الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى: وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة (283):

استدل به مجاهد على أن الرهن لا يكون إلا في السفر.

وأما كافة العلماء فجوزوه في الحضر والسفر، لأنه صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رهن درعا عند يهودي بالمدينة، وأخذ منه شعيرا لأهله، غير أن ذكر السفر بناء على غالب الأحوال، في عدم وجود الكاتب والشهيد فيها، فينوب الرهن منا بهما، لا أن الرهن مفيد فائدة الشهادة والكتاب [ ص: 263 ] من كل وجه، فإن الذي يختص بالرهن، إعداد المرهون لاستيفاء الحق منه عند ضيق الطالب، فهو وثيقة لجانب الاستيفاء بإبانة محل الاستيفاء، كالضمان فإنه وثيقة بتحديد محل الاستيفاء عند عسر استيفائه من المضمون عنه، إلا أن خاصية الرهن إنما تظهر عند ازدحام الغرماء، وخاصة الضمان حاصلة في غير هذه الحالة.

فإذا تقرر ذلك، فهذا الرهن الذي له خاصية الشهادة عند عدم الشهادة، فإن الرهن إذا كان مقبوضا، لا يتأتى للراهن الامتناع من توفية حق المرتهن، فإنه يأخذ المرهون بحقه.

وإن ادعى الراهن على المرتهن الملك في المرهون، فالمرتهن يكفيه في دفع دعواه أن يقول: لا يلزمني تسليم هذا إليك.

وإذا قال ذلك وحلف عليه، بطل عن الراهن في العين عند المحل، وكان للمرتهن بيعه وأخذ الحق من ثمنه، وهذا كلام ظاهر كما ترى، فصار الرهن مفيدا مثل مقصود الشهادة والكتاب، وإن كان له خاصية يتفرد بها، فلأجل ما فيه من فائدة الشهادة أمر الله فيه بالقبض، وخصه بالسفر، لأنه يغلب فيه عدم الكتاب والشهود.

وقوله: فرهان مقبوضة ، يدل على اعتبار القبض الذي به [ ص: 264 ] يحصل معنى الوثيقة الحاصلة بالشهادة، فإن المرهون إذا كان في يد الراهن فلا يتأتى فيه معنى الشهادة.

ويتلقى من الآية وجوب الإقباض، وكون القبض شرطا في الرهن لأن معنى الوثيقة ليس يحصل إلا به.

ويمكن أن يستدل به على أن المقصود الأصلي في الرهن توثيق الدين لاستيفاء الحق منه، فإنه خص بالسفر لهذا المقصود لما لا سواه مما يتأتى في السفر والحضر، ومع الشهود وعدم الشهود والكتاب.

وفيه دليل على أنه لا يجوز للراهن استرجاع المرهون من يد المرتهن، لما فيه من بطلان المعنى الذي به يقوم الرهن مقام الشهادة والكتاب، ولأجله جعل بدلا عنهما، وما شرع في الأصل إلا على هذا الوجه. فكان هذا الوجه هو المقصود لأصلي بالرهن.

والذين يخالفون هذا الرأي من أصحاب الشافعي يقولون:

إن المقصود بآية المداينات توثق الحقوق عن الضياع والتقوى من جهة وجوبه لا من جهة الاستيفاء، ولذلك لم يتعرض للضمان، فإن الضمان لا يفيد التوثيق من جهة الوجوب على معنى أن الشهادة إذا لم تكن، ربما يجحد الحق فيذهب وجوبه، وكذا الكتاب والرهن في هذا المعنى يفيد مع الجحود الذي به يفوت وجوب الحق، والضمان لا يفيد شيئا من هذا المعنى، فلا جرم لم يتعرض له ها هنا، وتعرض للرهن الذي يفيد فائدة الشهادة في هذه الجهة، إذا تعذر الوصول إلى الشهادة بالسفر، لأن السفر في الرهن أصل، ولكن بالسفر يحصل العذر في الشهادة والكتاب فشرع الرهن.

وأما خاصية الرهن التي لا توجد في غير الرهن من الوثائق فهي استيفاء الدين من العين، فجاز رهن المتاع نظرا إلى الخاصية، وجاز الانتفاع بالمرهون في مدة الرهن نظرا إليها، فهذا تمام البيان في ذلك. [ ص: 265 ] نعم ها هنا شيء، وهو أنه إذا كان خاصية الرهن استيفاء الحق منه عند مزاحمة الغرماء. فيتخلص بالرهن عن مزاحمتهم، فمن أجل ذلك قال مالك:

إذا كان لرجل على رجل دين، فباع من له الدين ممن عليه الدين شيئا، وجعل الدين عليه رهنا، قال: يجوز على ما رواه ابن القاسم عنه، لأنه يخلص به عن مزاحمة الغرماء فإنه حائز ما عليه.

