الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2204 ] [ ص: 2205 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      سورة الإسراء

                                                                                                                                                                                                                                      وقسم من سورة الكهف

                                                                                                                                                                                                                                      الجزء الخامس عشر

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2206 ] [ ص: 2207 ] (17) سورة الإسراء مكية

                                                                                                                                                                                                                                      وآياتها إحدى عشرة ومائة

                                                                                                                                                                                                                                      بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير (1) وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا (2) ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا (3) وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا (4) فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا (5) ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا (6) إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا (7) عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا (8) إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا (9) وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما (10) ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا (11) وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا . [ ص: 2208 ] عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا (12) وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا (13) اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا (14) من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (15) وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا (16) وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا (17) من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا (18) ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا (19) كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا (20) انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا (21)

                                                                                                                                                                                                                                      هذه السورة - سورة الإسراء - مكية، وهي تبدأ بتسبيح الله وتنتهي بحمده; وتضم موضوعات شتى معظمها عن العقيدة; وبعضها عن قواعد السلوك الفردي والجماعي وآدابه القائمة على العقيدة; إلى شيء من القصص عن بني إسرائيل يتعلق بالمسجد الأقصى الذي كان إليه الإسراء. وطرف من قصة آدم وإبليس وتكريم الله للإنسان.

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن العنصر البارز في كيان السورة ومحور موضوعاتها الأصيل هو شخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - وموقف القوم منه في مكة . هو والقرآن الذي جاء به، وطبيعة هذا القرآن، وما يهدي إليه، واستقبال القوم له. واستطراد بهذه المناسبة إلى طبيعة الرسالة والرسل، وإلى امتياز الرسالة المحمدية بطابع غير طابع الخوارق الحسية وما يتبعها من هلاك المكذبين بها. وإلى تقرير التبعة الفردية في الهدى والضلال الاعتقادي، والتبعة الجماعية في السلوك العملي في محيط المجتمع.. كل ذلك بعد أن يعذر الله - سبحانه - إلى الناس، فيرسل إليهم الرسل بالتبشير والتحذير والبيان والتفصيل وكل شيء فصلناه تفصيلا .

                                                                                                                                                                                                                                      ويتكرر في سياق السورة تنزيه الله وتسبيحه وحمده وشكر آلائه. ففي مطلعها: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ... وفي أمر بني إسرائيل بتوحيد الله يذكرهم بأنهم من ذرية المؤمنين مع نوح إنه كان عبدا شكورا .. وعند ذكر دعاوى المشركين عن الآلهة يعقب بقوله: سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا، تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم .. وفي حكاية قول بعض أهل الكتاب حين يتلى عليهم القرآن: ويقولون: سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا .. وتختم السورة بالآية وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا، ولم يكن له [ ص: 2209 ] شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وكبره تكبيرا .

                                                                                                                                                                                                                                      في تلك الموضوعات المنوعة حول ذلك المحور الواحد الذي بينا، يمضي سياق السورة في أشواط متتابعة.

                                                                                                                                                                                                                                      يبدأ الشوط الأول بالإشارة إلى الإسراء: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله مع الكشف عن حكمة الإسراء لنريه من آياتنا .. وبمناسبة المسجد الأقصى يذكر كتاب موسى وما قضى فيه لبني إسرائيل، من نكبة وهلاك وتشريد مرتين، بسبب طغيانهم وإفسادهم مع إنذارهم بثالثة ورابعة وإن عدتم عدنا .. ثم يقرر أن الكتاب الأخير - القرآن - يهدي للتي هي أقوم، بينما الإنسان عجول مندفع لا يملك زمام انفعالاته. ويقرر قاعدة التبعة الفردية في الهدى والضلال، وقاعدة التبعة الجماعية في التصرفات والسلوك.

                                                                                                                                                                                                                                      ويبدأ الشوط الثاني بقاعدة التوحيد، ليقيم عليها البناء الاجتماعي كله وآداب العمل والسلوك فيه، ويشدها إلى هذا المحور الذي لا يقوم بناء الحياة إلا مستندا إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      ويتحدث في الشوط الثالث عن أوهام الوثنية الجاهلية حول نسبة البنات والشركاء إلى الله، وعن البعث واستبعادهم لوقوعه، وعن استقبالهم للقرآن وتقولاتهم على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويأمر المؤمنين أن يقولوا قولا آخر، ويتكلموا بالتي هي أحسن.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الشوط الرابع يبين لماذا لم يرسل الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالخوارق؛ فقد كذب بها الأولون، فحق عليهم الهلاك اتباعا لسنة الله; كما يتناول موقف المشركين من إنذار الله لهم في رؤيا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتكذيبهم وطغيانهم. ويجيء في هذا السياق طرف من قصة إبليس، وإعلانه أنه سيكون حربا على ذرية آدم . يجيء هذا الطرف من القصة كأنه كشف لعوامل الضلال الذي يبدو من المشركين. ويعقب عليه بتخويف البشر من عذاب الله، وتذكيرهم بنعمة الله عليهم في تكريم الإنسان، وما ينتظر الطائعين والعصاة يوم ندعو كل أناس بإمامهم: فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا. ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا .

                                                                                                                                                                                                                                      ويستعرض الشوط الأخير كيد المشركين للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومحاولة فتنته عن بعض ما أنزل إليه، ومحاولة إخراجه من مكة . ولو أخرجوه قسرا - ولم يخرج هو مهاجرا بأمر الله - لحل بهم الهلاك الذي حل بالقرى من قبلهم حين أخرجت رسلها أو قتلتهم. ويأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يمضي في طريقه يقرأ قرآنه ويصلي صلاته، ويدعو الله أن يحسن مدخله ومخرجه ويعلن مجيء الحق وزهوق الباطل، ويعقب بأن هذا القرآن الذي أرادوا فتنته عن بعضه فيه شفاء وهدى للمؤمنين، بينما الإنسان قليل العلم وما أوتيتم من العلم إلا قليلا .

                                                                                                                                                                                                                                      ويستمر في الحديث عن القرآن وإعجازه. بينما هم يطلبون خوارق مادية، ويطلبون نزول الملائكة، ويقترحون أن يكون للرسول بيت من زخرف، أو جنة من نخيل وعنب، يفجر الأنهار خلالها تفجيرا! أو أن يفجر لهم من الأرض ينبوعا. أو أن يرقى هو في السماء ثم يأتيهم بكتاب مادي معه يقرأونه ... إلى آخر هذه المقترحات التي يمليها العنت والمكابرة، لا طلب الهدى والاقتناع. ويرد على هذا كله بأنه خارج عن وظيفة الرسول وطبيعة الرسالة، ويكل الأمر إلى الله. ويتهكم على أولئك الذين يقترحون هذه الاقتراحات كلها بأنهم لو كانوا يملكون خزائن رحمة الله - على سعتها وعدم نفادها - لأمسكوا خوفا من الإنفاق! وقد كان حسبهم أن يستشعروا أن الكون وما فيه يسبح لله، وأن الآيات الخارقة قد جاء بها موسى من قبل فلم تؤد إلى [ ص: 2210 ] إيمان المتعنتين الذين استفزوه من الأرض، فأخذهم الله بالعذاب والنكال.

                                                                                                                                                                                                                                      وتنتهي السورة بالحديث عن القرآن والحق الأصيل فيه. القرآن الذي نزل مفرقا؛ ليقرأه الرسول على القوم زمنا طويلا بمناسباته ومقتضياته، وليتأثروا به ويستجيبوا له استجابة حية واقعية عملية. والذي يتلقاه الذين أوتوا العلم من قبله بالخشوع والتأثر إلى حد البكاء والسجود. ويختم السورة بحمد الله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل. كما بدأها بتسبيحه وتنزيهه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية