الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3195 ] ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون (57) وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون (58) إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل (59) ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون (60) وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم (61) ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين (62) ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون (63) إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم (64) فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم (65) هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون (66) الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين (67) يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون (68) الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين (69) ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون (70) يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون (71) وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون (72) لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون (73) إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون (74) لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون (75) وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين (76) ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون (77) لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون (78) أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون (79) أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون (80) قل إن .كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين (81) سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون (82) فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون (83) وهو الذي في السماء إله وفي الأرض [ ص: 3196 ] إله وهو الحكيم العليم (84) وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون (85) ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون (86) ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون (87) وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون (88) فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون (89)

                                                                                                                                                                                                                                      في هذا الدرس الأخير من السورة يستطرد السياق إلى حكاية أساطيرهم حول عبادة الملائكة; ويحكي حادثا من حوادث الجدل الذي كانوا يزاولونه، وهم يدافعون عن عقائدهم الواهية، لا بقصد الوصول إلى الحق، ولكن مراء ومحالا!

                                                                                                                                                                                                                                      فلما قيل لهم: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم. وكان القصد هو أصنامهم التي جعلوها تماثيل للملائكة ثم عبدوها بذاتها. وقيل لهم: إن كل عابد وما يعبد من دون الله في النار. لما قيل لهم هذا ضرب بعضهم المثل بعيسى ابن مريم - وقد عبده المنحرفون من قومه - أهو في النار؟ وكان هذا مجرد جدل ومجرد مراء. ثم قالوا: إذا كان أهل الكتاب يعبدون عيسى وهو بشر فنحن أهدى إذ نعبد الملائكة وهم بنات الله! وكان هذا باطلا يقوم على باطل.

                                                                                                                                                                                                                                      وبهذه المناسبة يذكر السياق طرفا من قصة عيسى ابن مريم، يكشف عن حقيقته وحقيقة دعوته، واختلاف قومه من قبله ومن بعده..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يهدد المنحرفين عن سواء العقيدة جميعا بمجيء الساعة بغتة. وهنا يعرض مشهدا مطولا من مشاهد القيامة، يتضمن صفحة من النعيم للمتقين، وصفحة من العذاب الأليم للمجرمين.

                                                                                                                                                                                                                                      وينفي أساطيرهم عن الملائكة، وينزه الله - سبحانه - عما يصفون، ويعرفه لعباده ببعض صفاته وملكيته المطلقة للسماء والأرض والدنيا والآخرة وإليه يرجعون.

                                                                                                                                                                                                                                      ويختم السورة بتوجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الصفح عنهم والإعراض ويدعهم ليعلموا ما سيعلمون! وهو تهديد ملفوف يليق بالمجادلين المرائين بعد هذا الإيضاح والتبيين.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون. وقالوا: أآلهتنا خير أم هو؟ ما ضربوه لك إلا جدلا. بل هم قوم خصمون. إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل. ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون. وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون، هذا صراط مستقيم. ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين ..

                                                                                                                                                                                                                                      ولما جاء عيسى بالبينات قال: قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه، فاتقوا الله وأطيعون. إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم. فاختلف الأحزاب من بينهم، فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم ..

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3197 ] ذكر ابن إسحاق في السيرة قال: جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش ، فتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أفحمه. ثم تلا عليه وعليهم إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون .. الآيات.. ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقبل عبد الله بن الزبعرى التميمي حتى جلس. فقال الوليد بن المغيرة له: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب وما قعد! وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم. فقال عبد الله بن الزبعرى: أما والله لو وجدته لخصمته. سلوا محمدا أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد المسيح ابن مريم. فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعرى ورأوا أنه قد احتج وخاصم. فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده. فإنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته " فأنزل الله عز وجل: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون .. أي: عيسى وعزير ومن عبد معهما من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله عز وجل، فاتخذهم من بعدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله، ونزل فيما يذكر من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، وأنه يعبد من دون الله، وعجب الوليد ومن حضر من حجته وخصومته: ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون .. أي: يصدون عن أمرك بذلك..

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر صاحب الكشاف في تفسيره: " لما قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قريش : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم امتعضوا من ذلك امتعاضا شديدا. فقال عبد الله بن الزبعرى: يا محمد. أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال عليه السلام: " هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم " فقال: خصمتك ورب الكعبة! ألست تزعم أن عيسى ابن مريم نبي، وتثني عليه خيرا وعلى أمه؟ وقد علمت أن النصارى يعبدونهما؟ وعزير يعبد؟ والملائكة يعبدون؟ فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم! ففرحوا وضحكوا. وسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ونزلت هذه الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى: ولما ضرب عبد الله بن الزبعرى عيسى ابن مريم مثلا، وجادل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعبادة النصارى إياه إذا قومك - قريش - من هذا المثل يصدون ترتفع لهم جلبة وضجيج، فرحا وجذلا وضحكا بما سمعوا من إسكات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجدله، كما يرتفع لغط القوم ولجبهم إذا تعبوا بحجة ثم فتحت عليهم. وأما من قرأ " يصدون " بالضم فمن الصدود. أي: من أجل هذا المثل يصدون عن الحق ويعرضون عنه. وقيل: من الصديد وهو الجبة. وأنهما لغتان نحو يعكف ويعكف ونظائر لهما. وقالوا أآلهتنا خير أم هو؟ يعنون أن آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى; وإذا كان عيسى من حصب النار كان أمر آلهتنا هينا! " .

                                                                                                                                                                                                                                      ولم يذكر صاحب الكشاف من أين استقى روايته هذه. وهي تتفق في عمومها مع رواية ابن إسحاق.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن كليهما يتضح الالتواء في الجدل والمراء في المناقشة. ويتضح ما يقرره القرآن عن طبيعة القوم وهو يقول: بل هم قوم خصمون .. ذوو لدد في الخصومة، ومهارة فهم يدركون من أول الأمر ما يقصد إليه القرآن الكريم وما يقصد إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيلوونه عن استقامته، ويتلمسون شبهة في عموم اللفظ فيدخلون منها بهذه المماحكات الجدلية، التي يغرم بمثلها كل من عدم الإخلاص، وفقد الاستقامة; [ ص: 3198 ] يكابر في الحق، ويعمد إلى شبهة في لفظ أو عبارة أو منفذ خلفي للحقيقة! ومن ثم كان نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتشديده عن المراء، الذي لا يقصد به وجه الحق، إنما يراد به الغلبة من أي طريق.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، عن عبادة بن عبادة، عن جعفر، عن القاسم، عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على الناس وهم يتنازعون في القرآن. فغضب غضبا شديدا، حتى كأنما صب على وجهه الخل. ثم قال صلى الله عليه وسلم - : " لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض. فإنه ما ضل قوم قط إلا أوتوا الجدل " . ثم تلا - صلى الله عليه وسلم - ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهناك احتمال في تفسير قوله تعالى: وقالوا: أآلهتنا خير أم هو؟ يرشح له سياق الآيات في صدد أسطورتهم عن الملائكة. وهو أنهم عنوا أن عبادتهم للملائكة خير من عبادة النصارى لعيسى ابن مريم. بما أن الملائكة أقرب في طبيعتهم وأقرب نسبا - حسب أسطورتهم - من الله سبحانه وتعالى عما يصفون. ويكون التعقيب بقوله تعالى: ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون .. يعني الرد على ابن الزبعرى كما سبق. كما يعني أن ضربهم المثل بعبادة النصارى للمسيح باطل. فعمل النصارى ليس حجة لأنه انحراف عن التوحيد. كانحرافهم هم. فلا مجال للمفاضلة بين انحراف وانحراف. فكله ضلال. وقد أشار إلى هذا الوجه بعض المفسرين أيضا. وهو قريب.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية