الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ثم يمضي السياق يصف حال أهل الكتاب ; ويبين ما في هذه الحال من نقائص; ويقرر القيم الصحيحة التي يقوم عليها الإسلام دين المسلمين . ويبدأ فيعرض نموذجين من نماذج أهل الكتاب في التعامل والتعاقد:

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما. ذلك بأنهم قالوا: ليس علينا في الأميين سبيل، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنها خطة الإنصاف والحق وعدم البخس والغبن يجري عليها القرآن الكريم في وصف حال أهل الكتاب الذين كانوا يواجهون الجماعة المسلمة حينذاك; والتي لعلها حال أهل الكتاب في جميع الأجيال. ذلك أن خصومة أهل الكتاب للإسلام والمسلمين ، ودسهم وكيدهم وتدبيرهم الماكر اللئيم، وإرادتهم الشر بالجماعة المسلمة وبهذا الدين.. كل ذلك لا يجعل القرآن يبخس المحسنين منهم حقهم، حتى في معرض الجدل والمواجهة.

                                                                                                                                                                                                                                      فهو هنا يقرر أن من أهل الكتاب ناسا أمناء ، لا يأكلون الحقوق مهما كانت ضخمة مغرية:

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ..

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن منهم كذلك الخونة الطامعين المماطلين، الذين لا يردون حقا - وإن صغر - إلا بالمطالبة والإلحاح والملازمة. ثم هم يفلسفون هذا الخلق الذميم، بالكذب على الله عن علم وقصد:

                                                                                                                                                                                                                                      ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما. ذلك بأنهم قالوا: ليس علينا في الأميين سبيل. ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه بالذات صفة يهود . فهم الذين يقولون هذا القول; ويجعلون للأخلاق مقاييس متعددة. فالأمانة بين اليهودي واليهودي. أما غير اليهود ويسمونهم الأميين وكانوا يعنون بهم العرب "وهم في الحقيقة يعنون كل من سوى اليهود " فلا حرج على اليهودي في أكل أموالهم، وغشهم وخداعهم، والتدليس عليهم، واستغلالهم بلا تحرج من وسيلة خسيسة ولا فعل ذميم!.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن العجب أن يزعموا أن إلههم ودينهم يأمرهم بهذا. وهم يعلمون أن هذا كذب. وأن الله لا يأمر بالفحشاء، ولا يبيح لجماعة من الناس أن يأكلوا أموال جماعة من الناس سحتا وبهتانا، وألا يرعوا معهم عهدا ولا ذمة، وأن ينالوا منهم بلا تحرج ولا تذمم. ولكنها يهود ! يهود التي اتخذت من عداوة البشرية والحقد عليها ديدنا ودينا:

                                                                                                                                                                                                                                      ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ..

                                                                                                                                                                                                                                      هنا نجد القرآن الكريم يقرر قاعدته الخلقية الواحدة، وميزانه الخلقي الواحد. ويربط نظرته هذه بالله وتقواه:

                                                                                                                                                                                                                                      بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم. ولهم عذاب أليم .. [ ص: 418 ] فهي قاعدة واحدة من راعاها وفاء بعهد الله وشعورا بتقواه أحبه الله وأكرمه. ومن اشترى بعهد الله وبأيمانه ثمنا قليلا - من عرض هذه الحياة الدنيا أو بالدنيا كلها وهي متاع قليل - فلا نصيب له في الآخرة. ولا رعاية له عند الله ولا قبول، ولا زكاة له ولا طهارة. وإنما هو العذاب الأليم.

                                                                                                                                                                                                                                      ونلمح هنا أن الوفاء بالعهد مرتبط بالتقوى . ومن ثم لا يتغير في التعامل مع عدو أو صديق. فليس هو مسألة مصلحة. إنما هو مسألة تعامل مع الله أبدا. دونما نظر إلى من يتعامل معهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه هي نظرية الإسلام الأخلاقية بصفة عامة. في الوفاء بالعهد وفي سواه من الأخلاق: التعامل هو أولا تعامل مع الله، يلحظ فيه جناب الله، ويتجنب به سخطه ويطلب به رضاه. فالباعث الأخلاقي ليس هو المصلحة; وليس هو عرف الجماعة، ولا مقتضيات ظروفها القائمة. فإن الجماعة قد تضل وتنحرف، وتروج فيها المقاييس الباطلة. فلا بد من مقياس ثابت ترجع إليه الجماعة كما يرجع إليه الفرد على السواء. ولا بد أن يكون لهذا المقياس فوق ثباته قوة يستمدها من جهة أعلى.. أعلى من اصطلاح الناس ومن مقتضيات حياتهم المتغيرة.. ومن ثم ينبغي أن تستمد القيم والمقاييس من الله; بمعرفة ما يرضيه من الأخلاق والتطلع إلى رضاه والشعور بتقواه.. بهذا يضمن الإسلام تطلع البشرية الدائم إلى أفق أعلى من الأرض; واستمدادها القيم والموازين من ذلك الأفق الثابت السامق الوضيء.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ثم يجعل الذين يخيسون بالعهد ويغدرون بالأمانة.. يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا .. فالعلاقة في هذا بينهم وبين الله قبل أن تكون بينهم وبين الناس.. ومن هنا فلا نصيب لهم في الآخرة عنده، إن كانوا يبغون بالغدر والنكث بالعهد ثمنا قليلا هو هذه المصالح الدنيوية الزهيدة! ولا رعاية لهم من الله في الآخرة جزاء استهانتهم بعهده - وهو عهدهم مع الناس - في الدنيا.

                                                                                                                                                                                                                                      ونجد هنا أن القرآن قد سلك طريقة التصوير في التعبير. وهو يعبر عن إهمال الله لهم وعدم رعايتهم، بأنه لا يكلمهم ولا ينظر إليهم ولا يطهرهم.. وهي أعراض الإهمال التي يعرفها الناس.. ومن ثم يتخذها القرآن وسيلة لتصوير الموقف صورة حية تؤثر في الوجدان البشري أعمق مما يؤثر التعبير التجريدي. على طريقة القرآن في ظلاله وإيحاءاته الجميلة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية