الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ولما] أمرهم بالأكل مما ينفعهم ويعينهم على شكره محذرا من أكل ما يعيش مرأى بصائرهم - أتبعه نهيهم نهيا جازما خاصا عن الأكل مما يضرهم في أبدانهم وأخلاقهم ، وهو ما ضاد الأول في خلوه [عن الاسم الشريف] فقال ولا تأكلوا مما لم يذكر أي : مما لا يقبل أن يذكر اسم الله أي : الذي لا يؤخذ شيء إلا منه ؛ لأن له الكمال كله فله الإحاطة الكاملة ، وأشار بأداة الاستعلاء إلى الإخلاص ونفي الإشراك ، فقال : عليه أي : لكون الله قد حرمه فصار نجس العين أو المعنى : فصار مخبثا للبدن والنفس مما ذكر عليه غير اسمه – سبحانه - [ ص: 246 ] بما دل عليه [من] تسميته فسقا ، وتفسير الفسق في آية أخرى بما أهل به لغير الله وكذا ما كان في معناه مما مات أو كان حراما بغير ذلك ، واسمه تعالى منزه عن أن يذكر على غير الحلال ، فإن ذكر عليه كان ملاعبا فلم يطهره ، وأما ما كان حلالا ولم يذكر عليه [اسم الله ولا غيره] فهو حلال ، كما في الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قالوا : يا رسول الله! إن هنا أقواما حديث عهد بشرك يأتوننا بلحمان لا ندري يذكرون اسم الله أم لا! قال : (اذكروا أنتم اسم الله وكلوا) قال البغوي : ولو كانت التسمية شرطا للإباحة لكان الشك في وجودها مانعا من أكلها كالشك في أصل الذبح . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان التقدير : فإنه خبيث في نفسه مخبث ، عطف عليه قوله : وإنه أي : الأكل منه أو هو نفسه لكونه السبب لفسق فجعله نفس الفسق - وهو الخروج عما ينبغي إلى ما لا ينبغي - لأنه عريق جدا في كونه سببه لما تأصل عندهم من أمره وانتشر من شره ، وهذا دليل على ما أولت به لأن النسيان [ليس] بسبب الفسق ، والذي تركت التسمية عليه نسيانا ليس بفسق ، والناسي ليس بفاسق - كما قاله البخاري ، وإلى ذلك الإشارة بما رواه عن عائشة - رضي الله عنها - أن قوما قالوا [ ص: 247 ] للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن قوما يأتونا باللحم ، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ! فقال :

                                                                                                                                                                                                                                      ( سموا عليه أنتم وكلوه) ، قالت : وكانوا حديثي عهد بالكفر
                                                                                                                                                                                                                                      . انتهى . فهذا كله يدل على أن المراد إنما هو كونه مما يحل ذبيحته ، وليس المراد اشتراط التسمية بالفعل .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت الشبه ربما زلزلت ثابت العقائد ، قال محذرا منها : وإن الشياطين أي : أخابث المردة من الجن والإنس البعيدين من الخير المهيئين للشر المحترقين باللعنة من مردة الجن والإنس ليوحون أي : يوسوسون وسوسة بالغة سريعة إلى أوليائهم أي : المقاربين لهم في الطباع المهيئين لقبول كلامهم ليجادلوكم أي : ليفتلوكم عما أمركم به بأن يقولوا لكم : ما قتله الله أحق بالأكل مما قتلتموه أنتم وجوارحكم - ونحو ذلك ، وأهل الحرم لا ينبغي أن يقفوا في غيره ، والغريب لا ينبغي أن يساويهم في الطواف في ثيابه ، والنذر للأصنام كالنذر للكعبة ، ونحو هذا من خرافاتهم التي بنوا أمرهم فيها على الهوى الذي هم معترفون بأنه مضل مضر ، ومبالغون في الذم باتباعه والميل إليه ، ويكفي في هدم جميع شبههم إجمالا أن صاحب الدين ومالك الملك منع منها .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 248 ] ولما كان التقدير : فإن أطعتموهم تركتم الهدى وتبعتم الهوى ، وكان من المعلوم أن الهوى يعود إلى الشرك - عطف على هذا قوله : وإن أطعتموهم أي : المشركين تدينا بما يقولونه في ترك الأكل مما ذكر اسم الله عليه والأكل مما لم يذكر اسم الله عليه ، أو في شيء مما جادلوكم فيه إنكم لمشركون أي : فأنتم وهم في الإشراك سواء كما إذا سميتم غير الله على ذبائحكم على وجه العبادة ؛ لأن من اتبع أمر غير الله فقد أشركه بالله كما قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث عدي بن حاتم - رضي الله عنه - في قوله تعالى : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله من أن عبادتهم لهم تحليلهم ما أحلوا وتحريمهم ما حرموا ، فنبه - صلى الله عليه وسلم - بذلك على أن الأسماء تتبع المعاني; قال شيخ الإسلام محيي الدين النووي الشافعي في باب الضحايا من كتاب الروضة : حكي في الشامل وغيره عن نص الشافعي أنه لو كان لأهل الكتاب ذبيحة يذبحونها باسم غير الله كالمسيح لم تحل; وفي كتاب القاضي ابن كج أن اليهودي لو ذبح لموسى والنصراني لعيسى - عليهما السلام - أو للصليب حرمت ذبيحته ، وأن المسلم لو ذبح للكعبة أو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينبغي أن يقال : تحرم ؛ لأنه ذبح لغير الله تعالى ، قال : [ ص: 249 ] وخرج أبو الحسن وجها آخر [أنها] تحل لأن المسلم يذبح لله ولا يعتقد في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يعتقده النصراني في عيسى - عليه السلام - .

                                                                                                                                                                                                                                      قال : وإذا ذبح للصنم لم تؤكل ذبيحته سواء كان الذابح مسلما أو نصرانيا ، وفي تعليقه للشيخ إبراهيم المروزي أن ما يذبح عند استقبال السلطان تقربا إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه لأنه مما أهل به لغير الله ، واعلم أن الذبح للمعبود باسمه نازل منزلة السجود له . وكل واحد منهما نوع من أنواع التعظيم والعبادة المخصوصة بالله تعالى الذي هو المستحق للعبادة ، فمن ذبح لغيره من حيوان أو جماد كالصنم على وجه التعظيم والعبادة لم تحل ذبيحته ، وكان فعله كفرا كمن سجد لغيره سجدة عبادة ، وكذا لو ذبح له ولغيره على هذا الوجه ، فأما إذا ذبح لغيره لا على هذا الوجه - بأن ضحى أو ذبح للكعبة تعظيما لها لأنها بيت الله تعالى أو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا لا يجوز أن يمنع حل الذبيحة ، وإلى هذا المعنى يرجع قول القائل : أهديت للحرم أو للكعبة ، ومن هذا القبيل الذبح عند استقبال السلطان ، فإنه استبشار بقدومه نازل منزلة ذبح العقيقة لولادة المولود ، ومثل هذا لا يوجب الكفر ، وكذا السجود لغير الله تذللا وخضوعا ، فعلى هذا إذا قال الذابح : بسم الله واسم محمد ، وأراد : أذبح باسم الله وأتبرك باسم محمد ، فينبغي أن لا يحرم ، وقول من قال : لا يجوز ذلك ، يمكن أن يحمل على أن اللفظ مكروه ؛ لأن المكروه يصح نفي الجواز والإباحة المطلقة عنه ، وحكى الرافعي أنه وقعت في هذا منازعة بين أهل قزوين أفضت إلى فتنة في أنه تحل ذبيحته وهل يكفر [ ص: 250 ] بذلك! قال : والصواب ما بينا; قال الشيخ محيي الدين : ومما يؤيد ما قاله - أي : الرافعي - ما ذكره الشيخ إبراهيم المروزي في تعليقه : قال : حكى صاحب التقريب عن الشافعي - رحمه الله - أن النصراني إذا سمى غير الله كالمسيح لم تحل ذبيحته ، قال صاحب التقريب : معناه أن يذبحها له . فأما إن ذكر المسيح على معنى الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجائز ، قال : وقال الحليمي : تحل مطلقا وإن سمى المسيح - والله أعلم ، ثم قال في المسائل المنثورة : الثالثة : قال ابن كج : من ذبح شاة وقال : أذبح لرضى فلان ، حلت الذبيحة ؛ لأنه لا ينصرف إليه بخلاف من تقرب بالذبح إلى الصنم; وقال الروياني : إن من ذبح للجن وقصد به التقرب إلى الله تعالى ليصرف شرهم عنه فهو حلال ، وإن قصد الذبح لهم فحرام ; ومما يوضح لك سر هذا الانتظام ويزيده حسنا أن هذه الآيات كلها من قوله تعالى

                                                                                                                                                                                                                                      إن الله فالق الحب والنوى إلى آخر السورة تفصيل لقوله تعالى في أول السورة قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض فلما ذكر إبداعه السماوات والأرض بقوله إن الله فالق الحب والنوى ونحوه ، وأنكر اتخاذ من دونه بقوله وجعلوا لله شركاء الجن وما نحا نحوه ، قال فكلوا إشارة إلى وهو يطعم ولا يطعم وقوله : أومن كان ميتا فأحييناه وقوله : فمن يرد الله أن يهديه ونحوهما إشارة إلى قوله : قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم وقوله : ويوم نحشرهم جميعا ونحوه مشير إلى : إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 251 ] ولما انقضى التفصيل عند قوله " فسوف يعلمون " شرع في تفصيلها ثانيا بقوله : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا إلى آخرها ، والسر في الإعادة أن الشيء إذا أثبت أو نفي ، وأقيمت الدلائل على إثبات ما ثبت منه ونفي ما نفي ، ثم أعيد ذلك في أسلوب آخر ، كان أثبت في النفس وألصق بالقلب ، لا سيما إن كان في الأسلوب الثاني - كما هي عادة القرآن - زيادة في البيان وتنبيه على ما لم يتقدم أولا ، ولا سيما إن كانت العبارة فائقة والألفاظ عذبة رائقة وأنت خبير بأن هذا كله دأب القرآن في أساليب الافتنان ; قال الغزالي في أوائل كتاب : (الجواهر) في الفصل الذي فيه اشتمال الفاتحة على ثمانية أقسام : وقوله ثانيا الرحمن الرحيم إشارة إلى الصفة مرة أخرى ، ولا تظن أنه مكرر ، فلا مكرر في القرآن ، إذ حد المكرر ما لا ينطوي على مزيد فائدة ، وذكر الرحمة بعد ذكر " العالمين " ، وقبل ذكر " العالمين " ، وقبل ذكر مالك يوم الدين ينطوي على فائدتين عظيمتين في تفصيل مجاري الرحمة ثم ذكر ما حاصله أن إحداهما ملتفت إلى خلق كل عالم من العالمين على أكمل أنواعه وأفضلها وإيتائه كل ما احتاج إليه ، والثانية ملتفت إلى ما بعده بالإشارة إلى الرحمة في المعاد يوم الجزاء عند الإنعام بالملك المؤبد ، قال : وشرح ذلك يطول والمقصود [ ص: 252 ] أنه [لا] مكرر في القرآن ، وإن رأيت شيئا مكررا من حيث الظاهر فانظر إلى سوابقه ولواحقه لينكشف لك مزيد الفائدة في إعادته . انتهى . وفي ذلك نكتة أخرى ، وهي أن الرحمن مشير إلى ما قال من جهة الربوبية في الإيجادين : الأول والثاني ، والرحيم مشير بخصوصه بما ترضاه الإلهية إلى الإيجاد الثاني والإبقاء الثاني بالرحمة الجزائية وإلى ما يفهمه الخصوص من النعمة بمن لم يخصه الرحمة - كما مضت الإشارة إليه في الفاتحة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية