الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                          صفحة جزء
                                                                          ( والحكم بالصحة يستلزم ثبوت الملك والحيازة قطعا ) ، فمن ادعى أنه ابتاع من المدعى عليه عينا واعترف له بذلك لم يجز للحاكم الحكم بصحة البيع بمجرد ذلك ، حتى يدعي المدعي أنه باعه العين المذكورة وهو مالك ، ويقيم البينة بذلك . ( والحكم بالموجب ) بفتح الجيم ( حكم بموجب الدعوى الثابتة ببينة أو غيرها ) كالإقرار والنكول ، ( فالدعوى المشتملة على ما يقتضي صحة العقد المدعى به ) من نحو بيع أو إجارة ( الحكم فيها بالموجب حكم بالصحة ) ; لأنها من موجبه كسائر آثاره .

                                                                          قال الولي العراقي : فيكون الحكم بالموجب حينئذ أقوى مطلقا لسعته وتناوله الصحة وآثارها .

                                                                          ( و ) الدعوى ( غير المشتملة على ذلك ) أي ما يقتضي صحة العقد المدعى به كأن ادعى أنه باعه العين فقط ( الحكم فيها بالموجب ليس حكما بها ) أي : الصحة ، إذ موجب الدعوى حينئذ حصول صورة بيع بينهما ولم تشتمل الدعوى على ما يقتضي صحته ; حيث لم يذكر أن العين كانت للبائع ملكا ولم تقم به بينة ، وصحة العقد تتوقف على ذلك بخلاف ما سبق . لا يقال : هو أيضا في الأولى لم يدع الصحة فكيف يحكم له بها ؟ لأن دعواها وإن لم تكن صريحة فهي واقعة ضمنا ; لأنها مقصود المشتري .

                                                                          ( وقال بعضهم ) هو التقي السبكي وتبعه ابن قندس : ( الحكم بالموجب يستدعي صحة الصيغة ) أي الإيجاب [ ص: 505 ] والقبول قولين كانا أو فعلين ، أو صيغة الوقف أو العتق كذلك ، ( وأهلية المتصرف ) من بائع وواقف ونحوهما ، ( ويزيد الحكم بالصحة كونه تصرفه في محله ) بأن يكون تصرفه فيما يملكه ولا مانع منه ، ( وقاله ) السبكي ( أيضا الحكم بالموجب هو الأثر ) أي : الحكم بالأثر ( الذي يوجبه اللفظ ) أي : يترتب على صيغة العاقد ، ( و ) الحكم ( بالصحة كون اللفظ ) أي الصيغة ( بحيث يترتب عليه الأثر ) من انتقال الملك ونحوه ، فالحكم بالموجب حكم على العاقد بمقتضى عقده ، لا حكم بالعقد بخلاف الحكم بالصحة ، ( وهما ) أي : الحكم بالصحة والحكم بالموجب ( مختلفان فلا يحكم بالصحة إلا باجتماع لشروط ) أي : شروط العقد المحكوم بصحته ، وإن لم يجتمع ، فهو حكم بالموجب .

                                                                          ( والحكم بالإقرار ونحوه كالحكم بموجبه ) ، إذ معناه إلزام المقر بما أقر به وهو أثر إقراره ، ولا يحكم بالصحة ، نقله الولي العراقي عن شيخه البلقيني وقال : ولا يظهر لهذا معنى فليتأمل ، وقد رجع الشيخ إلى ما ذكرته أولا من أن الحكم بالموجب يتضمن الحكم بالصحة ( والحكم بالموجب لا يشمل الفساد انتهى ) ، هذا رد لقول القائل : إن الحكم بالموجب لا فائدة له ; لأن معناه حكمت بصحته إن كان صحيحا وبفساده إن كان فاسدا ، فهو تحصيل للحاصل ، وحاصل الجواب أن موجبه هي آثاره التي تترتب عليه ، والفساد ليس منها فلا يشمله الحكم بالموجب ، قال ( المنقح : والعمل على ذلك .

                                                                          وقالوا ) أي الأصحاب : ( الحكم بالموجب يرفع الخلاف ) ; لأنه حكم على العاقد بمقتضى ما ثبت عليه من العقد ، فلو وقف على نفسه وحكم بموجبه من يراه فليس لشافعي سماع دعوى الواقف في إبطال الوقف بمقتضى كونه وقفا على النفس ، حتى يتبين موجب لعدم صحة الوقف ككون الموقوف مرهونا مثلا . وقد ذكر الولي العراقي في رسالة له ذكرها في شرحه فروقا بين الحكم بالصحة والحكم بالموجب عن شيخه البلقيني مع مناقشته له ، وذكر ملخص ما اختاره غير ما سبق منها أن الحكم بالموجب يتناول الآثار بالتنصيص عليها للإتيان بلفظ عام يتناول جميع آثارها ، فإن موجب الشيء هو مقتضاه ، وهو مفرد مضاف فيعم كل موجب بخلاف لفظ الصحة ; فإنها إنما تتناول الآثار بالتضمن لا بالتنصيص عليها ، ومقتضاه أن يكون الحكم بالموجب أعلى ، وهو خلاف الاصطلاح ، ولو حكم حنفي [ ص: 506 ] بموجب التدبير لم يجز بيعه بعد ; لأن من موجبه منع بيع المدبر فقد صار محكوما بعدم بيعه في وقته ، بخلاف ما لو علق مكلف طلاق أجنبية على تزويجه بها وحكم بموجبه حنفي أو مالكي ثم تزوج بها وبادر شافعي وحكم باستمرار العصمة وعدم وقوع الطلاق نفذ حكمه ، ولم يكن نقضا لحكم الأول بموجب التعليق ; لأنه يتناول وقوع الطلاق لو تزوج بها ; لأنه أمر لم يقع إلى الآن فكيف يحكم على ما لم يقع ؟ ، ومنها إذا كان الصادر صحيحا باتفاق ووقع الاختلاف في موجبه ، فالحكم بالصحة لا يمنع من العمل بموجبه عند غير الحاكم بالصحة ، ولو حكم فيه بالموجب امتنع العمل بموجبه عند غير الحاكم بالموجب ، ولا بأس بهذا الفرق لكنه مقيد بما إذا كان جاء وقت الحكم بموجبه فمتى لم يجئ وقته فلغيره الحكم بموجبه عنده عند مجيء وقته .

                                                                          وقد يكون الحكم بالموجب أقوى كما لو حكم شافعي بموجب شراء دار فليس للحنفي أن يحكم بشفعتها للجار ، بخلاف ما لو كان الشافعي حكم بالصحة ، وكذا لو حكم بصحة التدبير لم يمنع حكم الشافعي ببيعه بعد ، بخلاف ما لو حكم بموجبه ، وكذا لو حكم شافعي بصحة إجارة ثم مات مؤجر فللحنفي إبطالها بالموت ، ولو كان حكم بموجبها لم يكن للحنفي الحكم بإبطالها بالموت ; لأن من موجبها الدوام والاستمرار للورثة . ونازع العراقي في هذه الصورة الثالثة ، وفرق بينها وبين اللتين قبلها بأن الحكم بموجب الإجارة قبل الموت لم يتوجه إلى عدم الانفساخ ; لأنه لم يجئ وقته ولم يوجد سببه . ولو وجه الحكم إليه فقال : حكمت بعدم انفساخ الإجارة إذا مات المستأجر لم يكن ذلك حكما ، وكيف يحكم على ما لم يقع ؟ قلت : وفيه نظر ; لأن عدم انفساخ الإجارة هو معنى لزومها وهو موجود منذ تفرقا من المجلس ، فهو كمنع بيع المدبر عند الحنفي بلا فرق . ثم نقل عن شيخه البلقيني ضابطا وهو أن المتنازع فيه إن كان صحة ذلك الشيء وكانت لوازمه لا تترتب إلا بعد صحته ، كان الحكم بالصحة رافعا لخلاف واستويا حينئذ .

                                                                          وإن كان المتنازع فيه الآثار واللوازم كان الحكم بالصحة غير رافع للخلاف ، وكان الحكم بالموجب رافعا وقوي الموجب حينئذ ، وإن كانت آثاره تترتب مع فساده قوي الحكم بالصحة على الحكم بالموجب ، لكن لو حكم حنفي بموجب وقف شرط فيه التغيير والزيادة والنقص ، فهل للشافعي المبادرة بعد التغيير [ ص: 507 ] إلى الحكم بإبطاله ; لأنه إلى الآن لم يقع كما سبق في مسألة التعليق ؟ أو ليس له ذلك كمسألة التدبير والشفعة ; لأن حكم الحنفي بموجبه يتضمن الإذن للواقف في التغيير ، فقد فعل ما هو مأذون له فيه من حاكم شرعي فليس لحاكم آخر منعه . قال : وقد تحرر من الفرق بين الحكم بالموجب والصحة أن الحكم بالصحة متوجه إلى نفس العقد صريحا وإلى آثاره تضمنا ، وأن الحكم بالموجب متوجه إلى الآثار صريحا وإلى نفس العقد تضمنا ، فليس أحدهما أقوى من الآخر إلا على ما بحثته من توجه الحكم بالموجب إلى صحة العقد وجميع آثاره صريحا ، فإن الصحة من موجبه فيكون الحكم بالموجب حينئذ أقوى مطلقا لسعته وتناوله الصحة وآثارها .

                                                                          التالي السابق


                                                                          الخدمات العلمية