الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين

                                                                                                                                                                                                                                      كيف يكون للمشركين عهد شروع في تحقيق حقية ما سبق من البراءة وأحكامها المتفرعة عليها، وتبيين الحكمة الداعية إلى ذلك، والمراد بالمشركين الناكثون؛ لأن البراءة إنما هي في شأنهم، والاستفهام إنكاري لا بمعنى إنكار الواقع، كما في قوله تعالى: كيف تكفرون بالله ... إلخ، بل بمعنى إنكار الوقوع، ويكون من الكون التام، وكيف في محل [ ص: 45 ] النصب على التشبيه بالحال أو الظرف.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: من الكون الناقص، وكيف خبر يكون قدم على اسمه وهو (عهد) لاقتضائه الصدارة؟ وللمشركين متعلق بمحذوف وقع حالا من (عهد) ولو كان مؤخرا لكان صفة له، أو بـ(يكون) عند من يجوز عمل الأفعال الناقصة في الظروف و(عند) متعلق بمحذوف وقع صفة لـ(عهد) أو بنفسه؛ لأنه مصدر، أو بـ(يكون) كما مر، ويجوز أن يكون الخبر للمشركين و(عند) كما ذكر، أو متعلق بالاستقرار الذي تعلق به للمشركين، ويجوز أن يكون الخبر (عند الله) وللمشركين إما تبيين وإما حال من (عهد) وإما متعلق بـ(يكون) أو بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، ولا يبالى بتقديم معمول الخبر على الاسم؛ لكونه حرف جر، و(كيف) على الوجهين الأخيرين نصب على التشبيه بالظرف أو الحال؟ كما في صورة الكون التام وهو الأولى؛ لأن في إنكار ثبوت العهد في نفسه من المبالغة ما ليس في إنكار ثبوته للمشركين؛ لأن ثبوته الرابطي فرع ثبوته العيني، فانتفاء الأصل يوجب انتفاء الفرع رأسا، وفي توجيه الإنكار إلى كيفية ثبوت العهد من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى ثبوته؛ لأن كل موجود يجب أن يكون وجوده على حال من الأحوال قطعا، فإذا انتفى جميع أحوال وجوده فقد انتفى وجوده على الطريق البرهاني، أي: على أي - أو في أي - حال يوجد لهم عهد معتد به.

                                                                                                                                                                                                                                      عند الله وعند رسوله يستحق أن يراعى حقوقه ويحافظ عليه إلى إتمام المدة، ولا يتعرض لهم بحسبه قتلا ولا أخذا، وأما أن يأمنوا به من عذاب الآخرة - كما قيل - فلا سبيل إلى اعتباره أصلا إذ لا دخل لعهدهم في ذلك الأمن قطعا، وإن كان مرعيا عند الله تعالى وعند رسوله كعهد غير الناكثين، وتكرير كلمة (عند) للإيذان بعدم الاعتداد به عند كل منهما على حدة.

                                                                                                                                                                                                                                      إلا الذين استدراك من النفي المفهوم من الاستفهام المتبادر شموله لجميع المعاهدين، أي: لكن الذين عاهدتم عند المسجد الحرام وهم المستثنون فيما سلف، والتعرض لكون المعاهدة عند المسجد الحرام لزيادة بيان أصحابها، والإشعار بسبب وكادتها، ومحله الرفع على الابتداء، خبره قوله تعالى: فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم والفاء لتضمنه معنى الشرط، و"ما" إما مصدرية منصوبة المحل على الظرفية بتقدير المضاف، أي: فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم، وإما شرطية منصوبة المحل على الظرفية الزمانية، أي: أي زمان استقاموا لكم فاستقيموا لهم، أو مرفوعة على الابتداء والعائد محذوف، أي: أي زمان استقاموا لكم فيه فاستقيموا لهم فيه، وقيل: الاستثناء متصل محله النصب على الأصل، أو الجر على البدل من المشركين، والمراد بهم الجنس لا المعهود، وأيا ما كان فحكم الأمر بالاستقامة ينتهي بانتهاء مدة العهد؛ لأن استقامتهم التي وقت بوقتها الاستقامة المأمور بها عبارة عن مراعاة حقوق العهد، وبعد انقضاء مدته لا عهد ولا استقامة، فصار عين الأمر الوارد فيما سلف، حيث قيل: (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) خلا أنه قد صرح ههنا بما لم يصرح به هناك - مع كونه معتبرا قطعا - وهو تقييد الإتمام المأمور به ببقائهم على ما كانوا عليه من الوفاء إن الله يحب المتقين تعليل للأمر بالاستقامة، وإشعار بأن القيام بموجب العهد من أحكام التقوى كما مر.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية