناه: جعله في الأوعية، تقول: وعيت العلم وأوعيت المال والمتاع، ومنه قول الشاعر :


الخير يبقى وإن طال الزمان به ...     والشر أخبث ما أوعيت من زاد



وهذه إشارة إلى كفار أغنياء جعلوا جمع المال وكد أمرهم ومعنى حياتهم، [ ص: 407 ] فجمعوه من غير حل، ومنعوه من حقوق الله تعالى، وكان عبد الله بن حكيم لا يربط كيسه ويقول: سمعت الله تعالى يقول: "وجمع فأوعى".

وقوله تعالى: "إن الإنسان" عموم لاسم الجنس، لكن الإشارة هنا إلى الكفار لأن الأمر فيهم وكيد كثير، و"الهلع" فزع واضطراب يعتري الإنسان عند المخاوف وعند المطامع، ونحوه قوله عليه الصلاة والسلام: "شر ما في الإنسان شح هالع وجبن خالع"، وقوله تعالى: إلا المصلين" معناه: إلا المؤمنين الذين أمر الآخرة أوكد عليهم من أمر الدنيا، والمعنى: إن هذا المعنى فيهم يقل لأنهم يجاهدون بالتقوى. وقرأ الجمهور: "على صلاتهم" بالإفراد، وقرأ الحسن: "على صلواتهم" بالجمع، وقوله تعالى: "دائمون"، قال الجمهور: المعنى: مرابطون قائمون لا يخلون في وقت من الأوقات بها فيتركونها، وهذا في المكتوبة، وأما النافلة فالدوام عليها الإكثار منها بحسب الطاقة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه"، وقال ابن مسعود : الدوام: صلاتها لوقتها، وتركها كفر، وقال عقبة بن عامر : "دائمون": يقرءون في صلاتهم ولا يلتفتون يمينا ولا شمالا، ومنه الماء الدائم.

التالي السابق


الخدمات العلمية