الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين

قالت فرقة: سبب هذه الآية أن المؤمنين الذين كانوا بالبادية سكانا ومبعوثين لتعليم الشرع لما سمعوا قول الله عز وجل: ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أهمهم ذلك، فنفروا إلى المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن يكونوا مذنبين في التخلف عن الغزو، فنزلت هذه الآية في نفرهم ذلك. وقالت فرقة: إن المنافقين لما نزلت الآيات في المتخلفين قالوا: هلك أهل البوادي، فنزلت هذه الآية مقيمة لعذر أهل البوادي.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

فيجيء قوله تعالى: ما كان لأهل المدينة ومن حولهم عموم في اللفظ والمراد به في المعنى الجمهور والأكثر، وتجيء هذه الآية مبينة لذلك مطردة الألفاظ متصلة المعنى من قوله تبارك وتعالى: ما كان لأهل المدينة إلى قوله تعالى: يحذرون . بين في آخر الآية العموم الذي في أولها إذ هو معرض أن يتأول فيه ألا يتخلف بشر. والتفقه هو من النافرين، والإنذار هو منهم، والضمير في رجعوا لهم أيضا. وقالت فرقة: هذه الآية ليست في معنى الغزو، وإنما سببها أن قبائل من العرب لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر بالسنين أصابتهم مجاعة وشدة، فنفروا إلى المدينة لمعنى [ ص: 435 ] المعاش فكادوا أن يفسدوها، وكان أكثرهم غير صحيح الإيمان وإنما أضرعه الجوع، فنزلت الآية في ذلك فقال: وما كان من صفته الإيمان لينفر مثل هذا النفير، أي: ليس هؤلاء المؤمنين. وقال ابن عباس ما معناه: إن هذه الآية مختصة بالبعوث والسرايا، والآية المتقدمة ثابتة الحكم مع خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو، وهذه ثابتة الحكم مع تخلفه، أي: يجب إذا تخلف ألا ينفر الناس كافة فيبقى هو منفردا، وإنما ينبغي أن تنفر طائفة وتبقى طائفة لتتفقه هذه الباقية في الدين، وينذروا النافرين إذا رجع النافرون إليهم. وقالت فرقة: هذه الآية ناسخة لكل ما ورد من إلزام الكافة النفير والقتال، والضمير في قوله: ليتفقهوا عائد أيضا -على هذا التأويل- على الطائفة المتخلفة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو القول الأول في ترتيبنا هذا عائد على الطائفة النافرة، وكذلك يترتب عوده مع بعض الأقوال على هذه، ومع بعضها على هذه.

والجمهور على أن التفقه إنما هو بمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبته، وقالت فرقة: يشبه أن يكون التفقه في الغزو في السرايا لما يرون من نصرة الله لدينه وإظهاره العدد القليل من المؤمنين على الكثير من الكافرين وعلمهم بذلك صحة دين الإسلام ومكانته من الله تعالى، ورجحه الطبري وقواه، والآخر أيضا قوي. والضمير في قوله سبحانه: ( لينذروا ) عائد على المتفقهين بحسب الخلاف، والإنذار عام للكفر والمعاصي والحذر منها أيضا كذلك.

وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار الآية، قيل: هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال الكفار كافة فهي من التدريج الذي كان في أول الإسلام.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا قول يضعفه هذه الآية من آخر ما نزل، وقالت فرقة: إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما تجاوز قوما من الكفار غازيا لقوم آخرين أبعد منهم، فأمر الله تعالى بغزو الأدنى فالأدنى إلى المدينة، وقالت فرقة: الآية مبينة صورة القتال كافة، وهي مترتبة مع الأمر بقتال الكفار كافة، ومعناها أن الله تعالى أمر فيها المؤمنين أن يقاتل كل [ ص: 436 ] فريق منهم الجنس الذي يصاقبه من الكفرة، وهذا هو القتال لكلمة الله ورد الناس إلى الإسلام، وأما إذا مال العدو إلى صقع من أصقاع المسلمين ففرض على من اتصل به من المسلمين كفاية عدو ذلك الصقع وإن بعدت الدار ونأت البلاد، وقال قائلو هذه المقالة: نزلت الآية مشيرة إلى قتال الروم بالشام لأنهم كانوا يومئذ العدو الذي يلي ويقرب، إذ كانت العرب قد عمها الإسلام وكانت العراق بعيدة، ثم لما اتسع نطاق الإسلام توجه الفرض في قتال الفرس والديلم وغيرهما من الأمم، وسأل ابن عمر رضي الله عنهما رجل عن قتال الديلم فقال: عليك بالروم، وقال الحسن: هم الروم والديلم.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

يعني في زمنه ذلك، وقاله علي بن الحسين ، وقال ابن زيد : المراد بهذه الآية وقت نزولها: العرب، فلما فرغ منهم نزلت في الروم وغيرهم: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله: حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .

وقرأ جمهور الناس: "غلظة" بكسر الغين، وقرأ المفضل عن عاصم ، والأعمش : "غلظة" بفتحها، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وأبان بن ثعلب، وابن أبي عبلة : "غلظة" بضمها، وهي قراءة أبي حيوة، ورواها المفضل عن عاصم أيضا، قال أبو حاتم : رويت الوجوه الثلاثة عن أبي عمرو ، وفي هاتين القراءتين شذوذ، وهي لغات. ومعنى الكلام: وليجدوا فيكم خشونة وبأسا، وذلك مقصود به القتال، ومنه: "العذاب الغليظ" و غليظ القلب ، و غلاظ شداد في صفة [ ص: 437 ] الزبانية، و"غلظت علينا كدية" في حفر الخندق إلى غير ذلك.

ثم وعد الله تعالى في آخر الآية، وحض على التقوى التي هي ملاك الدين والدنيا وبها يلقى العدو، وقد قال بعض الصحابة: "إنما تقاتلون الناس بأعمالكم". وأهلها هم المجدون في طرق الحق، فوعد تعالى أنه مع أهل التقوى، ومن كان الله معه فلن يغلب.

التالي السابق


الخدمات العلمية