الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان قد تقدم النهي عن نكاح المشركات؛ والمنافرة لجميع أصناف الكفار؛ وبيان بغضهم؛ وعداوتهم؛ والحث على طردهم؛ ومنابذتهم؛ ها أنتم أولاء تحبونهم ؛ ونحوها؛ لضعف الأمر إذ ذاك؛ وشدة الحاجة إلى [ ص: 24 ] إظهار الفظاظة والغلظة لهم؛ لتعظيم دين الله؛ حتى كانت خلطتهم من أمارات النفاق؛ كما سيأتي في كثير من آيات هذه السورة؛ وكان الدين وصل عند نزولها من العظمة إلى حد لا يحتاج فيه إلى تعظيم معظم؛ وكانت مخالطة أهل الكتاب لا بد منها عند فتوح البلاد التي وعد الصادق بها؛ وسبق في الأزل علمها؛ فكانت الفتنة في مخالطتهم قد صارت في حد الأمن؛ وسع الأمر بحل طعامهم؛ ونسائهم؛ فقال (تعالى) - مكررا ذكر الوقت الذي أنزل فيه هذه الآيات؛ تنبيها على عظم النعمة فيه؛ بتذكر ما هم فيه من الكثرة؛ والأمن؛ والجمع؛ والألفة؛ وتذكر ما كانوا فيه قبل ذلك من القلة؛ والخوف؛ والفرقة؛ فقال - معيدا لصدر الآية التي قبلها؛ إعلاما بعظم النعمة فيه؛ ومفيدا بذكر وقت الإحلال أنه إحلال مقصود به الثبات؛ لكونه يوم إتمام النعمة؛ فهو غير الأول -: اليوم ؛ ولما كان القصد إنما هو الحل؛ لا كونه من محل معين؛ مع أن المخاطبين بهذه الآيات يعلمون أنه لا محل إلا الله؛ بنى الفعل للمجهول؛ فقال: أحل ؛ أي: ثبت الإحلال؛ فلا ينسخ أبدا؛ لكم ؛ أي: أيها المؤمنون؛ الطيبات ؛ أي: التي تقدم في "البقرة"؛ وصفها بالحل؛ لزوال الإثم؛ وملاءمة الطبع؛ فهي الكاملة في الطيب. [ ص: 25 ] ولما كانت الطيبات أعم من المآكل؛ قال: وطعام الذين ؛ ولما كان سبب الحل الكتاب؛ ولم يتعلق بذكر مؤتيه غرض؛ بنى الفعل للمجهول؛ فقال: أوتوا الكتاب ؛ أي: مما يصنعونه؛ أو يذبحونه؛ وعبر بالطعام الشامل لما ذبح وغيره؛ وإن كان المقصود المذبوح؛ لا غيره؛ ولا يتخلف حاله من كتابي ولا غيره؛ تصريحا بالمقصود؛ حل لكم ؛ أي: تناوله لحاجتكم؛ أي: مخالطتهم؛ للإذن في إقرارهم على دينهم بالجزية؛ ولما كان هذا مشعرا بإبقائهم على ما اختاروا لأنفسهم؛ زاده تأكيدا بقوله: وطعامكم حل لهم أي: فلا عليكم في بذله لهم؛ ولا عليهم في تناوله.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت الطيبات أعم من المطاعم وغيرها؛ وكانت الحاجة إلى المناكح بعد الحاجة إلى المطاعم؛ وكانت المطاعم حلالا من الجانبين؛ والمناكح من جانب واحد؛ قال: والمحصنات ؛ أي: الحرائر؛ من المؤمنات ؛ ثم أكد الإشارة إلى إقرار أهل الكتاب؛ فقال: والمحصنات ؛ أي: الحرائر؛ من الذين أوتوا الكتاب ؛ وبنى الفعل للمفعول؛ للعلم بمؤتيه؛ مع أنه لم يتعلق بالتصريح به غرض.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان إيتاؤهم الكتاب لم يستغرق الزمن الماضي؛ أثبت الجار؛ فقال: من قبلكم ؛ أي: وهم اليهود؛ والنصارى؛ وعبر عن العقد بالصداق؛ [ ص: 26 ] للملابسة؛ فقال - مخرجا للأمة؛ لأنها لا تعطى الأجر؛ وهو الصداق؛ لأنها لا تملكه؛ بل يعطاه سيدها -: إذا آتيتموهن أجورهن ؛ أي: عقدتم لهن؛ ودل مساق الشرط على تأكد وجوب الصداق؛ وأن من تزوج وعزم على عدم الإعطاء؛ كان في صورة الزاني؛ وورد فيه حديث؛ وتسميته بالأجر تدل على أنه لا حد لأقله.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان المراد بالأجر المهر؛ وكان في اللغة يطلق على ما يعطاه الزانية أيضا؛ بينه بقوله: محصنين ؛ أي: قاصدين الإعفاف؛ والعفاف؛ غير مسافحين ؛ أي: قاصدين صب الماء لمجرد الشهوة جهارا؛ ولا متخذي أخدان ؛ أي: صدائق لذلك في السر؛ جمع "خدن"؛ وهو يقع على الذكر؛ والأنثى؛ فكانت هذه الآية مخصصة لقوله (تعالى): ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ؛ فبقي على التحريم مما تضمنته تلك ما عدا الكتابيات؛ من الوثنيات؛ وغيرهن؛ من جميع المشركات؛ حتى المنتقلة من الكتابيات من دينها إلى غير دين الإسلام؛ وصرح هنا بالمؤمنات؛ المقتضي لهن قوله (تعالى) - في "النساء" -: وأحل لكم ما وراء ذلكم ؛ وقوله: ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات ؛ ولعل [ ص: 27 ] ذكر وصف الإحصان الواقع على العفة؛ للتنبيه على أنه لا يقصد المتصفة بغيره لمجرد الشهوة؛ إلا من سلب الصفات البشرية؛ وأخلد إلى مجرد الحيوانية؛ فصار في عداد البهائم؛ بل أدنى؛ مع أن التعليق بذلك الوصف لا يفهم الحرمة عند فقده؛ بل الحل من باب الأولى؛ لأن من حكم مشروعية النكاح الإعفاف؛ فإذا شرع إعفاف العفائف كان شرع إعفاف غيرهن أولى؛ لأن زناها إما لشهوة؛ أو حاجة؛ وكلاهما للنكاح مدخل عظيم في نفيه؛ والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان السر في النهي عن نكاح المشركات في الأصل ما يخشى من الفتنة؛ وكانت الفتنة - وإن علا الدين ورسخ الإيمان واليقين - لم تنزل عن درجة الإمكان؛ وكانت الصلاة تسمى إيمانا؛ لأنها من أعظم شرائعه؛ وما كان الله ليضيع إيمانكم ؛ أي: صلاتكم؛ وروى الطبراني ؛ في الأوسط؛ عن عبد الله بن قرط - رضي اللـه عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة؛ فإن صلحت صلح سائر عمله؛ وإن فسدت فسد سائر عمله"؛ وله في الأوسط أيضا؛ بسند ضعيف؛ عن أنس - رضي اللـه عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة ينظر في صلاته؛ فإن صلحت فقد أفلح؛ وإن فسدت فقد خاب وخسر"؛ وكانت مخالطة الأزواج مظنة للتكاسل عنها؛ ولهذا أنزلت آية: حافظوا على الصلوات [ ص: 28 ] كما مضى بالمحل الذي هي به.

                                                                                                                                                                                                                                      لما كان ذلك كذلك؛ ختمت هذه الآية بقوله (تعالى) - منفرا من نكاحهن بعد إحلاله؛ إشارة إلى أن الورع ابتعد عنه؛ امتثالا للآيات الناهية عن موادة المحاد؛ لئلا يحصل ميل؛ فيدعو إلى المتابعة؛ أو يحصل ولد؛ فتستميله لدينها -: ومن أي: أحل لكم ذلك والحال أنه من يكفر ؛ أي: يوجد؛ ويجدد الكفر؛ على وجه طمأنينة القلب به؛ والاستمرار عليه إلى الموت؛ بالإيمان ؛ أي: بسبب التصديق القلبي بكل ما جاءت به الرسل؛ وأنزلت به الكتب؛ الذي منه حل الكتابيات؛ فيدعوه ذلك إلى نكاحهن؛ فتحمله الخلطة على اتباع دينهن؛ فيكفر بسبب ذلك التصديق؛ فيكفر بالصلاة؛ التي يلزم من الكفر بها الكفر به؛ فإطلاقه عليها تعظيم لها: وما كان الله ليضيع إيمانكم ؛ أي: صلاتكم؛ فقد حبط ؛ أي: فسد؛ عمله ؛ أي: إذا اتصل ذلك بالموت؛ بدليل قوله: وهو في الآخرة من الخاسرين ؛ والآية من أدلة إمامنا الشافعي على استعمال اللفظ الواحد في حقيقته؛ ومجازه؛ فحيث قصد التحذير من الكفر حقيقة؛ فالإيمان حقيقة؛ وحيث أريد الترهيب من إضاعة الصلاة؛ فهو مجاز؛ ومما يؤيد ذلك أن في السفر الثاني من التوراة: (لا تعاهدن سكان الأرض لكيلا تضلوا [ ص: 29 ] بأوثانهم؛ وتذبحوا لآلهتهم؛ أو يدعوك فتأكل من ذبائحهم؛ وتزوج بنيك من بناتهم؛ وبناتك من بنيهم؛ فتضل بناتك خلف آلهتهم؛ ويضل بنوك بآلهتهم)؛ وقال في الخامس منها: (وإذا أدخلكم الله ربنا الأرض التي تدخلونها لترثوها؛ وأهلك شعوبا كثيرة من بين أيديكم: حتانيين؛ وجرجسانيين؛ وأمورانيين وكنعانيين وفرزانيين وحاوانيين ويابسانيين؛ سبعة شعوب؛ أكثر وأقوى منكم؛ ويدفعهم الله ربكم في أيديكم؛ فاضربوهم؛ واقتلوهم؛ وانفوهم؛ وحرموهم؛ ولا تعاهدوهم عهدا؛ ولا ترحموهم؛ وتحاشوهم؛ ولا تزوجوا بناتكم من بنيهم؛ ولا تزوجوا بنيكم من بناتهم؛ لئلا يغوين بنيكم عن عبادتي؛ ويخدعنهم فيعبدوا آلهة أخرى؛ ويشتد غضب الرب عليكم؛ ويهلككم سريعا؛ ولكن اصنعوا بهم هذا الصنيع: استأصلوا مذابحهم؛ وكسروا أنصابهم؛ وحطموا أصنامهم المصبوغة؛ وأحرقوا أوثانهم المنحوتة؛ لأنكم شعب طاهر لله ربكم)؛ انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا تأملت جميع ذلك؛ وأمعنت فيه النظر؛ لاح لك سر تعقيبها بقوله (تعالى) في سياق مشير إلى البشارة؛ بأن هذه الأمة تطيع؛ ولا تعصي؛ فتؤمن ولا تكفر؛ لما خص به كتابها من البيان الأتم في النظم المعجز؛ [ ص: 30 ] مع شرف التذكير بما أفاضه من شرف جليل الأيادي؛ فافتتح هذه السورة بالأمر بالوفاء بحق الربوبية؛ وأتبعه التذكير بما وفى به - سبحانه - من حق الربوبية؛ من نوع المنافع في لذة المطعم؛ وتوابعه؛ ولذة المنكح؛ وتوابعه؛ وقدم المطعم لأن الحاجة إليه فوق الحاجة إلى المنكح؛ اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية