الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل الآية روي عن ابن عباس وأبي هريرة وسعيد بن جبير وهلال بن يسار : " أنه صبي في المهد " وروي عن ابن عباس أيضا ، والحسن بن أبي مليكة وعكرمة قالوا : " هو رجل " وقال عكرمة : " إن الملك لما رأى يوسف مشقوق القميص على الباب قال ذلك لابن عم له ، فقال : إن كان قميصه قد من قبل ، فإنه طلبها فامتنعت منه ، وإن كان من دبر ، فإنه فر منها وطلبته " . ومن الناس من يحتج بهذه الآية في الحكم بالعلامة في اللقطة إذا ادعاها مدع ووصفها . وقد اختلف الفقهاء في مدعي اللقطة إذا وصف علامات فيها ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والشافعي : " لا يستحقها بالعلامة حتى يقيم البينة ، ولا يجبر الملتقط على دفعها إليه بالعلامة ، ويسعه أن يدفعها ، وإن لم يجبر عليه في القضاء " . وقال ابن القاسم : " في قياس قول مالك يستحقها بالعلامة ويجبر على دفعها إليه ، فإن جاء مستحق فاستحقها ببينة لم يضمن الملتقط شيئا " . وقال مالك : " وكذلك اللصوص إذا وجد معهم أمتعة فجاء قوم فادعوها وليس لهم بينة أن السلطان يتلوم في ذلك ، فإن لم يأت غيرهم دفعه إليهم ، وكذلك الآبق " . وقال الحسن بن حي : " يدفعها إليه بالعلامة " وقال أصحابنا في اللقيط إذا ادعاه رجلان ووصف أحدهما علامة في جسده : " إنه أولى من الآخر " . وقال أبو حنيفة ومحمد في متاع البيت إذا اختلف فيه الرجل ، والمرأة : " إن ما يكون للرجل فهو للرجل وما كان للنساء فهو للمرأة وما كان للرجل والمرأة فهو للرجل " فحكموا فيه بظاهر هيئة المتاع . وقالوا في المستأجر ، والمؤاجر إذا اختلفا في مصراع [ ص: 386 ] باب موضوع في الدار : " إنه إن كان وفقا لمصراع معلق في البناء فالقول قول رب الدار ، وإن لم يكن وفقا له فالقول قول المستأجر ، وكذلك إن كان جذع مطروح في دار وعليه نقوش وتصاوير موافقة لنقوش جذوع السقف ووفقا لها فالقول قول رب الدار ، وإن كانت مخالفة لها فالقول قول المستأجر " .

وهذه مسائل قد حكموا في بعضها بالعلامة ولم يحكموا بها في بعض . ولا خلاف بين أصحابنا أن رجلين لو تنازعا على قربة وهما متعلقان بها وأحدهما سقاء ، والآخر عطار أنه بينهما نصفين ولا يقضى للسقاء بذلك على العطار ، فأما قولهم في اللقطة ، فإن الملتقط له يد صحيحة ، والمدعي لها يريد إزالة يده وقال النبي صلى الله عليه وسلم : البينة على المدعي ، واليمين على المدعى عليه وكون الذي في يده ملتقطا لا يخرج المدعي من أن يكون مدعيا فلا يصدق على دعواه إلا ببينة ؛ إذ ليست له يد ، والعلامة ليست ببينة ؛ لأن رجلا لو ادعى مالا في يد رجل وأعطى علامته والذي في يده غير ملتقط لم يكن ذكر العلامة بينة يستحق بها شيئا .

وأما قول أصحابنا في الرجلين يدعيان لقيطا كل واحد يدعي أنه ابنه ووصف أحدهما علامة في جسده ، فإنما جعلوه ، أولى استحسانا ، من قبل أن مدعي اللقيط يستحقه بدعواه من غير علامة ويثبت النسب منه بقوله وتزول يد من هو في يده ، فلما تنازعه اثنان صار كأنه في أيديهما ؛ لأنهما قد استحقا أن يقضى بالنسب لهما لو لم يصف أحدهما علامة في جسده ، فلما زالت يد من هو في يده صار بمنزلته لو كان في أيديهما من طريق الحكم جميعه في يد هذا وجميعه في يد هذا ، فيجوز حينئذ اعتبار العلامة . ونظيره الزوجان إذا اختلفا في متاع البيت ، لما كان لكل واحد يد في الجميع اعتبر أظهرهما تصرفا وآكدهما يدا ، وكذلك المستأجر له يد في الدار ، والمؤاجر أيضا له يد في جميع الدار فلما استويا في اليد في الجميع كان الذي تشهد له العلامة الموافقة لصحة دعواه أولى ، وكان ذلك ترجيحا لحكم يده لا أنه يستحق به الحكم له بالملك كما يستحق بالبينات . فهذه المواضع التي اعتبروا فيها العلامة إنما اعتبروها مع ثبوت اليد لكل واحد من المدعيين في الجميع ، فصارت العلامة من حجة اليد دون استحقاق الملك بالعلامة ، وأما المدعيان إذا كان في أيديهما شيء من المتاع وأحدهما ممن يعالج مثله وهو من آلته التي يستعملها في صناعته ، فإنه معلوم أن في يد كل واحد منهما النصف وأن ما في يد هذا ليس في يد الآخر منه شيء ، فلو حكمنا لأحدهما بظاهر صناعته ، أو بعلامة معه لكنا قد استحققنا عليه يدا هي له دونه ، فهما فيه بمنزلة [ ص: 387 ] رجل إسكاف ادعى قالب خف في يد صيرفي فلا يستحق يد الصيرفي لأجل أن ذلك من صناعته ، ومسألة اللقطة هي هذه بعينها ؛ لأن المدعي لا يد له ، وإنما يريد استحقاق يد الملتقط بالعلامة ، ومعلوم أنه لا يستحقها بالدعوى إذا لم تكن معه علامة ، فكذلك العلامة لا يجوز أن يستحق بها يد الغير ، وأما ما روي في حديث زيد بن خالد أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال : اعرف عفاصها ووعاءها ووكاءها ثم عرفها سنة ، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها ، فإنه لا دلالة فيه على أن مدعيها يستحقها بالعلامة ؛ لأنه يحتمل أن يكون إنما أمره بمعرفة العفاص ، والوعاء ، والوكاء لئلا يختلط بماله وليعلم أنها لقطة ، وقد يكون يستدل به على صدق المدعي فيسعه دفعها إليه ، وإن لم يلزم في الحكم ، وقد يكون لذكر العلامة ولما يظهر من الحال تأثير في القلب يغلب في الظن صدقه ولكنه لا يعمل عليه في الحكم ، وقد استدل يعقوب عليه السلام على كذب إخوة يوسف بأنه لو أكله الذئب لخرق قميصه ، وقد روي عن شريح وإياس بن معاوية أشياء نحو هذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : " اختصم إلى شريح امرأتان في ولد هرة ، فقالت إحداهما : هذه ولد هرتي ، وقالت الأخرى : هذه ولد هرتي ، فقال : ألقوها مع هذه ، فإن درت وقرت واسبطرت فهي لها ، وإن هرت وفرت وازبأرت فليس لها " .

وروى حماد بن سلمة قال : أخبرني مخبر عن إياس بن معاوية : أن امرأتين ادعتا كبة غزل ، فخلا بإحداهما ، وقال : علام كببت غزلك ؟ فقالت : على جوزة ، وخلا بالأخرى فقالت : على كسرة خبز ، فنقضوا الغزل فدفعوه إلى التي أصابت " وهذا الذي كان يفعله شريح وإياس من نحو هذا لم يكن على وجه إمضاء الحكم به وإلزام الخصم إياه ، وإنما كان على جهة الاستدلال بما يغلب في الظن منه فيقرر بعد ذلك المبطل منهما ، وقد يستحي الإنسان إذا ظهر مثل هذا من الإقامة على الدعوى فيقر فيحكم عليه بالإقرار .

التالي السابق


الخدمات العلمية