الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقوله تعالى : وآتوهن أجورهن بالمعروف يدل على وجوب مهرها إذا نكحها سمى لها مهرا أو لم يسم ؛ لأنه لم يفرق بين من سمى وبين من لم يسم في إيجابه المهر . ويدل على أنه قد أريد به مهر المثل قوله تعالى : بالمعروف وهذا إنما يطلق فيما كان مبنيا على الاجتهاد وغالب الظن في المعتاد والمتعارف كقوله تعالى : وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف وقوله تعالى : وآتوهن أجورهن يقتضي ظاهره وجوب دفع المهر إليها ، والمهر واجب للمولى دونها ؛ لأن المولى هو المالك للوطء الذي أباحه للزوج بعقد النكاح فهو المستحق لبدله ، كما لو آجرها للخدمة كان المولى هو المستحق للأجرة دونها ، كذلك المهر ؛ ومع ذلك فإن الأمة لا تملك شيئا فلا تستحق قبض المهر . ومعنى الآية على أحد وجهين : إما أن يكون المراد إعطاءهن المهر بشرط إذن المولى فيه ، فيكون الإذن المذكور بديا مضمرا في إعطائها المهر كما كان مشروطا في التزويج ، فيكون تقديره : فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بإذنهن ؛ فيدل ذلك على أنه غير جائز إعطاؤهن المهر إلا بإذن المولى ، وهو كقوله تعالى : والحافظين فروجهم والحافظات والمعنى : والحافظات فروجهن

وقوله تعالى : والذاكرين الله كثيرا والذاكرات ومعناه : والذاكرات الله وتكون دلالة هذا الضمير ما في الآية من نفي ملكها لتزويجها نفسها [ ص: 122 ] وأن المولى أملك بذلك منها ؛ وقوله تعالى : ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء فنفى ملكه نفيا عاما ؛ وفيه الدلالة على أن الأمة لا تستحق مهرها ولا تملكه . والوجه الآخر أن يكون أضاف الإعطاء إليهن والمراد المولى ، كما لو تزوج صبية صغيرة أو أمة صغيرة بإذن الأب والمولى جاز أن يقال أعطهما مهريهما ، ويكون المراد إعطاء الأب أو المولى ألا ترى أنه يصح أن يقال لمن عليه دين ليتيم قد مطله به إنه مانع لليتيم حقه وإن كان اليتيم لا يستحق قبضه ويقال أعط اليتيم حقه ؟ وقال تعالى : وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل وقد انتظم ذلك الصغار والكبار من أهل هذه الأصناف ؛ وإعطاء الصغار إنما يكون بإعطاء أوليائهم فكذلك جائز أن يكون المراد بقوله : وآتوهن إيتاء من يستحق ذلك من مواليهن وزعم بعض أصحاب مالك أن الأمة هي المستحقة لقبض مهرها وأن المولى إذا آجرها للخدمة كان هو المستحق للأجر دونها ، واحتج للمهر بقوله تعالى : وآتوهن أجورهن

وقد بينا وجه ذلك ومعناه ، وعلى أنه إن كان المهر يجب لها لأنه بدل بضعها فكذلك يجب أن تكون الأجرة لها لأنه بدل منافعها . ومن حيث كان المولى هو المالك لمنافعها كما كان مالكا لبضعها ، فمن استحق الأجرة دونها فواجب أن يستحق قبض المهر دونها لأنه بدل ملك المولى لا ملكها لأنها لا تملك منافع بضعها ولا منافع بدنها ، والمولى هو العاقد في الحالين وبه تمت الإجارة والنكاح ، فلا فرق بينهما . وحكى هذا القائل أن بعض العراقيين أجاز أن يزوج المولى أمته عبده بغير صداق ؛ وهذا خلاف الكتاب زعم . قال أبو بكر : ما أشد إقدام مخالفينا على الدعاوى على الكتاب والسنة ومن راعى كلامه وتفقد ألفاظه قلت دعاويه بما لا سبيل له إلى إثباته ؛ فإن كان هذا القائل إنما أراد أنهم أجازوا أن يزوج أمته عبده بغير تسمية مهر ، فإن كتاب الله تعالى قد حكم بجواز ذلك في قوله تعالى : لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة فحكم بصحة الطلاق في نكاح لا مهر فيه مسمى . فدعواه أن ذلك خلاف الكتاب قد أكذبها الكتاب ، وإن كان مراده أنهم قالوا إنه لا يثبت مهر ويستبيح بضعها بغير بدل فهذا ما لا نعلم أحدا من العراقيين قاله ؛ فحصل هذا القائل على معنيين باطلين :

أحدهما : دعواه على الكتاب ، وقد بينا أن الكتاب بخلاف ما قال .

والثاني دعواه على بعض العراقيين ولم يقل أحد منهم ذلك ، بل قولهم في ذلك أنه إذا زوج أمته من عبده وجب لها [ ص: 123 ] المهر بالعقد لامتناع استباحة البضع بغير بدل ، ثم يسقط في الثاني حين يستحقه المولى لأنها لا تملك والمولى هو الذي يملك مالها ولا يثبت للمولى على عبده دين ، فههنا حالان : إحداهما حال العقد يثبت فيها المهر على العبد ، والحال الثانية هي حال انتقاله إلى المولى بعد العقد ، فيسقط ، كما أن رجلا لو كان له على آخر مال فقضاه إياه كان لما قبضه حالان : إحداهما حال قبضه فيملكه مضمونا بمثله ثم يصير قصاصا بماله عليه ، وكما يقول في الوكيل في الشرى إن المشترى انتقل إليه بالعقد ولا يملكه وينتقل في الثاني ملكه إلى الموكل ، ولذلك نظائر كثيرة لا يفهمها إلا من ارتاض المعاني الفقهية وجالس أهل فقه هذا الشأن وأخذ عنهم . قوله تعالى : محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان يعني والله أعلم : فانكحوهن محصنات غير مسافحات ؛ وأمر بأن يكون العقد عليها بنكاح صحيح وأن لا يكون وطؤها على وجه الزنا ؛ لأن الإحصان ههنا النكاح ، والسفاح الزنا . ولا متخذات أخدان يعني : لا يكون وطؤها على حسب ما كانت عليه عادة أهل الجاهلية في اتخاذ الأخدان ؛ قال ابن عباس : " كان قوم منهم يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفي منه " ؛ والخدن هو الصديق للمرأة يزني بها سرا ، فنهى الله تعالى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن وزجر عن الوطء إلا عن نكاح صحيح أو ملك يمين .

وسمى الله الإماء الفتيات بقوله : من فتياتكم المؤمنات والفتاة اسم للشابة ، والعجوز الحرة لا تسمى فتاة ، والأمة الشابة والعجوز كل واحدة منهما تسمى فتاة ؛ ويقال إنها سميت فتاة وإن كانت عجوزا لأنها إذا كانت أمة لا توقر توقير الكبيرة . والفتوة حال الغرة والحداثة ؛ والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية