الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 608 ] قوله عز وجل:

ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا

أفرد الجنة من حيث الوجود، كذلك إذ لا يدخلهما معا في وقت واحد، وظلمه لنفسه: كفره وعقائده الفاسدة في الشك في البعث، فقد نص على ذلك قتادة ، وابن زيد ، وفي شكه في حدوث العالم إن كانت إشارته بـ "هذه" إلى الهيئة من السماوات والأرض وأنواع المخلوقات، وإن كانت إشارته إلى جنته فقط فإنما في الكلام تساخف واغترار وقلة تحصيل، وكأنه من شدة العجب بها والسرور أفرط في وصفها بهذا القول، ثم قاس أيضا الآخرة على الدنيا، وظن أنه لم يمل له في دنياه إلا لكرامة يستوجبها في نفسه، قال: فإن كان ثم رجوع كما تزعم فسيكون حالي كذا وكذا، وليست مقالة العاصي بن وائل لخباب على حد هذه، بل قصد العاصي الاستخفاف على جهة التصميم على التكذيب.

وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وابن الزبير، وثبت في مصاحف المدينة "منهما" يريد الجنتين المذكورتين أولا، وقرأ أبو عمرو، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، والعامة، وكذلك هو في مصحف أهل البصرة : "منها"، يريد الجنة المدخولة.

وقوله: قال له صاحبه حكاية أن المؤمن من الرجلين لما سمع كلام الكافر وقفه -على جهة التوبيخ- على كفره بالله تعالى، وقرأ أبي بن كعب: "وهو يخاصمه"، وقرأ ثابت البناني: "ويلك أكفرت"، ثم جعل يعظم الله تعالى عنده بأوصاف تضمنت النعم والدلائل على جواز البعث من القبور . وقوله: من تراب إشارة إلى آدم صلى الله عليه وسلم. وقوله: سواك رجلا كما تقول: سواك شخصا أو حيا أو نحو هذا من التأكيدات، وقد يحتمل أنه قصد تخصيص الرجولة على وجه تعديد النعمة في أن لم يكن أنثى ولا خنثى، وذكر الطبري نحو هذا.

[ ص: 609 ] واختلفت القراءة في قوله: "لكنا"، فقرأ ابن عامر ، ونافع -في رواية المسيلي: "لكنا" في الوصل والوقف. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، "لكن" في الوصل، و"لكنا" في الوقف، ورجحها الطبري ، وهي رواية ورش، وقالون عن نافع وقرأ ابن مسعود ، وأبي بن كعب، والحسن: "لكن أنا هو الله ربي"، وفي قراءة عيسى الثقفي ، والأعمش -بخلاف- "لكن هو الله ربي"، فأما هذه الأخيرة فبين على الأمر والشأن، وأما الذي قبلها فعلى معنى: لكن أنما أقول. ومن هذه الفرقة من قرأ: "لكننا" على حذف الهمزة وتخفيف التنوين، وفي هذا نظر، وأما من قرأ: "لكنا" فأصله عنده "لكن أنا" حذفت الهمزة على غير قياس وأدغمت النون في النون، وقد قال بعض النحويين: نقلت حركة الهمزة إلى النون فجاء "لكننا" ثم أدغمت بعد ذلك فجاء "لكنا"، فرأى بعض القراء أن بالإدغام استغني عن الألف الأخيرة، فمنهم من حذفها في الوصل، ومنهم من أثبتها في الوصل والوقف لتدل على أصل الكلمة، ويتوجه في "لكنا" أن تكون "لكن" لحقتها نون الجماعة التي في "خرجنا وضربنا"، ووقع الإدغام لاجتماع المثلين، ثم وحد في "ربي" على المعنى، ولو اتبع اللفظ لقال: "ربنا" ذكره أبو علي . ويترجح بهذا التعليل قول من أثبت الألف في حالي الوصل والوقف. ويتوجه في "لكنا" أن تكون المشهورة من أخوات "إن"، والمعنى: "لكن قولي هو الله ربي"، إلا أني لا أعرف من يقرأ بها وصلا ووقفا، وذلك يلزم من يوجه هذا الوجه. وروى هارون عن أبي عمرو "لكنه هو الله ربي" بضمير لحق "لكن". وباقي الآية بين.

وقوله تعالى: ولولا إذ دخلت الآية. وصية من المؤمن للكافر، و"لولا" تحضيض، بمعنى: هلا، و"ما" يحتمل أن تكون بمعنى "الذي"، بتقدير: "الذي شاء الله كائن"، وفي "شاء" ضمير عائد، ويحتمل أن تكون شرطية بتقدير: "ما شاء الله كان"، ويحتمل أن تكون خبر ابتداء محذوف تقديره: "هو ما شاء الله، أو الأمر ما شاء الله". وقوله: لا قوة إلا بالله تسليم وصد لقول الكافر: ما أظن أن تبيد هذه أبدا ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي هريرة : "ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة؟" قال: بلى يا رسول الله، قال: "لا قوة إلا بالله، إذا قالها العبد قال الله عز وجل: أسلم عبدي واستسلم". [ ص: 610 ] وفي حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا عبد الله بن قيس: ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة"؟ قال: افعل يا رسول الله، قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".

واختلفت القراءة في حذف الياء من "ترن" وإثباتها، فأثبتها ابن كثير وصلا ووقفا، وحذفها ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة فيهما، وأثبتها نافع ، وأبو عمرو في الوصل فقط. وقرأ الجمهور: "أقل" بالنصب على المفعول الثاني، وقوله: "أنا" فاصلة ملغاة، وقرأ عيسى بن عمر: "أقل" بالرفع على أن يكون "أنا" مبتدأ و "أقل" خبره، والجملة في موضع المفعول الثاني، والرؤية رؤية القلب في هذه الآية.

التالي السابق


الخدمات العلمية