الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى: واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن [ ص: 251 ] لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان الآية (282):

اعلم أن ظاهر الآية يقتضي أن تكون شهادة النساء شهادة ضرورة معدولا بها عن أصل الشهادة، فإنه قال: واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين.

فاقتضى الظاهر عدم القدرة على الرجلين إلا أنه جوز على خلاف الظاهر للإجماع، وشرط كون الرجل معهن، فلم يجعل لهن رتبة الاستقلال، فدل مجموع ذلك على أن شهادة النساء شرعت في المداينات التي كثر الله تعالى أسباب توثيقها لكثرة جهات تحصيلها وعموم البلوى بها وتكررها، فجعل التوثيق:

تارة بالكتابة.

وتارة بالإشهاد.

وتارة بالرهن.

وتارة بالضمان.

فأدخل في جميع ذلك شهادة النساء مع الرجال.

ولا يتوهم عاقل أن قوله: إذا تداينتم بدين يشتمل على دين المهر مع البضع، وعلى الصلح عن دم العمد، فإن تلك الشهادة ليست شهادة على الدين، بل هي شهادة على النكاح، ولو شهد على المهر فيقبل، نعم لا يصير النكاح تبعا للمهر بحال.

نعم ، ما ليس بمال إذا كان تبعا للمال، مثل الأجل المذكور في [ ص: 252 ] المداينة، فيقبل فيه شهادة النساء مع الرجال، لأن الأجل يؤول إلى المآل.

فإن قال قائل: المهر في النكاح تابع للنكاح ولا يجب إلا معه، فلم يثبت بشهادة النساء، وليس المهر من جملة المداينات المذكورة في الآية؟

قلنا: لأن المهر من حيث كان دينا، سلك به مسلك الديون كلها في أنواع التوثيق، كالرهون والضمان وغيرهما، فألحق بقياس الأموال.

فإن قال قائل: العتق تعددت جهات تحصيله، وكذلك الطلاق، وتزيد جهاتها من الكنايات والصرائح والتعليق والتنجيز على جهات تحصيل الأموال، فلم لم يجعل ذلك ملحقا بالأموال؟

فالجواب: أن الحاجة لا تتكرر إلى توثيق جهات الطلاق مسيس الحاجة إلى الوثائق في المداينات، ولذلك بالغ الشرع في إبانة جهات الوثائق فيها، وقال في الرجعة والطلاق:

وأشهدوا ذوي عدل منكم .

قوله تعالى: ممن ترضون من الشهداء يدل على تفويض الأمر إلى اجتهاد الحكام، فربما تفرس في الشاهد غفلة أو ريبة، فيرد شهادته لذلك.

وفيه دليل على جواز استعمال الاجتهاد في الأحكام الشرعية.

ويدل قوله: ممن ترضون من الشهداء على أنه لا مبالاة بكونه مسلما فإنه قال: ممن ترضون . [ ص: 253 ] فقسم المسلمين إلى مرضيين وغير مرضيين فلم تقبل شهادة غير مؤمنين.

وليس يعلم كونه مرضيا بمجرد الإسلام وإنما يعلم بالنظر في أحواله.

ولا يعتبر بظاهر قوله: "أنا مسلم" فربما انطوى على ما يوجب رد شهادته مثل قوله تعالى:

ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه إلى قوله: والله لا يحب الفساد .

وقال: وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم الآية..

فكل ذلك دليل على ما قلناه.

وظاهر قوله: من الشهداء يقتضي قبول شهادة الأب لابنه والولد لأبيه لأن الشاهد مرضي ولو لم يكن مرضيا، وتطرقت التهمة إلى حاله باستيلاء الهوى عليه لامتنعت شهادته مطلقا، ولأمكن أن يقال: إن الذي يشهد لولده كاذبا، يشهد للأجنبي لعرض يتعجله من مال أو جاه أو غيره، فيشهد التابع لمتبوعه، والمرؤوس لرئيسه، إلى غير ذلك.

غير أنه لا ينظر إلى شيء من ذلك، خاصة إذا شهد لأحد ولديه على الآخر. [ ص: 254 ] إلا أن العلماء أجمعوا على خلاف ذلك، إلا خلاف شاذ لا يعتد به يحكى عن عثمان البتي .

ولعل السبب فيه أن الذي بينه وبين الابن من الاتحاد في الذات حتى يقال هو بعضه، يقتضي جعل شهادته له في معنى شهادته لنفسه، فإذا كانت فيه شبهة الشهادة لنفسه، كان مدعيا من تلك الجهة، والبينة على المدعي، ولا تسمع شهادته لنفسه فيما هو مدع فيه.

ولا شك أن هذا في غاية الجلاء مع المصير إلى تمييز أملاكهما التي هي محل الشهادة.

ويجب على الابن الحد بوطء جارية أبيه، ولا يجعل الاتحاد بينهما شبهة في الحد، فكذلك لا يجعل شبهة في شهادته وإلحاقها بالدعوى..

نعم ; ظن أبو حنيفة أن شهادة الزوج لزوجته لا تقبل لتواصل منافع الأملاك بينهما، وهي محل الشهادة، والذي يخالفه يقول:

ولكن ذلك التواصل يعرض للزوال، فليس كتواصل الولادة، فإذا ظهر التفاوت من وجه.

والأصل قبول الشهادة إلا حيث خص، فما عدا المخصوص يبقى على الأصل.

وزاد أبو حنيفة على هذا وقال:

كل شهادة ردت للتهمة فإنها لا تقبل أبدا، مثل شهادة الفاسق، إذا ردت لفسقه ثم تاب وأصلح، ومثل شهادة أحد الزوجين للآخر إذا ردت، ثم شهد بها بعد زوال الزوجية. [ ص: 255 ] فجعل العلة مجرد التهمة في الذي تقدم من الشهادة، وزاد عليه فقال:

لا تقبل شهادة الأجير للمستأجر، وقبل شهادة من له الدين لمن عليه الدين، فلم ير الزوجية لعينها مانعة قبول الشهادة حتى إذا زالت قبلت، وقال: لو شهد العبد فردت شهادته ثم عتق فأعاد قبلت وكذا الصبي، لأن زوال الرق معلوم حقيقة، وزوال التهمة غير معلوم حقيقة، وزوال الزوجية معلوم حقيقة، غير أن الرد لم يكن لها وإنما كان للتهمة، ولا يعلم زوالها حقيقة، فجعلوا التهمة مانعة.

ولا شك أن التهمة في الشهادات كلها خاصة، هي تهمة المعصية، وتهمة المعصية شبهة في الحدود، فهلا ردت شهادته في الحدود مثلا.

فعلم أن سبب رد الشهادة للولد ليس هو تهمة الكذب، ولكن ما بينهما من الاتحاد، مع خروج شهادته عن كونها شهادة لنفسه، حتى لا يكون من وجه مدعيا، وهذا المعنى بعيد عن التهمة، فلم يقتض رد شهادة أخرى، أو بحال ذلك على الإجماع ولا يقيد بخلاف البتي ولا يصح النقم فيه، فهذا تمام البيان في ذلك.

والحوالة على التعبد أولى لضعف المعنى لولا أن الشافعي رد شهادة العدو على العدو مع العدالة، وقبل شهادته في حادثة أخرى، وإن كانت تسقط بالتهمة.

ويمكن أن يقال: إن رد شهادة العدو على تعبد ثبت بخبر ورد فيه، فإن المعنى كيفما قدر ضعيف جدا.

وحاصل القول أن العدالة، وقلة الغفلة، هي من شرائط الشهادات وقد انتظمها قوله تعالى: ممن ترضون من الشهداء مع قلة حروفه وبلاغة لفظه ووجازته واختصاره وظهور فوائده، وجميع ما [ ص: 256 ] ذكرناه من المعاني التي استنبطها السلف من مضمونه وتحريهم موافقته مع احتماله لجميع ذلك، يدل على أنه كلام الله تعالى ومن عنده، إذ ليس في وسع البشر إيراد لفظ على هذه الوجازة يتضمن هذه المعاني البديعة.

قوله تعالى: أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى .

يدل على أنه لا يجوز لأحد أن يشهد على الآخر، وإن رأى الخط، إلا أن يكون ذاكرا لما يشهد به.

ثم قال: ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا فدل ذلك على أن الكتاب إنما أمر به ليتذكر به كيفية الشهادة، وأنها لا تقام إلا بعد حفظها وإتقانها.

وفيه الدلالة على أن الشاهد إذا قال: لا أذكر، ثم تذكر، يجوز له إقامة الشهادة .

ثم إن الله تعالى إنما ذكر في المداينات الحجج التي تستقل بإثبات المداينات، ولم يتعرض لما سواها، وقد ظن ظانون من أصحاب أبي حنيفة، أن إسقاط العدد المذكور في القرآن لا يجوز، وأن الذي جعله الشرع سببا لا يجوز تغييره والنقصان منه، ولا يحط منه وصف الرضا وهو العدالة، ولا الوصف الآخر وهو العدد، ثم قال:

ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا . [ ص: 257 ] وأبان أن ذلك أدنى ما يتعلق به مقصود الشرع، وأن القدر المقصود من الاحتياط والحجة المعتبرة هذا المذكور في القرآن، وذلك ينفي إيجاب الحكم بالشاهد واليمين، فإن اليمين دون الشهادة لا محالة، وقد أبان الله تعالى أن أدنى درجات الاحتياط هو المذكور، فلا يثبت بما دونه، وهذا حسن بين.

والذي يقبل الشاهد واليمين يقول:

معنى قوله تعالى: وأدنى ألا ترتابوا في الشهادة وحدها، لا فيها وفي غيرها، والشاهد واليمين جنسان مختلفان لا تعرض لهما في القرآن.

ويقول أصحاب الشافعي في قول: إن الحكم باليمين، غير أن الشاهد يقوى جانبه، ويصير هو بمثابة المدعى عليه الذي ظهر جانبه باليد، فعلى هذا لا يستقيم التعلق بالقرآن في تحقيق غرضهم..

قوله تعالى: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا .

روي عن جماعة من المفسرين أن المراد به: إذا دعوا لإقامتها.

وعن قتادة: إذا دعوا إلى إثبات الشهادة في الكتاب، فأما عند الإثبات فلا يجب على الشهود الحضور عند المتعاقدين، وإنما على المتداينين أن يحضرا عند الشهود، فإذا حضراهم وسألاهم إثبات شهادتهم في الكتاب، فهذه الحال هي التي يجوز أن تراد بقوله: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا لإثبات الشهادة، فأما إن ثبتت بشهادتهم، ثم دعوا لإقامتها عند الحاكم، فهذا الدعاء هو لحضورهما عند الحاكم، ولا يحضر الحاكم [ ص: 258 ] عند الشاهدين، ليشهدا عنده وإنما على الشهود الحضور عند الحاكم.

فالدعاء الأول إنما هو لإثبات الشهادة في الكتاب، والدعاء الثاني لحضورهم عند الحاكم وإقامة الشهادة عنده.

واللفظ يحتمل الأمرين جميعا، ولا معنى لاختلاف المفسرين في معناه، إذا كان اللفظ يدل عليهما من طريق العموم.

وقوله: واستشهدوا شهيدين من رجالكم ، يجوز أن يكون متناولا للأمرين جميعا، وإن كان قوله: أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ، يرجح جانب التحمل، ولكن ذكر بعض ما يتناوله اللفظ لا يمنع التعلق بعمومه فيما أمكن تعميمه فيه، على رأي أكثر الأصوليين، وإن خالفهم قوم في ذلك وادعوا التوقف، وليس ذلك بالبعيد عندنا على ما شرحناه في الأصول، مع أن اسم الشهداء لا يكون حقيقة، إلا في حالة إقامة الشهادة عند الحاكم، وإن كان ينطلق على غيره بطريق المجاز مثل قوله:

واستشهدوا شهيدين من رجالكم .

فسماهم شهيدين وأمرنا باستشهادهما قبل أن يشهدا. وهو بمثابة قوله:

فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره (230).

فسماه زوجا قبل أن يتزوج.

التالي السابق


الخدمات العلمية