الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ثم يستطرد في ضمانات المجتمع إلى مبدإ آخر يتصل باجتناب الظنون:

                                                                                                                                                                                                                                      ولا تجسسوا ..

                                                                                                                                                                                                                                      والتجسس قد يكون هو الحركة التالية للظن; وقد يكون حركة ابتدائية لكشف العورات، والاطلاع على السوءات.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3346 ] والقرآن يقاوم هذا العمل الدنيء من الناحية الأخلاقية، لتطهير القلب من مثل هذا الاتجاه اللئيم لتتبع عورات الآخرين وكشف سوآتهم. وتمشيا مع أهدافه في نظافة الأخلاق والقلوب.

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن الأمر أبعد من هذا أثرا. فهو مبدأ من مبادئ الإسلام الرئيسية في نظامه الاجتماعي، وفي إجراءاته التشريعية والتنفيذية.

                                                                                                                                                                                                                                      إن للناس حرياتهم وحرماتهم وكراماتهم التي لا يجوز أن تنتهك في صورة من الصور، ولا أن تمس بحال من الأحوال.

                                                                                                                                                                                                                                      ففي المجتمع الإسلامي الرفيع الكريم يعيش الناس آمنين على أنفسهم، آمنين على بيوتهم، آمنين على أسرارهم، آمنين على عوراتهم. ولا يوجد مبرر - مهما يكن - لانتهاك حرمات الأنفس والبيوت والأسرار والعورات.

                                                                                                                                                                                                                                      حتى ذريعة تتبع الجريمة وتحقيقها لا تصلح في النظام الإسلامي ذريعة للتجسس على الناس. فالناس على ظواهرهم، وليس لأحد أن يتعقب بواطنهم. وليس لأحد أن يأخذهم إلا بما يظهر منهم من مخالفات وجرائم. وليس لأحد أن يظن أو يتوقع، أو حتى يعرف أنهم يزاولون في الخفاء مخالفة ما، فيتجسس عليهم ليضبطهم! وكل ما له عليهم أن يأخذهم بالجريمة عند وقوعها وانكشافها، مع الضمانات الأخرى التي ينص عليها بالنسبة لكل جريمة.

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن زيد بن وهب. قال: أتى ابن مسعود، فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمرا. فقال عبد الله: إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به.

                                                                                                                                                                                                                                      وعن مجاهد: لا تجسسوا، خذوا بما ظهر لكم، ودعوا ما ستر الله.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن دجين كاتب عقبة. قال: قلت لعقبة: إن لنا جيرانا يشربون الخمر، وأنا داع لهم الشرط، فيأخذونهم. قال: لا تفعل ولكن عظهم وتهددهم. قال: ففعل فلم ينتهوا. قال: فجاءه دجين فقال: إني قد نهيتهم فلم ينتهوا. وإني داع لهم الشرط فتأخذهم. فقال له عقبة: ويحك! لا تفعل، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موؤودة من قبرها"

                                                                                                                                                                                                                                      وقال سفيان الثوري، عن راشد بن سعد، عن معاوية بن أبي سفيان، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم يقول: "إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم". فقال أبو الدرداء - رضي الله عنه - كلمة سمعها معاوية - رضي الله عنه - من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفعه الله تعالى بها .

                                                                                                                                                                                                                                      فهكذا أخذ النص طريقه في النظام العملي للمجتمع الإسلامي! ولم يعد مجرد تهذيب للضمير وتنظيف للقلب، بل صار سياجا حول حرمات الناس وحقوقهم وحرياتهم، فلا تمس من قريب أو بعيد، تحت أي ذريعة أو ستار.

                                                                                                                                                                                                                                      فأين هذا المدى البعيد؟ وأين هذا الأفق السامق؟ وأين ما يتعاجب به أشد الأمم ديمقراطية وحرية وحفظا لحقوق الإنسان بعد ألف وأربع مائة عام؟

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3347 ] بعد ذلك يجيء النهي عن الغيبة في تعبير عجيب، يبدعه القرآن إبداعا:

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يغتب بعضكم بعضا. أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا؟ فكرهتموه ..

                                                                                                                                                                                                                                      لا يغتب بعضكم بعضا. ثم يعرض مشهدا تتأذى له أشد النفوس كثافة وأقل الأرواح حساسية. مشهد الأخ يأكل لحم أخيه.. ميتا..! ثم يبادر فيعلن عنهم أنهم كرهوا هذا الفعل المثير للاشمئزاز، وأنهم إذن كرهوا الاغتياب!

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يعقب على كل ما نهاهم عنه في الآية من ظن وتجسس وغيبة باستجاشة شعور التقوى، والتلويح لمن اقترف من هذا شيئا أن يبادر بالتوبة تطلعا للرحمة:

                                                                                                                                                                                                                                      واتقوا الله إن الله تواب رحيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      ويسري هذا النص في حياة الجماعة المسلمة فيتحول إلى سياج حول كرامة الناس، وإلى أدب عميق في النفوس والقلوب. ويتشدد فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متمشيا مع الأسلوب القرآني العجيب في إثارة الاشمئزاز والفزع من شبح الغيبة البغيض.

                                                                                                                                                                                                                                      في حديث رواه أبو داود: حدثنا القعنبي، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله، ما الغيبة؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : "ذكرك أخاك بما يكره". قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته".. ورواه الترمذي وصححه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو داود: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن سفيان، حدثني علي بن الأقمر عن أبي حذيفة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - : حسبك من صفية كذا وكذا (قال عن مسدد تعني قصيرة) فقال - صلى الله عليه وسلم - : "لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته".

                                                                                                                                                                                                                                      قالت: وحكيت له إنسانا. فقال - صلى الله عليه وسلم - : "ما أحب أني حكيت إنسانا وأن لي كذا وكذا"..

                                                                                                                                                                                                                                      وروى أبو داود بإسناده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم. قلت: من هؤلاء يا جبرائيل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم"..

                                                                                                                                                                                                                                      ولما اعترف ماعز بالزنا هو والغامدية، ورجمهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد إقرارهما متطوعين وإلحاحهما عليه في تطهيرهما، سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلين يقول أحدهما لصاحبه: ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب! ثم سار النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى مر بجيفة حمار، فقال: "أين فلان وفلان؟ انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار". قالا: غفر الله لك يا رسول الله! وهل يؤكل هذا؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : "فما نلتما من أخيكما آنفا أشد أكلا منه. والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها".

                                                                                                                                                                                                                                      وبمثل هذا العلاج الثابت المطرد تطهر المجتمع الإسلامي وارتفع، وانتهى إلى ما صار إليه: حلما يمشي على الأرض، ومثلا يتحقق في واقع التاريخ.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3348 ] وبعد هذه النداءات المتكررة للذين آمنوا; وأخذهم إلى ذلك الأفق السامي الوضيء من الآداب النفسية والاجتماعية; وإقامة تلك السياجات القوية من الضمانات حول كرامتهم وحريتهم وحرماتهم، وضمان هذا كله بتلك الحساسية التي يثيرها في أرواحهم، بالتطلع إلى الله وتقواه..

                                                                                                                                                                                                                                      بعد هذه المدارج إلى ذلك الأفق السامق، يهتف بالإنسانية جميعها على اختلاف أجناسها وألوانها، ليردها إلى أصل واحد، وإلى ميزان واحد، هو الذي تقوم به تلك الجماعة المختارة الصاعدة إلى ذلك الأفق السامق:

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم. إن الله عليم خبير ..

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الناس. يا أيها المختلفون أجناسا وألوانا، المتفرقون شعوبا وقبائل. إنكم من أصل واحد. فلا تختلفوا ولا تتفرقوا ولا تتخاصموا ولا تذهبوا بددا.

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الناس. والذي يناديكم هذا النداء هو الذي خلقكم.. من ذكر وأنثى.. وهو يطلعكم على الغاية من جعلكم شعوبا وقبائل. إنها ليست التناحر والخصام. إنما هي التعارف والوئام. فأما اختلاف الألسنة والألوان، واختلاف الطباع والأخلاق، واختلاف المواهب والاستعدادات، فتنوع لا يقتضي النزاع والشقاق، بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف والوفاء بجميع الحاجات. وليس للون والجنس واللغة والوطن وسائر هذه المعاني من حساب في ميزان الله. إنما هنالك ميزان واحد تتحدد به القيم، ويعرف به فضل الناس: إن أكرمكم عند الله أتقاكم .. والكريم حقا هو الكريم عند الله. وهو يزنكم عن علم وعن خبرة بالقيم والموازين: إن الله عليم خبير ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا تسقط جميع الفوارق، وتسقط جميع القيم، ويرتفع ميزان واحد بقيمة واحدة، وإلى هذا الميزان يتحاكم البشر، وإلى هذه القيمة يرجع اختلاف البشر في الميزان.

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا تتوارى جميع أسباب النزاع والخصومات في الأرض; وترخص جميع القيم التي يتكالب عليها الناس. ويظهر سبب ضخم واضح للألفة والتعاون: ألوهية الله للجميع، وخلقهم من أصل واحد. كما يرتفع لواء واحد يتسابق الجميع ليقفوا تحته: لواء التقوى في ظل الله. وهذا هو اللواء الذي رفعه الإسلام لينقذ البشرية من عقابيل العصبية للجنس، والعصبية للأرض، والعصبية للقبيلة، والعصبية للبيت. وكلها من الجاهلية وإليها، تتزيا بشتى الأزياء، وتسمى بشتى الأسماء. وكلها جاهلية عارية من الإسلام!

                                                                                                                                                                                                                                      وقد حارب الإسلام هذه العصبية الجاهلية في كل صورها وأشكالها، ليقيم نظامه الإنساني العالمي في ظل راية واحدة: راية الله.. لا راية الوطنية. ولا راية القومية. ولا راية البيت. ولا راية الجنس. فكلها رايات زائفة لا يعرفها الإسلام.

                                                                                                                                                                                                                                      قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كلكم بنو آدم، وآدم خلق من تراب. ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم، أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان".

                                                                                                                                                                                                                                      وقال - صلى الله عليه وسلم - عن العصبية الجاهلية: "دعوها فإنها منتنة".

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه هي القاعدة التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي. المجتمع الإنساني العالمي، الذي تحاول البشرية [ ص: 3349 ] في خيالها المحلق أن تحقق لونا من ألوانه فتخفق، لأنها لا تسلك إليه الطريق الواحد الواصل المستقيم.. الطريق إلى الله.. ولأنها لا تقف تحت الراية الواحدة المجمعة.. راية الله..

                                                                                                                                                                                                                                      وفي ختام السورة تأتي المناسبة لبيان حقيقة الإيمان وقيمته، في الرد على الأعراب الذين قالوا: "آمنا" وهم لا يدركون حقيقة الإيمان. والذين منوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم أسلموا وهم لا يقدرون منة الله على عباده بالإيمان:

                                                                                                                                                                                                                                      قالت الأعراب: آمنا. قل: لم تؤمنوا، ولكن قولوا أسلمنا. ولما يدخل الإيمان في قلوبكم. وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا، إن الله غفور رحيم. إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله، ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون. قل: أتعلمون الله بدينكم؟ والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض، والله بكل شيء عليم. يمنون عليك أن أسلموا. قل: لا تمنوا علي إسلامكم، بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين. إن الله يعلم غيب السماوات والأرض، والله بصير بما تعملون ..

                                                                                                                                                                                                                                      قيل: إنها نزلت في أعراب بني أسد. قالوا: آمنا. أول ما دخلوا في الإسلام. ومنوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: يا رسول الله أسلمنا وقاتلتك العرب ولم نقاتلك. فأراد الله أن يعلمهم حقيقة ما هو قائم في نفوسهم وهم يقولون هذا القول. وأنهم دخلوا في الإسلام استسلاما، ولم تصل قلوبهم بعد إلى مرتبة الإيمان. فدل بهذا على أن حقيقة الإيمان لم تستقر في قلوبهم. ولم تشربها أرواحهم: قل: لم تؤمنوا. ولكن قولوا: أسلمنا. ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ..

                                                                                                                                                                                                                                      ومع هذا فإن كرم الله اقتضى أن يجزيهم على كل عمل صالح يصدر منهم لا ينقصهم منه شيئا. فهذا الإسلام الظاهر الذي لم يخالط القلب فيستحيل إيمانا واثقا مطمئنا. هذا الإسلام يكفي لتحسب لهم أعمالهم الصالحة فلا تضيع كما تضيع أعمال الكفار. ولا ينقص من أجرها شيء عند الله ما بقوا على الطاعة والاستسلام: وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا . ذلك أن الله أقرب إلى المغفرة والرحمة، فيقبل من العبد أول خطوة، ويرضى منه الطاعة والتسليم، إلى أن يستشعر قلبه الإيمان والطمأنينة: إن الله غفور رحيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية