الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت تلك طبيعة البيعة، كان التخلف عن الجهاد للقادرين - أيا كانت الأسباب - أمرا مستنكرا عظيما; وكان ما بدا في الغزوة من التردد والتخلف ظاهرة لا بد من تتبعها والتركيز عليها.. وفي الآيات التالية يبين مدى فضل الله ورحمته بالمؤمنين إذ يتجاوز عما بدا من التردد والتخلف من المؤمنين المخلصين، ويتوب عليهم فيما وقع منهم من أخطاء صغرت أم كبرت.. كذلك يبين عن مصير الثلاثة الذين خلفوا بغير حكم في أمرهم - وهم المرجون لأمر الله الذين سبق ذكرهم - حتى نزل هذا الحكم بعد فترة من الزمان:

                                                                                                                                                                                                                                      لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة، من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم، ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم. وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا. إن الله هو التواب الرحيم .

                                                                                                                                                                                                                                      وتوبة الله على النبي - صلى الله عليه وسلم - تفهم بالرجوع إلى ما كان في أحداث الغزوة بجملتها; والظاهر أنها متعلقة بما سبق أن قال الله عنه لنبيه: عفا الله عنك. لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين .. ذلك حين استأذنه جماعة من أولي الطول بأعذار منتحلة فأذن لهم، وقد عفا الله عنه في اجتهاده - [ ص: 1723 ] صلى الله عليه وسلم - مع تنبيهه إلى أن الأولى كان هو التريث حتى يتبين الصادقين في أعذارهم من الكاذبين المتمحلين!

                                                                                                                                                                                                                                      وتوبته على المهاجرين والأنصار يشير النص الذي بين أيدينا إلى ملابساتها في قوله تعالى: الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم .. وقد كان بعضهم تثاقل في الخروج ثم لحق بالركب كما سنفصل - وهم من خلص المؤمنين - وبعضهم استمع للمنافقين المرجفين بهول لقاء الروم! ثم ثبت الله قلبه ومضى بعد تردد.

                                                                                                                                                                                                                                      ويحسن أن نستعرض بعض ظروف الغزوة وملابساتها لنعيش في جوها الذي يقرر الله - سبحانه - أنه كان "ساعة العسرة". ولندرك طبيعة الانفعالات والحركات التي صاحبتها (ونحن نلخص في هذا من السيرة لابن هشام، ومن إمتاع الأسماع للمقريزي، ومن البداية والنهاية لابن كثير، ومن تفسير ابن كثير):

                                                                                                                                                                                                                                      لما نزل قوله تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون... أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم (ويلاحظ أن الاشتباك بالروم كان قد سبق نزول هذه الآيات في غزوة مؤتة فهذا الأمر الأخير إنما جاء تقريرا للخطة الدائمة المستقرة في آخر ما نزل من القرآن) وذلك في زمن عسرة من الناس، وشدة من الحر، وجدب من البلاء، وحين طابت الثمار، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص على الحال والزمان الذي هم عليه. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها، وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له (أي: يقصد إليه) إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بينها للناس، لبعد الشقة، وشدة الزمان، وكثرة العدو الذي يصمد له، ليتأهب الناس لذلك أهبته. فأمر الناس بالجهاد، وأخبرهم أنه يريد الروم.

                                                                                                                                                                                                                                      واستأذن بعض المنافقين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التخلف مخافة الفتنة ببنات الروم! فأذن! وفي هذا نزل عتاب الله لنبيه في الإذن مصدرا بالعفو عنه في اجتهاده: عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفروا في الحر - زهادة في الجهاد، وشكا في الحق، وإرجافا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم: وقالوا: لا تنفروا في الحر، قل: نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون .

                                                                                                                                                                                                                                      وبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ناسا من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي، يثبطون الناس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك; فبعث إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - طلحة ابن عبيد الله في نفر من أصحابه، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم، ففعل طلحة، فاقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت فانكسرت رجله، واقتحم أصحابه فأفلتوا. ثم تاب الضحاك.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جد في سفره وأمر الناس بالجهاز والإسراع. وحض أهل الغنى على النفقة وحمل المجاهدين الذين لا يجدون ما يركبون; فحمل رجال من أهل الغنى محتسبين عند الله. وكان في مقدمة المنفقين المحتسبين، عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فأنفق نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها.. قال ابن هشام: فحدثني من أثق به أن عثمان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض" . وقال عبد الله بن أحمد في مسند أبيه - [ ص: 1724 ] بإسناده - عن عبد الرحمن بن حباب السلمي، قال: خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - فحث على جيش العسرة، فقال عثمان بن عفان: علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها. قال: ثم نزل مرقاة من المنبر، ثم حث، فقال عثمان: علي مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها. قال: فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول بيده هكذا يحركها (وأخرج عبد الصمد يده كالمتعجب): "ما على عثمان ما عمل بعد هذا".. (وهكذا رواه الترمذي عن محمد بن يسار عن أبي داود الطيالسي، عن سكن بن المغيرة أبي محمد مولى لآل عثمان به. وقال: غريب من هذا الوجه). ورواه البيهقي من طريق عمرو بن مرزوق عن سكن بن المغيرة به، وقال: ثلاث مرات وأنه التزم بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها..

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير من طريق يحيى بن أبي كثير، ومن طريق سعيد عن قتادة وابن أبي حاتم من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة - بألفاظ مختلفة - قال: حث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الصدقة (يعني في غزوة تبوك) فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف (أي: درهم) ، فقال يا رسول الله، مالي ثمانية آلاف، جئتك بنصفها وأمسكت نصفها. فقال: "بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت". وجاء أبو عقيل بصاع من تمر فقال: يا رسول الله أصبت صاعين من تمر، صاع أقرضه لربي وصاع لعيالي. قال: فلمزه المنافقون، وقالوا: ما الذي أعطى ابن عوف إلا رياء. وقالوا ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا؟!

                                                                                                                                                                                                                                      وفي روايات أخرى أنهم قالوا عن أبي عقيل (وهو الذي بات يعمل عند يهودي ليحصل على صاعين أجرا له جاء بأحدهما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) إنه إنما أراد أن يذكر بنفسه!

                                                                                                                                                                                                                                      ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم البكاءون. وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم ، فاستحملوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أي: طلبوا منه أن يحملهم على ركائب إلى أرض المعركة، وكانوا أهل حاجة. فقال: لا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق: فبلغني أن ابن يامين بن عمير بن كعب النضري لقي أبا ليلى عبد الرحمن بن كعب وعبد الله بن مغفل (من السبعة البكائين) وهما يبكيان فقال: ما يبكيكما؟ قال: جئنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليحملنا، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه. فأعطاهما ناضحا له (أي: جملا يستقي عليه الماء) فارتحلاه. وزودهما شيئا من تمر، فخرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      زاد يونس بن بكير عن ابن إسحاق: وأما علبة بن زيد (أحد البكائين) فخرج من الليل فصلى من ليلته ما شاء الله، ثم بكى وقال: اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو جسد أو عرض.. ثم أصبح مع الناس. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أين المتصدق هذه الليلة؟" فلم يقم أحد! ثم قال: "أين المتصدق؟ فليقم" فقام إليه فأخبره. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أبشر، فو الذي نفسي بيده، لقد كتبت لك في الزكاة المتقبلة"..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمن معه وقد قارب عددهم ثلاثين ألفا من أهل المدينة ومن قبائل [ ص: 1725 ] الأعراب من حولها. وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية من غير شك ولا ارتياب، منهم: كعب ابن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية (وهم الثلاثة الذين سيرد تفصيل قصتهم) وأبو خيثمة وعمير بن وهب الجمحي.. وضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عسكره على "ثنية الوداع" وضرب عبد الله بن أبي - رأس النفاق - عسكره على حدة، أسفل منه، قال ابن إسحاق: (وكانوا فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين).. ولكن الروايات الأخرى تقول: إن الذين تخلفوا فعلا دون المائة.. فلما سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سائرا، فجعل يتخلف عنه الرجل، فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلان، فيقول: "دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله تعالى بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه" حتى قيل: يا رسول الله، قد تخلف أبو ذر، وأبطأ به بعيره، فقال: "دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه". وتلوم أبو ذر على بعيره (أي: انتظر عليه) ، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماشيا. ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض منازله، فنظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله، إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كن أبا ذر" فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله، هو والله أبو ذر. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده".

                                                                                                                                                                                                                                      ثم إن أبا خيثمة رجع - بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما - إلى أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه (أي: في حديقته) قد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبردت له فيه ماء. وهيأت له فيه طعاما. فلما دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له، فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الضح (أي: الشمس) والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم؟! ما هذا بالنصف! ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهيئا لي زادا. ففعلتا. ثم قدم ناضحة فارتحله، ثم خرج في طلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أدركه حين نزل تبوك.. وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطلب يطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فترافقا، حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير بن وهب: إن لي ذنبا فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففعل. حتى إذا دنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو نازل بتبوك قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كن أبا خيثمة" فقالوا: يا رسول الله، هو والله أبو خيثمة فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أولى لك يا أبا خيثمة!". ثم أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيرا، ودعا له بخير.


                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق: وقد كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني عمرو بن عوف، ومنهم رجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له: مخشن بن حمير (قال ابن هشام: ويقال: مخشي) يشيرون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر [ ص: 1726 ] (يعنون الروم) كقتال العرب بعضهم بعضا؟ والله لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال.. إرجافا وترهيبا للمؤمنين.. فقال مخشن بن حمير: والله لوددت أني أقاضي على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة، وأنا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - لعمار بن ياسر: "أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا فإن أنكروا فقل: بلى قلتم كذا وكذا". فانطلق إليهم عمار، فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقف على ناقته، فجعل يقول وهو آخذ بحقبها (وهو الحبل يشد على بطن البعير) يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب. فأنزل الله عز وجل: ولئن سألتهم ليقولن: إنما كنا نخوض ونلعب قل: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟ وقال مخشن بن حمير: يا رسول الله، قعد بي اسمي واسم أبي! وكان الذي عفي عنه في هذه الآية مخشن بن حمير. فتسمى عبد الرحمن. وسأل الله تعالى أن يقتله شهيدا لا يعلم بمكانه فقتل يوم اليمامة، فلم يوجد له أثر..

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال: لما قفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم من تبوك - بعد ما أقام بها بضع عشرة ليلة لم يلق فيها حربا - هم جماعة من المنافقين بالفتك به، وأن يطرحوه من رأس عقبة في الطريق، فأخبر بخبرهم، فأمر الناس بالمسير من الوادي، وصعد هو العقبة، وسلكها معه أولئك النفر وقد تلثموا، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أن يمشيا معه. عمار آخذ بزمام الناقة، وحذيفة يسوقها فبينما هم يسيرون إذ سمعوا بالقوم قد غشوهم، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبصر حذيفة غضبه، فرجع إليهم ومعه محجن، فاستقبل وجوه رواحلهم بمحجنه، فلما رأوا حذيفة ظنوا أن قد ظهر على ما أضمروه من الأمر العظيم; فأسرعوا حتى خالطوا الناس; وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرهما فأسرعا حتى قطعوا العقبة، ووقفوا ينتظرون الناس. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحذيفة: "هل عرفت هؤلاء القوم؟" قال: ما عرفت إلا رواحلهم في ظلمة الليل حين غشيتهم. ثم قال: "علمتما ما كان من شأن هؤلاء الركب؟" قالا: لا. فأخبرهما بما كانوا تمالؤوا عليه، وسماهم لهما، واستكتمهما ذلك، فقالا: يا رسول الله، أفلا تأمر بقتلهم؟ فقال: "أكره أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه"..

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن كثير في البداية والنهاية:

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكر ابن إسحاق هذه القصة إلا أنه ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أعلم بأسمائهم حذيفة بن اليمان وحده. وهذا هو الأشبه، والله أعلم..

                                                                                                                                                                                                                                      فأما العسرة التي لقيها المسلمون في الغزوة فقد وردت بعض الروايات بشواهد منها.. قال ابن كثير في التفسير:

                                                                                                                                                                                                                                      قال مجاهد وغير واحد نزلت هذه الآية: لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم، ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم .. في غزوة تبوك. وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الأمر، في سنة مجدبة، وحر شديد، وعسر من الزاد والماء.. قال قتادة: خرجوا إلى الشام على تبوك في لهبان الحر، على ما يعلم الله من الجهد، فأصابهم فيها جهد شديد [ ص: 1727 ] حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم يمصها هذا ثم يشرب عليها، ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها، فتاب الله عليهم وأقفلهم من غزوتهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى ابن جرير - بإسناده - إلى عبد الله بن عباس: أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة، فقال عمر بن الخطاب: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك، فنزلنا منزلا فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، وحتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن جرير في قوله: لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة – أي: من النفقة والظهر والزاد والماء - من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم – أي: عن الحق، ويشك في دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويرتاب للذي نالهم من المشقة والشدة في سفرهم وغزوهم - ثم تاب عليهم يقول: ثم رزقهم الإنابة إلى ربهم والرجوع إلى الثبات على دينه إنه بهم رءوف رحيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      ولعل هذا الاستعراض أن يصور لنا اليوم كيف كانت "العسرة" كما ينقل لنا لمحة من الجو الذي عاشه المجتمع المسلم في تلك الفترة; يتجلى فيها تفاوت المقامات الإيمانية; من اليقين الجاد عند طائفة. إلى الزلزلة والأرجحة تحت مطارق العسرة عند طائفة. إلى القعود والتخلف - بغير ريبة - عند طائفة. إلى النفاق الناعم عند طائفة. إلى النفاق الفاجر عند طائفة. إلى النفاق المتآمر عند طائفة.. مما يشي أولا بالحالة العامة للتركيب العضوي للمجتمع في هذه الفترة; ويشي ثانيا بمشقة الغزوة - في مواجهة الروم ومع العسرة - هذه المشقة الممحصة. الممتحنة الكاشفة; والتي لعل الله سبحانه قد قدرها من أجل التمحيص والكشف والتمييز.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية