الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 322 ] قوله عز وجل:

وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون

قالت فرقة من الفقهاء: إن قوله تعالى: ( وأقيموا الصلاة ) عموم، وقالت فرقة: هو من مجمل القرآن، والمرجح أن ذلك عموم من وجه، ومجمل من وجه، فعموم من حيث الصلاة الدعاء، فحمله على مقتضاه ممكن، وخصصه الشرع بهيئات وأفعال وأقوال، ومجمل من حيث الأوقات وعدد الركعات لا يفهم من اللفظ، بل السامع فيه مفتقر إلى التفسير، وهذا كله في أقيموا الصلاة ، وأما الزكاة فمجملة لا غير. قال الطبري : إنما أمر الله هنا بالصلاة والزكاة لتحط ما تقدم من ميلهم إلى أقوال اليهود : "راعنا" لأن ذلك نهي عن نوعه، ثم أمر المؤمنون بما يحطه. والخير المقدم منقض لأنه فعل، فمعنى "تجدوه": تجدوا ثوابه وجزاءه، وذلك بمنزلة وجوده، وقوله تعالى: إن الله بما تعملون بصير ، خبر في اللفظ معناه الوعد والوعيد.

وقوله تعالى: وقالوا لن يدخل الجنة معناه: قال اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ، وقال النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى ، فجمع قولهم، ودل [ ص: 323 ] تفريق نوعيهم على تفرق قوليهم، وهذا هو الإيجاز واللف، وهود: جمع هائد، مثل عائد وعود. ومعناه التائب الراجع، ومثله في الجمع: بازل وبزل، وحائل وحول، وبائر وبور، وقيل: هو مصدر يوصف به الواحد والجمع كفطر وعدل ورضا. وقال الفراء : أصله يهودي حذفت ياءاه على غير قياس. وقرأ أبي بن كعب : "إلا من كان يهوديا"، وكذبهم الله تعالى، وجعل قولهم أمنية، وقد قطعوا قبل بقوله: فتمنوا الموت ، وأمر محمد صلى الله عليه وسلم بدعائهم إلى إظهار البرهان.

وقيل: إن الهاء في "هاتوا" أصلية من "هاتا، يهاتي"، وأميت تصريف هذه اللفظة كله إلا الأمر منه، وقيل: هي عوض من همزة آتى، وقيل: ها تنبيه، وألزمت همزة آتى الحذف. والبرهان: الدليل الذي يوقع اليقين. قال الطبري : طلب الدليل هنا يقضي بإثبات النظر، ويرد على من ينفيه، وقول اليهود : "لن" نفي حسنت بعده "بلى" إذ هي رد بالإيجاب في جواب النفي، حرف مرتجل لذلك، وقيل: هي "بل" زيدت عليها الياء لتزيلها على حد النسق الذي في "بل".

و"أسلم" معناه: استسلم وخضع ودان، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل :


وأسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذبا زلالا

وخص الوجه بالذكر لكونه أشرف ما يرى من الإنسان وموضع الحواس، وفيه يظهر [ ص: 324 ] العز والذل، ولذلك يقال: وجه الأمر، أي معظمه وأشرفه، قال الأعشى :


أؤول الحكم على وجهه     ليس قضائي بالهوى الجائر


ويصح أن يكون الوجه في هذه الآية، المقصد، وهو محسن جملة في موضع الحال، وعاد الضمير في "له" على لفظ "من" وكذلك في قوله: "أجره"، وعاد في "عليهم" على المعنى، وكذلك في "يحزنون". وقرأ ابن محيصن "فلا خوف" دون تنوين في الفاء المرفوعة، فقيل: ذلك تخفيف، وقيل: المراد فلا الخوف، فحذفت الألف واللام. والخوف: هو لما يتوقع، والحزن: هو لما قد وقع.

وقوله تعالى: وقالت اليهود الآية، معناه ادعى كل فريق أنه أحق برحمة الله من الآخر. وسبب نزول الآية أن نصارى نجران اجتمعوا مع يهود المدينة عند النبي صلى الله عليه وسلم، فتسابوا، وكفر اليهود بعيسى وبملته وبالإنجيل، وكفر النصارى بموسى وبالتوراة، وفي هذا من فعلهم كفر كل طائفة بكتابها، لأن الإنجيل يتضمن صدق موسى وتقرير التوراة، والتوراة تتضمن التبشير بعيسى وصحة نبوته، وكلاهما تضمن صدق محمد صلى الله عليه وسلم. فعنفهم الله تعالى على كذبهم، وفي كتبهم خلاف ما قالوا.

وفي قوله تعالى: وهم يتلون الكتاب ، تنبيه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم على ملازمة القرآن والوقوف عند حدوده، كما قال الحر بن قيس في عمر بن الخطاب وكان وقافا عند [ ص: 325 ] كتاب الله . والكتاب الذي يتلونه قيل: التوراة والإنجيل، فالألف واللام للجنس، وقيل: التوراة لأن النصارى تمتثلها، فالألف واللام للعهد.

اختلف من المراد بقوله: لا يعلمون فقال الجمهور: عنى بذلك كفار العرب ; لأنهم لا كتاب لهم، وقال عطاء : المراد أمم كانت قبل اليهود والنصارى ، وقال قوم: المراد اليهود ، وكأنه أعيد قولهم، وهذا ضعيف. وأخبرهم تعالى بأنه يحكم بينهم ، والمعنى بأن يثيب من كان على شيء أي شيء حق، ويعاقب من كان على غير شيء. وقال الزجاج : المعنى يريهم عيانا من يدخل الجنة ومن يدخل النار. و يوم القيامة سمي بقيام الناس من القبور، إذ ذلك مبدأ لجميع ما في اليوم، وفي الاستمرار بعده. وقوله: "كانوا" بصيغة الماضي حسن على مراعاة الحكم، وليس هذا من وضع الماضي موضع المستقبل لأن اختلافهم ليس في ذلك اليوم بل في الدنيا.

التالي السابق


الخدمات العلمية