الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ثم أتبع سببا. حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا. قالوا: يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض، فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا؟ قال: ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما. آتوني زبر الحديد. حتى إذا ساوى بين الصدفين قال: انفخوا. حتى إذا جعله نارا قال: آتوني أفرغ عليه قطرا. فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا. قال: هذا رحمة من ربي، فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء، وكان وعد ربي حقا .

                                                                                                                                                                                                                                      ونحن لا نستطيع أن نجزم بشيء عن المكان الذي بلغ إليه ذو القرنين بين السدين ولا ما هما هذان السدان. كل ما يؤخذ من النص أنه وصل إلى منطقة بين حاجزين طبيعيين، أو بين سدين صناعيين. تفصلهما فجوة أو ممر. فوجد هنالك قوما متخلفين: لا يكادون يفقهون قولا .

                                                                                                                                                                                                                                      وعندما وجدوه فاتحا قويا، وتوسموا فيه القدرة والصلاح.. عرضوا عليه أن يقيم لهم سدا في وجه يأجوج ومأجوج الذين يهاجمونهم من وراء الحاجزين، ويغيرون عليهم من ذلك الممر، فيعيثون في أرضهم فسادا; ولا يقدرون هم على دفعهم وصدهم.. وذلك في مقابل خراج من المال يجمعونه له من بينهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وتبعا للمنهج الصالح الذي أعلنه ذلك الحاكم الصالح من مقاومة الفساد في الأرض فقد رد عليهم عرضهم الذي عرضوه من المال; وتطوع بإقامة السد; ورأى أن أيسر طريقة لإقامته هي ردم الممر بين الحاجزين الطبيعيين; فطلب إلى أولئك القوم المتخلفين أن يعينوه بقوتهم المادية والعضلية: فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما. آتوني زبر الحديد .. فجمعوا له قطع الحديد، وكومها في الفتحة بين الحاجزين، فأصبحا [ ص: 2293 ] كأنهما صدفتان تغلفان ذلك الكوم بينهما. حتى إذا ساوى بين الصدفين وأصبح الركام بمساواة القمتين قال: انفخوا على النار لتسخين الحديد حتى إذا جعله نارا كله لشدة توهجه واحمراره قال: آتوني أفرغ عليه قطرا أي نحاسا مذابا يتخلل الحديد، ويختلط به فيزيده صلابة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد استخدمت هذه الطريقة حديثا في تقوية الحديد; فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إليه تضاعف مقاومته وصلابته. وكان هذا الذي هدى الله إليه ذا القرنين ، وسجله في كتابه الخالد سبقا للعلم البشري الحديث بقرون لا يعلم عددها إلا الله.

                                                                                                                                                                                                                                      بذلك التحم الحاجزان، وأغلق الطريق على يأجوج ومأجوج فما اسطاعوا أن يظهروه ويتسوروه وما استطاعوا له نقبا فينفذوا منه. وتعذر عليهم أن يهاجموا أولئك القوم الضعاف المتخلفين. فأمنوا واطمأنوا .

                                                                                                                                                                                                                                      ونظر ذو القرنين إلى العمل الضخم الذي قام به، فلم يأخذه البطر والغرور، ولم تسكره نشوة القوة والعلم. ولكنه ذكر الله فشكره. ورد إليه العمل الصالح الذي وفقه إليه. وتبرأ من قوته إلى قوة الله، وفوض إليه الأمر، وأعلن ما يؤمن به من أن الجبال والحواجز والسدود ستدك قبل يوم القيامة، فتعود الأرض سطحا أجرد مستويا.

                                                                                                                                                                                                                                      قال: هذا رحمة من ربي، فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء. وكان وعد ربي حقا ..

                                                                                                                                                                                                                                      وبذلك تنتهي هذه الحلقة من سيرة ذي القرنين . النموذج الطيب للحاكم الصالح، يمكنه الله في الأرض، وييسر له الأسباب; فيجتاح الأرض شرقا وغربا; ولكنه لا يتجبر ولا يتكبر، ولا يطغى ولا يتبطر، ولا يتخذ من الفتوح وسيلة للغنم المادي، واستغلال الأفراد والجماعات والأوطان، ولا يعامل البلاد المفتوحة معاملة الرقيق; ولا يسخر أهلها في أغراضه وأطماعه.. إنما ينشر العدل في كل مكان يحل به، ويساعد المتخلفين، ويدرأ عنهم العدوان دون مقابل; ويستخدم القوة التي يسرها الله له في التعمير والإصلاح، ودفع العدوان وإحقاق الحق. ثم يرجع كل خير يحققه الله على يديه إلى رحمة الله وفضل الله، ولا ينسى وهو في إبان سطوته قدرة الله وجبروته، وأنه راجع إلى الله.

                                                                                                                                                                                                                                      وبعد فمن يأجوج ومأجوج ؟ وأين هم الآن؟ وماذا كان من أمرهم وماذا سيكون!

                                                                                                                                                                                                                                      كل هذه أسئلة تصعب الإجابة عليها على وجه التحقيق، فنحن لا نعرف عنهم إلا ما ورد في القرآن، وفي بعض الأثر الصحيح.

                                                                                                                                                                                                                                      والقرآن يذكر في هذا الموضع ما حكاه من قول ذي القرنين : فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء، وكان وعد ربي حقا .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا النص لا يحدد زمانا. ووعد الله بمعنى وعده بدك السد ربما يكون قد جاء منذ أن هجم التتار ، وانساحوا في الأرض، ودمروا الممالك تدميرا.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2294 ] وفي موضع آخر في سورة الأنبياء: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون. واقترب الوعد الحق ... .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا النص كذلك لا يحدد زمانا معينا لخروج يأجوج ومأجوج فاقتراب الوعد الحق بمعنى اقتراب الساعة قد وقع منذ زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فجاء في القرآن: اقتربت الساعة وانشق القمر والزمان في الحساب الإلهي غيره في حساب البشر. فقد تمر بين اقتراب الساعة ووقوعها ملايين السنين أو القرون، يراها البشر طويلة مديدة، وهي عند الله ومضة قصيرة.

                                                                                                                                                                                                                                      وإذن فمن الجائز أن يكون السد قد فتح في الفترة ما بين: اقتربت الساعة ويومنا هذا. وتكون غارات المغول والتتار التي اجتاحت الشرق هي انسياح يأجوج ومأجوج .

                                                                                                                                                                                                                                      وهناك حديث صحيح رواه الإمام أحمد عن سفيان الثوري عن عروة ، عن زينب بنت أبي سلمة ، عن حبيبة بنت أم حبيبة بنت أبي سفيان ، عن أمها حبيبة ، عن زينب بنت جحش - زوج النبي صلى الله عليه وسلم - قالت: استيقظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من نومه وهو محمر الوجه وهو يقول: "ويل للعرب من شر قد اقترب. فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا" وحلق (بإصبعيه السبابة والإبهام) . قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم إذا كثر الخبيث".

                                                                                                                                                                                                                                      وقد كانت هذه الرؤيا منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا ونصف قرن. وقد وقعت غارات التتار بعدها، ودمرت ملك العرب بتدمير الخلافة العباسية على يد هولاكو في خلافة المستعصم آخر ملوك العباسيين. وقد يكون هذا تعبير رؤيا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلم ذلك عند الله. وكل ما نقوله ترجيح لا يقين.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم نعود إلى سياق السورة. فنجده يعقب على ذكر ذي القرنين للوعد الحق بمشهد من مشاهد القيامة.

                                                                                                                                                                                                                                      وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض، ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا، الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري، وكانوا لا يستطيعون سمعا .

                                                                                                                                                                                                                                      وهو مشهد يرسم حركة الجموع البشرية من كل لون وجنس وأرض. ومن كل جيل وزمان وعصر، مبعوثين منشرين. يختلطون ويضطربون في غير نظام وفي غير انتباه، تتدافع جموعهم تدافع الموج وتختلط اختلاط الموج.. ثم إذا نفخة التجمع والنظام: ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا فإذا هم في الصف في نظام!

                                                                                                                                                                                                                                      ثم إذا الكافرون الذين أعرضوا عن ذكر الله حتى لكأن على عيونهم غطاء، ولكأن في أسماعهم صمما.. إذا بهؤلاء تعرض عليهم جهنم فلا يعرضون عنها كما كانوا يعرضون عن ذكر الله. فما يستطيعون اليوم إعراضا. لقد نزع الغطاء عن عيونهم نزعا فرأوا عاقبة الإعراض والعمى جزاء وفاقا!

                                                                                                                                                                                                                                      والتعبير ينسق بين الإعراض والعرض متقابلين في المشهد، متقابلين في الحركة على طريقة التناسق الفني في القرآن.

                                                                                                                                                                                                                                      ويعقب على هذا التقابل بالتهكم اللاذع والسخرية المريرة:

                                                                                                                                                                                                                                      أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء. إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا ..

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2295 ] أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا مخلوقات الله المستعبدة له أنصارا لهم من دونه، ينصرونهم منه ويدفعون عنهم سلطانه؟ إذن فليلقوا عاقبة هذا الحسبان: إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا . ويا له من نزل مهيأ للاستقبال، لا يحتاج إلى جهد وانتظار؛ فهو حاضر ينتظر النزلاء الكفار !.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية