الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وبعد بيان صفة المؤمنين الصادقين وصفة المنافقين الذين يدعون الإيمان.. يأمر الله نبيه أن يجاهد الكفار والمنافقين. ويقرر القرآن الكريم أن هؤلاء المنافقين قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم، وهموا بأمر خيبهم الله فيه، وهو من وحي الكفر الذي صاروا إليه. ويعجب من نقمتهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كان لهم من بعثته إلا الخير والغنى. ويرغبهم في التوبة ويخوفهم التمادي في الكفر والنفاق:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1677 ] يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم، ومأواهم جهنم وبئس المصير. يحلفون بالله ما قالوا، ولقد قالوا كلمة الكفر، وكفروا بعد إسلامهم، وهموا بما لم ينالوا. وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله. فإن يتوبوا يك خيرا لهم، وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة، وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ..

                                                                                                                                                                                                                                      لقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - لاين المنافقين كثيرا، وأغضى عنهم كثيرا، وصفح عنهم كثيرا.. فها هو ذا يبلغ الحلم غايته، وتبلغ السماحة أجلها، ويأمره ربه أن يبدأ معهم خطة جديدة، ويلحقهم بالكافرين في النص، ويكلفه جهاد هؤلاء وهؤلاء جهادا عنيفا غليظا لا رحمة فيه ولا هوادة.

                                                                                                                                                                                                                                      إن للين مواضعه وللشدة مواضعها. فإذا انتهى أمد اللين فلتكن الشدة; وإذا انقضى عهد المصابرة فليكن الحسم القاطع.. وللحركة مقتضياتها، وللمنهج مراحله. واللين في بعض الأحيان قد يؤذي، والمطاولة قد تضر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد اختلف في الجهاد والغلظة على المنافقين. أتكون بالسيف كما روي عن علي - كرم الله وجهه - واختاره ابن جرير - رحمه الله - أم تكون في المعاملة والمواجهة وكشف خبيئاتهم للأنظار كما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - والذي وقع - كما سيجيء - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل المنافقين..

                                                                                                                                                                                                                                      يحلفون بالله ما قالوا. ولقد قالوا كلمة الكفر، وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا ..

                                                                                                                                                                                                                                      والنص في عمومه يستعرض حالة المنافقين في كثير من مواقفهم، ويشير إلى ما أرادوه مرارا من الشر للرسول - صلى الله عليه وسلم - وللمسلمين.. وهناك روايات تحدد حادثة خاصة لسبب نزول الآية:

                                                                                                                                                                                                                                      قال قتادة: نزلت في عبد الله بن أبي. وذلك أنه اقتتل رجلان، جهني وأنصاري، فعلا الجهني على الأنصاري، فقال عبد الله للأنصاري: ألا تنصرون أخاكم؟ والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك. وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل إليه فسأله، فجعل يحلف بالله ما قاله، فأنزل الله فيه هذه الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      ويروي الإمام أبو جعفر بن جرير بإسناده عن ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا تحت ظل شجرة، فقال: "إنه سيأتيكم إنسان، فينظر إليكم بعين الشيطان، فإذا جاء فلا تكلموه". فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "علام تشتمني أنت وأصحابك؟" فانطلق الرجل فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا، حتى تجاوز عنهم، فأنزل الله عز وجل: يحلفون بالله ما قالوا... الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وروي عن عروة بن الزبير وغيره ما مؤداه: أنها نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت. كان له ربيب من امرأته اسمه عمير بن سعد، فقال الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقا فنحن أشر من حمرنا هذه التي نحن عليها. فقال عمير: والله يا جلاس إنك لأحب الناس إلي، وأحسنهم عندي بلاء، وأعزهم على أن يصله شيء يكره; ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحني، ولئن كتمتها لتهلكني، ولإحداهما أهون علي من الأخرى. فأخبر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنكرها وحلف بالله ما قالها، فأنزل الله الآيات. فقال الرجل قد قلته، وقد عرض الله علي التوبة، فأنا أتوب، فقبل منه ذلك..

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن هذه الروايات لا تنسجم مع عبارة: وهموا بما لم ينالوا وهذه تضافر الروايات على أن المعني بها ما أراده جماعة من المنافقين في أثناء العودة من الغزوة، من قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيلة وهو عائد من تبوك. فنختار إحداها:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1678 ] قال الإمام أحمد - رحمه الله - حدثنا يزيد أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي الطفيل قال: لما أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك أمر مناديا فنادى: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ العقبة ، فلا يأخذها أحد. فبينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوده حذيفة ويسوقه عمار إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل، فغشوا عمارا وهو يسوق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقبل عمار - رضي الله عنه - يضرب وجوه الرواحل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحذيفة "قد. قد" حتى هبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ورجع عمار. فقال يا عمار: "هل عرفت القوم؟" فقال: لقد عرفت عامة الرواحل والقوم متلثمون. قال: " هل تدري ما أرادوا؟ " قال: الله ورسوله أعلم. قال: "أرادوا أن ينفروا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - راحلته فيطرحوه" قال: فسأل عمار رجلا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: نشدتك بالله، كم تعلم كان أصحاب العقبة؟ قال: أربعة عشر رجلا. فقال: إن كنت منهم فقد كانوا خمسة عشر. قال: فعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم ثلاثة قالوا: والله ما سمعنا منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما علمنا ما أراد القوم. فقال عمار: أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.

                                                                                                                                                                                                                                      هذه الحادثة تكشف عن دخيلة القوم. وسواء كانت هي أو شيء مثلها هو الذي تعنيه الآية، فإنه ليبدو عجيبا أن تنطوي صدور القوم على مثل هذه الخيانة. والنص يعجب هنا منهم:

                                                                                                                                                                                                                                      وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ..

                                                                                                                                                                                                                                      فما من سيئة قدمها الإسلام لهم ينقمون عليه هذه النقمة من أجلها.. اللهم إلا أن يكون الغنى الذي غمرهم بعد الإسلام، والرخاء الذي أصابهم بسببه هو ما ينقمون!

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يعقب على هذا التعجيب من أمرهم، بعد كشف خبيئاتهم بالحكم الفاصل:

                                                                                                                                                                                                                                      فإن يتوبوا يك خيرا لهم، وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة، وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ..

                                                                                                                                                                                                                                      بعد هذا كله يظل باب التوبة مفتوحا على مصراعيه. فمن شاء لنفسه الخير فليدلف إلى الباب المفتوح. ومن أراد أن يمضي في طريقه الأعوج، فالعاقبة كذلك معروفة: العذاب الأليم في الدنيا والآخرة. وانعدام الناصر والمعين في هذه الأرض.. ولمن شاء أن يختار، وهو وحده الملوم:

                                                                                                                                                                                                                                      فإن يتوبوا يك خيرا لهم، وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة، وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يمضي السياق في عرض نماذج من المنافقين وأحوالهم وأقوالهم من قبل الغزوة وفي ثناياها.

                                                                                                                                                                                                                                      ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين. فلما آتاهم من فضله بخلوا به، وتولوا وهم معرضون، فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه، بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون .

                                                                                                                                                                                                                                      من المنافقين من عاهد الله لئن أنعم الله عليه ورزقه، ليبذلن الصدقة، وليصلحن العمل. ولكن هذا العهد [ ص: 1679 ] إنما كان في وقت فقره وعسرته. في وقت الرجاء والطمع. فلما أن استجاب الله له ورزقه من فضله نسي عهده، وتنكر لوعده، وأدركه الشح والبخل فقبض يده، وتولى معرضا عن الوفاء بما عاهد. فكان هذا النكث بالعهد مع الكذب على الله فيه سببا في التمكين للنفاق في قلبه، والموت مع هذا النفاق، ولقاء الله به.

                                                                                                                                                                                                                                      والنفس البشرية ضعيفة شحيحة، إلا من عصم الله، ولا تطهر من هذا الشح إلا أن تعمر بالإيمان، وترتفع على ضرورات الأرض، وتنطلق من قيود الحرص على النفع القريب، لأنها تؤمل في خلف أعظم، وتؤمل في رضوان من الله أكبر. والقلب المؤمن يطمئن بالإيمان، فلا يخشى الفقر بسبب الإنفاق، لأنه يثق بأن ما عند الناس ينفد وما عند الله باق. وهذا الاطمئنان يدفع به إلى إنفاق المال في سبيل الله تطوعا ورضى وتطهرا، وهو آمن مغبته. فحتى لو فقد المال وافتقر منه، فإن له عوضا أعظم عند الله.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما حين يفقر القلب من الإيمان الصحيح، فالشح الفطري يهيج في نفسه كلما دعي إلى نفقة أو صدقة، والخوف من الفقر يتراءى له فيقعد به عن البذل. ثم يبقى سجين شحه وخوفه بلا أمن ولا قرار.

                                                                                                                                                                                                                                      والذي يعاهد الله ثم يخلف العهد، والذي يكذب على الله فلا يفي بما وعد، لا يسلم قلبه من النفاق:

                                                                                                                                                                                                                                      "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان".

                                                                                                                                                                                                                                      فلا جرم يعقب إخلاف العهد والكذب على الله نفاقا دائما في قلوب تلك الطائفة التي تشير إليها الآية:

                                                                                                                                                                                                                                      فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ..

                                                                                                                                                                                                                                      ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب ؟

                                                                                                                                                                                                                                      ألم يعلموا - وهم يدعون الإيمان - أن الله مطلع على السرائر، عالم بما يدور بينهم من أحاديث، يحسبونها سرا بينهم لأنهم يتناجون بها في خفية عن الناس؟ وأن الله يعلم الغيب الخافي المستور، فيعلم حقيقة النوايا في الصدور؟ ولقد كان من مقتضى علمهم بهذا ألا يستخفوا عن الله بنية، وألا تحدثهم نفوسهم بإخلاف ما عاهدوا الله عليه، والكذب عليه في إعطاء العهود.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد وردت روايات عن سبب نزول الآيات الثلاث، نذكر منها رواية عن ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث معان - بإسناده - عن أبي أمامة الباهلي عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ادع الله أن يرزقني مالا. قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه" قال: ثم قال مرة أخرى. فقال: "أما ترضى أن تكون مثل نبي الله فوالذي نفسي بيده لو شئت أن تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت" قال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اللهم ارزق ثعلبة مالا" قال: فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود، فضاقت المدينة، فتنحى عنها فنزل واديا من أوديتها، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما، ثم نمت وكثرت فتنحى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تنمي كما ينمو الدود حتى ترك الجمعة، فطفق يتلقى الركبان يوم الجمعة ليسألهم عن الأخبار. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ما فعل ثعلبة؟" فقالوا يا رسول الله اتخذ غنما فضاقت عليه المدينة، فأخبروه بأمره، فقال: "يا ويح ثعلبة! يا ويح ثعلبة! يا ويح ثعلبة!" وأنزل الله جل ثناؤه: خذ من أموالهم صدقة .. الآية.. ونزلت فرائض الصدقة، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلين [ ص: 1680 ] على الصدقة من المسلمين. رجلا من جهينة ورجلا من سليم، وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة من المسلمين; وقال لهما: مرا بثعلبة وبفلان - رجل من بني سليم - فخذا صدقاتهما. فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة. وأقرآه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما هذه إلا جزية. ما هذه إلا أخت الجزية. ما أدري ما هذا؟ انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إلي. وسمع بهما السلمي، فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهما بها، فلما رأوها قالوا: ما يجب عليك هذا، وما نريد أن نأخذ هذا منك. فقال: بل فخذوها فإن نفسي بذلك طيبة وإنما هي له، فأخذاها منه ومرا على الناس فأخذا الصدقات. ثم رجعا إلى ثعلبة فقال: أروني كتابكما فقرأه فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية. انطلقا حتى أرى رأيي. فانطلقا حتى أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما رآهما قال: "يا ويح ثعلبة" قبل أن يكلمهما، ودعا للسلمي بالبركة، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة والذي صنع السلمي. فأنزل الله عز وجل ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن... الآية. وعند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من أقارب ثعلبة فسمع بذلك، فخرج حتى أتاه، فقال: ويحك يا ثعلبة! أنزل الله فيك كذا وكذا; فخرج ثعلبة حتى أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله أن يقبل منه صدقته، فقال: "إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك" فجعل يحثو على رأسه التراب، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "هذا عملك، قد أمرتك فلم تطعني" فلما أبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقبض صدقته رجع إلى منزله; فقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقبل منه شيئا. ثم أتى أبا بكر - رضي الله عنه - حين استخلف، فقال: قد علمت منزلتي من رسول الله وموضعي من الأنصار فاقبل صدقتي; فقال أبو بكر: لم يقبلها منك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبى أن يقبلها; فقبض أبو بكر ولم يقبلها. فلما ولي عمر - رضي الله عنه - أتاه فقال: يا أمير المؤمنين اقبل صدقتي، فقال: لم يقبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر، وأنا أقبلها منك؟ فقبض ولم يقبلها. فلما ولي عثمان - رضي الله عنه - أتاه فقال: اقبل صدقتي، فقال: لم يقبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ولا عمر، وأنا أقبلها منك؟ فلم يقبلها منه. فهلك ثعلبة في خلافة عثمان..

