الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر - إلى قوله : - عن يد وهم صاغرون ، الآية.

اعلم أن مطلق قوله : فاقتلوا المشركين .

وقوله عليه الصلاة والسلام : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله " . وقوله تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله .

يدل كل ذلك على جواز قتل الكفار بأسرهم، ولو لم يكن إلا قوله تعالى : ( اقتلوا المشركين ) ، لكان اللفظ عاما في حق أهل الكتاب وغيرهم.

وقد قال قائلون : إن عموم لفظ المشركين مقصور على عبدة الأوثان، فإن قوله تعالى فرق في اللفظ بين المشركين، وأهل الكتاب، والمجوس، [ ص: 187 ] بقوله : إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا .

فعطف المشركين على هذه الأصناف.

وقال آخرون : لما كان معنى الشرك موجودا في مقالات هؤلاء الفرق من النصارى المشركين بعبادة الله تعالى عبادة المسيح عليه السلام.

والمجوس أشركت من حيث جعلت لله تعالى ندا مغالبا، والصابئون هم عبدة الكواكب، فهم مشركون حقيقة، وقد انتظم اللفظ، فعلى هذا دل قوله "المشركون" على نفي أخذ الجزية من هؤلاء كلهم، العرب والعجم على ما يقوله الشافعي .

ولأجل ذلك توقف عمر في أخذ الجزية من المجوس، وليسوا أهل الكتاب تحقيقا، فإنه سلب الكتاب منهم كما نقل عن علي، وإن صح هذا النقل عن علي، فليسوا أهل الكتاب في الحال، وكون آبائهم من أهل الكتاب لا يقتضي أمرا في حقهم، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما نقله الرواة عنه : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " ، يدل على أنهم ليسوا أهل كتاب،

إذا تبين ذلك، فأخذ الجزية من أهل الكتاب بحكم تخصيص الشرع إياهم من بين المشركين، لا يدل على مثله في المجوس، إذ لا يتناولهم لفظ مطلق لفظ الكتاب ، لقوله تعالى : إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا .

[ ص: 188 ] فإن قيل : فقوله تعالى : من الذين أوتوا الكتاب ، يقتضي جواز أخذ الجزية منهم، ولا دلالة للفظ في حق غيرهم.

وقوله : فاقتلوا المشركين ، إنما ورد في مشركي العرب ، فإنه مرتب على قوله تعالى : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين .

وكذلك قوله : وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة .

وليس فيه دلالة على منع أخذ الجزية من عبدة الأوثان من العجم، والظاهر لا يقتضي في ذلك مشركي العجم منعا ولا إثباتا.

نعم، الظاهر يقتضي جواز أخذ الجزية من كافة أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما، وهذا هو الحق عندنا، وليس يظهر عن هذا السؤال جواب؟

نعم يمكن أن يقال : إن الأصل ألا تقبل الجزية من الكفار إلا فيما خص، وذلك خروج عن موجب الظاهر ويتعلق بنوع آخر.

واعلم أن قوله تعالى : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر - إلى قوله في سياق الآية - : من الذين أوتوا الكتاب . توهم قوم أنه منصرف إلى جميع الكفار وهم أصناف : فمنهم الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وليس ذلك صفة أهل الكتاب، فإنهم يؤمنون بالله وباليوم الآخر.

[ ص: 189 ] وقوله : ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ، صفة غير أهل الكتاب وكثير من الأحكام.

وقوله : ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب هو وصف أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد.

وذكروا أن ظاهر هذا يقتضي أخذ الجزية من أصناف الكفار، إلا ما قام دليل الإجماع عليه في حق مشركي العرب ، وهذا باطل، فإن الله تعالى قال : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله فوصف الذين يقاتلون بأوصاف، فلتكن الأوصاف راجعة إلى الضمير المذكور أولا.

وقوله : لا يؤمنون بالله وصف لهم.

ولا باليوم الآخر يرجع إليهم أيضا.

وقوله : ولا يدينون دين الحق ، ينبغي أن يكون نعتا للذين. فإذا لم يقولوا ذلك فقد نعت قوما بنعت، وذكر بعده نعتا لا لمنعوت متقدم، وذلك يستحيل قطعا.

فلا جرم، رجع كل من يرجع إلى فهم، ونحصل إلى أن الآية نزلت في حق أهل الكتاب.

يبقى أن يقال : كيف وصفهم بأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر؟

قيل : يحتمل أن يقال : إنهم بمنزلة الذين لا يؤمنون في باب الذم، ومثله في من يوالي الكفار من المؤمنين، ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي.

ومعناه أنهم لو كانوا ينتفعون بالإيمان بالله، ما اتخذوهم أولياء.

وقد قيل : معناه أنهم لم يؤمنوا عن يقين ومعرفة. [ ص: 190 ] وقد قيل : لا يؤمنون بذلك على ما يؤمن به المؤمنون.

وقد قيل : لم تكمل معرفتهم بالله تعالى.

قوله تعالى : حتى يعطوا الجزية .

فالجزية عطية مخصوصة.

قيل : سميت جزية لأنها جزاء على الكفر، وقيل : اشتقاقها من الإجزاء بمعنى الكفاية، أي أنها تكفي من يوضع ذلك فيه من المسلمين، وتجزي عن الكافر في عصمته.

قوله تعالى : وهم صاغرون ، الصغار هو النكال، وصف بذلك لأنه يصغر صاحبه، بأن يدفعوها عن قيام، والآخذ لها قاعد، ويعطيها بيده مشيا إلى الوالي الطالب.

وفائدة هذين الشرطين الفرق بين ما يوجد منهم مع كفرهم، وبين ما يوجد من المسلمين من الزكاة، فكما يقترن بالزكاة المدح والإعظام والدعاء له، فيقترن بالجزية الذل والذم، ومتى أخذت على هذا الوجه، كان أقرب إلى ألا يثبتوا على الكفر لما يتداخلهم من الأنفة والعار، وما كان أقرب إلى الإقلاع عن الكفر فهو أصلح في الحكمة، وأولى بوضع الشرع.

وعلى هذا، إذا قال القائل : كيف يجوز العدول عن استئصال الكفار وتطهير الأرض منهم إلى تعزيزهم في ديارنا ونصرتهم بأنفسنا وأموالنا مع عظيم كفرهم، ومع قوله تعالى : تكاد السماوات يتفطرن منه

، ثم يعصم ماله بقدر يسير، وهل هذا إلا كالرضا بكفرهم، وتمهيد أسبابه لهم.

[ ص: 191 ] فيقال في إبطال ذلك : إن قتل الكافر مؤيس من التوبة، وإذا ترك بشريطة الجزية فيلحقه من الذل ما يضجره ويحمله على الإسلام، هذا مع نفع يعود إلى المسلمين، ومع مخالطة الكافر للمسلمين الداعية له إلى تدبر أدلة الإسلام، وهذا المعنى لا فرق فيه بين طائفة وطائفة، إلا أنه يمكن أن يقال : إن قتل من لا كتاب له أقرب إلى تعظيم أمر الدين، ولأن أهل الكتاب أقرب إلى تدبر معاني الكتاب لتقارب ما بين الأديان، وتشاهدها على صدق نبينا صلى الله عليه وسلم، فيجوز أن يكون الأصحاب بالجزية أقرب إلى إيمان أهل الكتاب منه إلى غير أهل الكتاب.

وقوله تعالى : تكاد السماوات يتفطرن منه ، تعظيم فيما يتعلق بالآخرة، ورجوع وبال كفره عليه في الميعاد. ومع هذا فيمهل الشرع أسبابا هي داعية إلى صلاح حاله في ماله.

وليس لقائل أن يقول : وإذا كان ذلك كذلك، فلم يرزقون ويحسن إليهم.

لأن نعمة الله تعالى لا تنافي استعظامه للكفر، فكذلك إقرارهم على المقام في بلادنا بأخذ الجزية لا تنافي استعظام كفره.

وإذا تقرر ذلك أمكن أن يقال : الجزية عقوبة ليحصل بها زجره عن كفره.

والعقوبة منقسمة إلى ما يكون زجرا لمصلحة المعاقب، وإلى ما يكون جزاء.

فأما الجزاء فلم يشرع لمصلحة المعاقب، فعلى هذا لا نقول : يجب على [ ص: 192 ] الكافر الجزية متى اقتضت عصمة، فكأنها دفع القتل عنه ليتدبر قبح القبح فيسلم، فجرى مجرى العبادات، وما يجب فعله لا يعد من العقوبات.

فإن قيل : إنما يجب عليهم ما يحسن لا ما يقبح ويحرم، فكيف يحسن منه دفع الجزية، ومن الإمام أخذها، وإذا أخذناها منه على طريق عصمة دمه، فقد رضينا بمقامه على كفره، وهم متى أرادوا دفع الجزية فقد أرادوا مقامهم على الكفر، وذلك يوجب قبح الدفع والأخذ، ولو كانوا بالجزية حاقنين دماءهم كما بالإسلام، كانوا مخيرين بينهما، فلا يمكن أن يقال : إن الجزية واجبة تحقيقا، ولكن يقال : إن الجزية إضجار ومعاقبة ليرجع عن كفره؟

ويجاب عن هذا بأن يقال : بأن الذي في الكافر من كفره، يقتضي إباحة دمه، لكن حرمة الكتاب تقتضي استبقاءه لما في استبقائه من توقع إسلامه، ولولا ذلك لكان القتل أولى به، وإذا كان كذلك فقد دفع الكافر إلى القتل، أو دفع الجزية، وفي دفعها إزالة القتل، فواجب عليه أن يفعل ذلك لإزالة الضرر العظيم.

فإن قيل : إن القتل امتنع ببذل الجزية لما في أخذ الجزية من توقع إسلامه، والمقصود ذلك، فيلزم على مساقه أن يكون ذلك محتوما، ويجب علينا أخذ الجزية منه، ويمتنع قتله.

والجواب : أن الكافر إذا لم يعرف حسن الإسلام، فقد دفعه الشرع إلى أحد أمرين : إما القتل، وإما الجزية، وهو يعلم أن الجزية أهون عليه من القتل، وفي الجزية حقن الدم، فيحسن بقضية العقل والشرائع كلها دفع الجزية، تحقيقا لمقصود دفع شر القتل، ووجب بحكم شرعنا الجزية عليه، لما فيه [ ص: 193 ] من حسن توقع إسلامه، ودفع قتل يعجله إلى النار، ففي ذلك مصلحة للكافر بحكم دينه الذي هو عليه عند جهله بحسن الإسلام، وبحكم ديننا الذي به عرفنا حسن الإسلام، وتوقعه منه ببذل الجزية، إلا أنه إذا امتنع فلا يمكن تقريره في ديارنا على كره منه، لما فيه من غائلة هربه وترصده لأذية المسلمين، فوجب قتله لدفع الضرر، أما إذا توطن وتأهل وطلب منا الذمة اندفعت غائلته، فحسن بذل الجزية لهذا المعنى.

ومعلوم أن من أكره على دفع ماله بالقتل، وجب عليه دفع ماله لدفع شر القتل عن نفسه. فعلى هذا يجب على الذمي بذل الجزية لدفع شر القتل عن نفسه، ويحسن من المسلمين أخذها منهم، لما يتوقع في ذلك من إسلامه، وقد قيل : يحسن أخذ الجزية في مقابلة مساكنتهم لنا وذبنا عنهم.

فالكافر ليس يبذل على هذا القصد، ولكن يبذلها لدفع القتل، ووجه الوجوب عليه هذا.

فأما المسلم، فإنما يأخذها لحق المساكنة، ولأجل ذبنا عنهم، فقيل لهم : فإذا وجبت الجزية عليهم لهذا المعنى، فلا بد أن يكون الحقن مقصودا، وإنما يكون الحقن مقصودا، وتقريرهم في ديارنا مقصودا معنيا، إذا كان البقاء على الكفر مرادا، فإن من ضرورة تقرير الكافر في ديارنا والتزام الذب عنه، الرضا بفعله، وإرادة الكفر منه، فلا بد أن تكون الجزية عقوبة وزجرا عن الكفر، حتى تكون إرادة الزاجر كراهة المزجور عنه.

فأما إذا كانت الجزية عوضا عن المساكنة أو عن الذب، كان الذب مقصودا، ووجوب تعظيمه وصيانته والذب عنه يقتضي إرادة الكفر لا محالة.

[ ص: 194 ] وإن جعلت الجزية لدفع القتل، فدفع القتل واجب، كما أن الإسلام وجب لدفع العقاب، ودفع العقاب واجب، فإذا يجب أن يكون مخيرا بين الإسلام الذي يدفع به العقاب، وبين الجزية التي يدفع بها القتل، فعلى هذا يمكن أن يكون اختيار من اختار كون الجزية في مقابلة الذب والمساكنة ضعيفا، وإنما المعتمد كون الجزية دافعة للقتل في حق الكافر، ونحن نأخذها لمنفعة المسلمين، وغرضنا منها توقع إسلامه، وفيه مصلحة له من هذه الجهة في دفع القتل عنه، ومنفعة للمسلمين من هذه الجهة لا يبعد وجوبها.

وعلى أنه يقال : متى قلنا : إن الجزية تقتضي العصمة كالإسلام، فإنما نقول ذلك في أحكام الدنيا، وفي أحكام الدنيا كلمة الشهادتين مثل الجزية.

ونحن نقول : يجب على الكافر كلمة الشهادتين، ولا تنفعه الشهادة في إزالة العقاب، وإنما ينتفع بالتوبة والإيمان والمعرفة، وكذلك لا يحقن الدم، ويتبين كيف يحسن دفع الجزية وأخذها، وكيف يقبح.

وأما مقدار الجزية، فليس في كتاب الله تعالى، وهو مأخوذ من السنة، ويجوز أن يكون للاجتهاد مدخل فيه على ما بيناه في الفقه.

والذي يدل عليه القرآن أن الجزية تؤخذ من الرجال المقاتلين، فإنه تعالى قال : "قاتلوا ... حتى".

فيقتضي ذلك وجوبها على من يقاتل، ويدل على أنه ليس على العبد وإن كان مقاتلا لأنه لا مال له، وقد قال تعالى : حتى يعطوا الجزية ، ولا يقال لمن لا يملك : حتى تعطي، والظاهر يقتضي أنه المفتدي بماله، وأن ذلك كالعقوبة، فلا تجب على السيد بسبب عبده.

[ ص: 195 ] واختلف العلماء فيمن دان من المشركين بدين أهل الكتاب بعد المنهب، وظاهر القرآن يقتضي القبول لأنهم من أهل الكتاب.

وكما ليس في القرآن بيان مقدار الجزية المؤداة، فليس فيه بيان مدة أداء الجزية، وتكررها بتكرر الحول، وإنما فيه بيان أن الجزية ينتهي بها وجوب المقاتلة، والظاهر يقتضي وجوبها مرة واحدة.

وأبو حنيفة لا يرى تعدد وجوبها بتكرر الحول، بل يقول : إنهم يقاتلون إلى أن يؤدوا الجزية، إلا أنها تؤخذ منهم عند انفصال السنة، ولا ذكر لذلك في القرآن.

ويدل قوله : حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .

على أن بالإسلام يزول هذا المعنى، فلا جرم لا خلاف أنهم إذا أسلموا فلا يؤدون الجزية عن يد وهم صاغرون.

والشافعي لا يأخذ بعد الإسلام على الوجه الذي قاله الله تعالى، وإنما يقول : الجزية دين، وجب عليه بسبب سابق، وهو السكنى، أو لدفع شر القتل، فصار كالديون كلها، فإذا ثبت للشافعي أنها دين، فإنها لا تسقط، وإذا كان وجوب الدية على نحو وجوب الديون، وفيها غرض، وهو دفع القتل، فهي طاعة مأمور بها، والذمي قد أطاع الله تعالى بدفعها، إلا أن ثواب طاعته محبط، كثواب الطاعات كلها، فهذا تمام ما أردنا بيانه.

وأبو حنيفة لا يرى الجزية واجبة على الذمي طاعة، بل يقول : يقام عليه إضجارا له وإتعابا، وذلك لا يكون طاعة في حقه، وإنما هي طاعة في حقنا، فأما في حق الدافع فلا، فهم إذا امتنعوا من الجزية وجب [ ص: 196 ] قتالهم، وإذا بذلوا الجزية امتنع قتالهم، إلا أن الجزية عندهم عقوبة زاجرة عن الكفر، بالإضافة إلى الذمي، والذي يخالط المسلمين، فتوقع الإسلام منه يزيد على توقعه ممن لا يخالطونا، فهذا تمام هذا المعنى على المذاهب كلها.

التالي السابق


الخدمات العلمية