وقال غيره من العلماء: لا يجوز، لأنه لا يتحقق إقباضه، والقبض شرط لزوم الرهن، ولأنه لا بد من أن يستوفي الحق منه عند المحل، ويكون الاستيفاء من ماليته لا من عينه ولا يتصور ذلك في الدين.

ولأن الدين مملوك ثابت بالإضافة إلى من له الدين إنما هو ثابت بالإضافة إلى من له الدين.

ولا خلاف عند العلماء أن تعديل المرهون جائز عند الأجنبي.

وقال ابن أبي ليلى: لا يجوز حتى يقبضه المرتهن، وكأنه رأى ابتداء القبض تعبدا، ورأى التعبد في مباشرته القبض، وهو لعله لا يجوز التوكيل فيه، وهذا بعيد.

ولابن أبي ليلى أن يقول: إنه إذا لم يجز جعل المبيع المحبوس على يدي عدل، لم يخرج عن ضمان البائع، ولم يصح أن يكون العدل وكيلا للمشتري في قبضه، فكذلك يجب أن لا يخرج من قبض الراهن بوضعه على يدي عدل. [ ص: 266 ] وهذا غلط، فإنه إذا صار العدل وكيلا للمشتري في القبض، بطل حق البائع وسقط بالكلية، وخرج من ضمانه، وتم البيع للمشتري، فلا يبقى للبائع علقة، وفي كون العدل وكيلا للمرتهن تحقيق معنى الرهن، فكان العدل قابضا للمرتهن وهو قابض للمشتري، كما كان قابضا للمرتهن، فلا فرق من حيث المعنى بينهما.

نعم، البائع إذا وضع المبيع عند عدل بقي محبوسا، ولم يكن العدل وكيل المشتري، لأن في كونه وكيلا له إبطال الحبس، وفي كون العدل وكيلا للمرتهن تحقيق الحبس، فوضح الجواب من هذا الوجه.

واستخرج الشافعي من كون الرهن وثيقة أنه غير مضمون، فإن الوثيقة يزداد بها الدين وكادة، لا أنه يتعرض بها الدين لعرض السقوط، فسقوط الدين بهلاك الوثيقة، يوقع خللا في معنى الوثيقة.

وهم يقولون: وما وقع الخلل في معنى الوثيقة، فإن الدين لا يسقط عند من يخالفه، ولكن كان الرهن وثيقة للاستيفاء، وقد حصل بهلاكه الاستيفاء حتى قالوا:

إذا رهن برأس مال السلم، فتلف قبل التفرق، صار رأس المال مستوفى حتى لا يضر الافتراق، ويجب تسليم المسلم فيه عند المحل، فلم يكن ذلك مخالفا معنى الوثيقة، بل كان محققا معنى الوثيقة.

والشافعي يقول: قد خالف مقصود الوثيقة، فإن الوثيقة ما عقدت له حتى يفوت الحق على هذا الوجه، ولا أن يقدر هذا القبض من غير أن يكون المقبوض ملكا للقابض مقصودا للمرتهن، فقد فات المقصود من هذا الوجه أن يقدر هذا القبض من غير أن يكون المقبوض ملكا للقابض، فصح ما قلناه عن الشافعي. [ ص: 267 ] واستدل الشافعي بما رواه ابن أبي ذؤيب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه" .

قال الشافعي: ووصله ابن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:

وذكر أبو بكر الرازي أن أبا بكر بن أبي شيبة قال: قوله صلى الله عليه وسلم: له غنمه وعليه غرمه، من كلام سعيد بن المسيب.

وروى مالك وابن أبي ذؤيب ويونس عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يغلق.

قال يونس بن يزيد قال ابن شهاب، وكان ابن المسيب يقول:

"الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه" ، فأخبر ابن شهاب أن هذا من قول سعيد بن المسيب لا عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله: "لا يغلق الرهن" ، ذكر قوم أن معناه: أنهم كانوا يرهنون في الجاهلية ويقولون: إن جئتك بالمال وقت كذا وكذا وإلا فهو لك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يغلق الرهن.

تأوله على ذلك مالك وسفيان وطاوس وإبراهيم النخعي، وإلا فيبعد أن يقال: إذا ضاع قد غلق الرهن، ولم يبق الرهن، وإنما يقال: ضاع.

نعم، الشافعي يحمل قوله "لا يغلق الرهن" ، أي لا يصير محتبسا بيد المرتهن، معطل المنافع كالمغلوق ، ولكن الراهن ينتفع به فله غنمه وعليه غرمه. [ ص: 268 ] ومعنى الغرم، أنه يلزمه حكم تلفه، فإذا تلف فإنما تلف على الراهن حتى يجب عليه الدين، أو إبدال مرهون آخر إذا كان قد شرط الرهن في العقد.

وهم يقولون على الراهن غرمه، حال بقائه، حتى لا يملك المرتهن بعد الأجل الرهن، وإنما الدين على الراهن كما كان من قبل.

وله غنمه أي زيادته، فإذا زادت قيمته فالزيادة للراهن وإذا نقصت فعلى الراهن تكلف الزيادة إلى تمام الدين.

وزعموا أن ذلك يدل على أن الشرط الذي لا يوافق الرهن إذا ذكر في العقد، لا يفسد العقد بل يفسد الشرط، وهذا الذي ذكروه، وتقدير حكاية لا يدل اللفظ عليها، وقد عرفنا أن تقدير الحكايات لتنزيل الألفاظ عليها لا يجوز، والشافعي يحكم بفساد الرهن باشتراط الملك للمرتهن عند انقضاء الأجل، وأبو حنيفة يخالف في ذلك..

قوله تعالى: وليملل الذي عليه الحق (282)يدل على أنه مؤتمن فيما يورده ويصدره، فيقتضي ذلك قبول قول الراهن إذا اختلف هو والمرتهن في مقدار الدين، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأكثر العلماء.

ومالك يقول: القول قول المرتهن، فيما بينه وبين قيمة الرهن، ولا يصدق على أكثر من ذلك، وكأنه يرى أن الرهن وثمنه شاهد للمرتهن.

وقوله تعالى: وليملل الذي عليه الحق يرد عليه، فإن الذي عليه الحق هو الراهن..

فإن قال قائل: إن الله تعالى جعل الرهن بدلا عن الشهادة، والكتاب والشهادة دالة على صدق المشهود له، والرهن الذي هو بدله قام مقامه، [ ص: 269 ] إلى أن يبلغ قيمته، فإذا بلغ قيمته فلا وثيقة في الزيادة.

فإذا قال الراهن: رهنت بخمسين، والمرتهن يدعي مائة، وقيمة الشيء مائة فصاعدا، كان الرهن شاهدا له، وإذا كان دون ذلك الذي ادعاه صار في الفضل على قدر قيمة الرهن مدعيا وعليه البينة؟

والجواب عنه: أن الرهن لا يدل على أن قيمته يجب أن تكون مقدار الدين، فإنه ربما رهن الشيء بالقليل والكثير، نعم لا ينقص الرهن غالبا عن مقدار الدين، فأما أن يطابقه فلا، وهذا القائل يقول: يصدق المرتهن مع اليمين في مقدار الدين، إلى أن يساوي قيمة الرهن، وليس العرف على ذلك، فربما نقص الدين عن الرهن وهو الغالب، فلا حاصل لقولهم هذا بوجه ما.

قوله تعالى: ولا تكتموا الشهادة إلى قوله: فإنه آثم قلبه يدل على أنه لما عزم على أنه لا يؤديها، وترك أداءها باللسان، رجع لمأثم إلى الوجهين جميعا، فقوله: آثم قلبه، مجاز هو آكد من الحقيقة في الدلالة على الوعيد، وهو من بديع البيان ولطيف الإعراب عن المعاني.

واعلم بعد ذلك أن الذي أمر الله تعالى به، من الشهادة والكتاب لمراعاة صلاح ذات البين، ونفي التنازع المؤدي إلى فساد ذات البين.

لئلا يسول له الشيطان الجحود بالباطل، وتجاوز ما حدته الشريعة له، أو ترك الاقتصار على المقدار المستحق، ولأجله حرم الشارع البياعات المجهولة التي تؤدي إلى الاختلاف وفساد ذات البين، وإيقاع التضاغن والتباين، ومثله ما حرمه الله تعالى من الميسر والقمار وشرب الخمر بقوله:

إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله.. الآية [ ص: 270 ] فمن تأدب بأدب الله تعالى في أوامره وزواجره، حاز صلاح الدنيا والدين، قال الله تعالى:

ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا، وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما، ولهديناهم صراطا مستقيما .

ويمكن أن يستدل بهذه الآيات على وجوب حفظ المال في التصرفات، ولأجله قال تعالى:

ولا تؤتوا السفهاء أموالكم الآية..

وقال: ولا تبذر تبذيرا، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين .

وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

"لا يحب الله إضاعة المال في غير وجهه" .

فربما حمله اختلال حاله، وكثرة عياله وأثقاله، على اقتحام أمور ذميمة تعود عليه بالوبال وذهاب الدين والدنيا..

التالي السابق


الخدمات العلمية