                                                                                                                                                                                                                                      وسواء كانت هذه الواقعة مصاحبة لنزول الآيات أو كان غيرها، فإن النص عام، وهو يصور حالة عامة، ويرسم نموذجا مكررا للنفوس التي لم تستيقن، ولم يبلغ الإيمان فيها أن يتمكن. وإذا كانت الرواية صحيحة في ربط الحادثة بنزول الآيات، فإن علم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن نقض العهد والكذب على الله قد أورث المخلفين نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه، يكون هو الذي منعه من قبول صدقة ثعلبة وتوبته التي ظهر بها، ولم يعامله بالظاهر حسب الشريعة. إنما عامله بعلمه بحاله الذي لا شك فيه، لأنه إخبار من العليم الخبير. وكان تصرفه - صلى الله عليه وسلم - تصرفا تأديبيا برد صدقته مع عدم اعتباره مرتدا فيؤخذ بعقوبة الردة ولا مسلما فتقبل منه زكاته. ولا يعني هذا إسقاط الزكاة عن المنافقين شريعة. إن الشريعة تأخذ الناس بظاهرهم. فيما ليس فيه علم يقيني، كالذي كان في هذا الحادث الخاص، فلا يقاس عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      غير أن رواية الحادث تكشف لنا كيف كان المسلمون الأوائل ينظرون إلى الزكاة المفروضة. إنهم كانوا يحتسبونها نعمة عليهم، من يحرم أداءها أو يحرم قبولها منه، فهو الخاسر الذي يستحق الترحم مما أصابه من رفض زكاته! مدركين لحقيقة المعنى الكامن في قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ..

                                                                                                                                                                                                                                      فكانت لهم غنما ينالونه لا غرما يحملونه. وهذا هو الفارق بين فريضة تؤدى ابتغاء رضوان الله وضريبة تدفع لأن القانون يحتمها ويعاقب عليها الناس!

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1681 ] والآن يعرض السياق لونا آخر من تصورات المنافقين للزكاة يخالفون به ذلك التصور الحق عند المؤمنين الصادقين; ويكشف عن لون من طبيعة الغمز فيهم واللمز، النابعين من طبعهم المنحرف المدخول:

                                                                                                                                                                                                                                      الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات، والذين لا يجدون إلا جهدهم، فيسخرون منهم. سخر الله منهم ولهم عذاب أليم ..

                                                                                                                                                                                                                                      والقصة المروية عن سبب نزول هذه الآية، تصور نظرة المنافقين المنحرفة لطبيعة الإنفاق في سبيل الله وبواعثه في النفوس.

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج ابن جرير من طريق يحيى بن أبي كثير، ومن طريق سعيد عن قتادة وابن أبي حاتم من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة - بألفاظ مختلفة - قال: حث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الصدقة (يعني في غزوة تبوك) فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف فقال: يا رسول الله مالي ثمانية آلاف، جئتك بنصفها وأمسكت نصفها. فقال: "بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت". وجاء أبو عقيل بصاع من تمر فقال: يا رسول الله أصبت صاعين من تمر صاع أقرضه لربي وصاع لعيالي. قال: فلمزه المنافقون، وقالوا: ما الذي أعطى ابن عوف إلا رياء. وقالوا: ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا؟

                                                                                                                                                                                                                                      وفي روايات أخرى أنهم قالوا عن أبي عقيل، وهو الذي بات يعمل ليحصل على صاعين أجرا له، جاء بأحدهما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنه إنما أراد أن يذكر بنفسه!

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا تقولوا على المؤمنين الذين انبعثوا إلى الصدقة عن طواعية نفس، ورضا قلب، واطمئنان ضمير، ورغبة في المساهمة في الجهاد كل على قدر طاقته، وكل على غاية جهده. ذلك أنهم لا يدركون بواعث هذا التطوع في النفوس المؤمنة. لا يدركون حساسية الضمير التي لا تهدأ إلا بالبذل عن طيب خاطر. لا يدركون المشاعر الرفرافة التي تنبعث انبعاثا ذاتيا، لتلبي دواعي الإيمان والتضحية والمشاركة. من أجل هذا يقولون عن المكثر: إنه يبذل رياء، وعن المقل! إنه يذكر بنفسه، يجرحون صاحب الكثير لأنه يبذل كثيرا، ويحتقرون صاحب القليل لأنه يبذل القليل. فلا يسلم من تجريحهم وعيبهم أحد من الخيرين. ذلك وهم قاعدون متخلفون منقبضو الأيدي شحيحو الأنفس، لا ينفقون إلا رياء، ولا يدركون من بواعث النفوس إلا مثل هذا الباعث الصغير الحقير.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ثم يجبههم الرد الحاسم الجازم:

                                                                                                                                                                                                                                      سخر الله منهم ولهم عذاب أليم ..

                                                                                                                                                                                                                                      ويا لهولها سخرية. ويا لهولها عاقبة. فمن شرذمة صغيرة هزيلة من البشر الضعاف الفانين وسخرية الخالق الجبار تنصب عليهم وعذابه يترقبهم؟! ألا إنه للهول المفزع الرهيب!

                                                                                                                                                                                                                                      استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم، ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله، والله لا يهدي القوم الفاسقين ..

                                                                                                                                                                                                                                      هؤلاء المنافقون الذين يلمزون المتطوعين بالصدقات على هذا النحو، قد تقرر مصيرهم، فما عاد يتبدل:

                                                                                                                                                                                                                                      فلن يغفر الله لهم ..

                                                                                                                                                                                                                                      لن يجديهم استغفار، فإنه وعدم الاستغفار لهم سواء.

                                                                                                                                                                                                                                      ويبدو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يستغفر للمخطئين عسى أن يتوب الله عليهم. فأما هؤلاء فقد أخبر بأن مصيرهم قد تقرر، فلا رجعة فيه:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1682 ] ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله .. والله لا يهدي القوم الفاسقين ..

                                                                                                                                                                                                                                      أولئك الذين انحرفوا عن الطريق فلم تعد ترجى لهم أوبة. وفسدت قلوبهم فلم يعد يرجى لها صلاح..

                                                                                                                                                                                                                                      إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ..

                                                                                                                                                                                                                                      والسبعون تذكر عادة للتكثير، لا على أنها رقم محدد. والمعنى العام أن لا رجاء لهم في مغفرة، لأنه لا سبيل لهم إلى توبة. والقلب البشري حين يصل إلى حد معين من الفساد لا يصلح، والضلال حين ينتهي إلى أمد معين لا يرجى بعده اهتداء. والله أعلم بالقلوب.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية