الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ومن الفحشاء والمنكر استماع العبد مزامير الشيطان . والمغني هو مؤذنه الذي يدعو إلى طاعته فإن الغناء رقية الزنى . وكذلك من اتباع خطوات الشيطان ، القول على الله بلا علم . كحال أهل [ ص: 4490 ] البدع والفجور وكثير ممن يستحل مؤاخاة النساء والمرد وإحضارهم في سماع الغناء ودعوى محبة صورهم لله وغير ذلك ، مما فتن به كثير من الناس فصاروا ضالين مضلين . ثم إنه سبحانه نهى المظلوم بالقذف ، أن يمنع ما ينبغي فعله من الإحسان إلى القرابة والمساكين وأهل التوبة . وأمره بالعفو . فإنه كما يحب أن يغفر له فليغفر ، ولا ريب أن صلة الأرحام واجبة ، وإيتاء المساكين واجب ، ومعونة المهاجرين واجبة ، فلا يجوز ترك ما يجب من الإحسان إلى للإنسان بمجرد ظلمه : كما لا يمنع ميراثه وحقه من الصدقات والفيء ، بمجرد ذنب من الذنوب وقد يمنع من ذلك لبعض الذنوب .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الآية دليل على وجوب الصلة والنفقة وغيرها لذوي الأرحام الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب .

                                                                                                                                                                                                                                      فإنه قد ثبت في الصحيح عن عائشة في قصة الإفك ، أن أبا بكر الصديق حلف ألا ينفق على مسطح بن أثاثة ، وكان أحد الخائضين في الإفك في شأن عائشة . وكانت أم مسطح بنت خالة أبي بكر . وقد جعله الله من ذوي القربى الذين نهى عن ترك إيتائهم . والنهي يقتضي التحريم . فإذا لم يجز الحلف على ترك الفعل ، كان الفعل واجبا ، لأن الحلف على ترك الجائز جائز . انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع : قال الزمخشري : لو فليت القرآن كله وفتشت عما أعد به العصاة ، لم تر الله تعالى قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة ، رضوان الله عليها ، ولا أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد والعتاب البليغ والزجر العنيف واستعظام ما ركب من ذلك واستفظاع ما أقدم عليه - ما أنزل فيه ، على طرق مختلفة وأساليب مفتنة . كل واحد منها [ ص: 4491 ] كان في بابه ولم ينزل إلا هذه الثلاث يعني قوله تعالى : إن الذين يرمون إلى قوله تعالى : هو الحق المبين لكفى بها . حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعا . وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة . وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا . وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب الذي هم أهله ، حتى يعلموا عند ذلك ، أن الله هو الحق المبين . فأوجز في ذلك وأشبع وفصل وأجمل وأكد وكرر ، بما لم يقع في وعيد المشركين ، عبدة الأوثان ، إلا ما هو دونه في الفظاعة . وما ذلك إلا لأمر . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان بالبصرة يوم عرفة . وكان يسأل عن تفسير القرآن . حتى سأل عن هذه الآيات فقال : من أذنب ذنبا ثم تاب قبلت توبته ، إلا من خاض في أمر عائشة ، وهذه منه مبالغة وتعظيم لأمر الإفك . ولقد برأ الله تعالى أربعة بأربعة : برأ يوسف بلسان الشاهد : وشهد شاهد من أهلها وبرأ موسى من قول اليهود فيه ، بالحجر الذي ذهب بثوبه . وبرأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى في حجرها : إني عبد الله وبرأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلو على وجه الدهر ، مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات . فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك ؟ وما ذاك إلا لإظهار علو منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتنبيه على إنافة محل سيد ولد آدم وخيرة الأولين والآخرين وحجة الله على العالمين .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أراد أن يتحقق عظمة شأنه صلى الله عليه وسلم وتقدم قدمه وإحرازه لقصب السبق دون كل سابق فليتلق ذلك من آيات الإفك . وليتأمل كيف غضب الله له في حرمته ، وكيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 4492 ] (فإن قلت ) : إن كانت عائشة هي المرادة ، فكيف قيل : المحصنات ؟ (قلت ) : فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أن يراد بالمحصنات أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم وأن يخصصن بأن من قذفهن ، فهذا الوعيد لاحق به . وإذا أردن عائشة كبراهن منزلة وقربة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانت المرادة أولا .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنها أم المؤمنين ، فجمعت . إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة الموصوفات بالإحصان والغفلة والإيمان انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الناصر : والأظهر أن المراد عموم المحصنات والمقصود بذكرهن على العموم ، وعيد من وقع في عائشة ، على أبلغ الوجوه ، لأنه إذا كان هذا وعيد قاذف آحاد المؤمنات ، فما الظن بوعيد من قذف سيدتهن وزوج سيد البشر صلى الله عليه وسلم ؟ على أن تعميم الوعيد أبلغ وأفظع من تخصيصه . هذا ومعنى قول زليخا : ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم فعممت أرادت يوسف ، تهويلا عليه وإرجافا . والمعصوم من عصمه الله تعالى . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس : قال الإمام ابن تيمية في (" منهاج السنة " ) ذهب كثير من أهل السنة إلى أن عائشة رضي الله عنها أفضل نسائه عليه الصلاة والسلام واحتجوا بما في الصحيحين عن أبي موسى وعن أنس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام » . والثريد هو أفضل الأطعمة ، لأنه خبز ولحم . كما قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      إذا ما الخبز تأدمه بلحم فذاك أمانة الله الثريد



                                                                                                                                                                                                                                      وذلك أن البر أفضل الأقوات . واللحم أفضل الإدام ، كما في الحديث الذي رواه [ ص: 4493 ] ابن قتيبة وغيره . عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « سيد إدام أهل الدنيا والآخرة اللحم » فإذا كان اللحم سيد الإدام ، والبر سيد الأقوات ، ومجموعهما الثريد ، كان الثريد أفضل الطعام .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد صح من غير وجه عن الصادق المصدوق أنه قال : « فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام » وفي الصحيح عن عمرو بن العاص قال : قلت : يا رسول الله ! أي النساء أحب إليك ؟ قال : « عائشة » قلت : ومن الرجال ؟ قال : « أبوها » قلت : ثم من ؟ قال : « عمر ، وسمى رجالا » . وهؤلاء يقولون : قوله صلى الله عليه وسلم لخديجة : « ما أبدلني الله خيرا منها » : إن صح معناه ما أبدلني خيرا لي منها : فإن خديجة نفعته في أول الإسلام نفعا لم يقم غيرها فيه مقامها . فكانت خيرا له من هذا الوجه لكونها نفعته وقت الحاجة ، وعائشة صحبته في آخر النبوة وكمال الدين . فحصل لها من العلم والإيمان ما لم يحصل لمن لم يدرك إلا أول النبوة . فكانت أفضل لهذه الزيادة فإن الأمة انتفعت بها أكثر مما انتفعت بغيرها ، وبلغت من العلم والسن ما لم يبلغه غيرها فخديجة كان خيرها مقصورا على نفس النبي صلى الله عليه وسلم لم تبلغ عنه شيئا ، ولم تنتفع بها الأمة كما انتفعوا بعائشة ، ولأن الدين لم يكن قد كمل حتى تعلمه ، ويحصل لها من كمالاته ما حصل لمن علم وآمن به بعد كماله ، ومعلوم أن من اجتمع همه على شيء واحد ، كان أبلغ فيه ممن تفرق همه في أعمال متنوعة . فخديجة رضي الله تعالى عنها خير له من هذا الوجه . لكن أنواع البر لم تحصر في ذلك . ألا ترى أن من كان من الصحابة أعظم إيمانا ، وأكثر جهادا بنفسه وماله . كحمزة وعلي وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير وغيرهم ، هم أفضل من كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم وينفعه في نفسه أكثر منهم . كأبي رافع وأنس بن مالك وغيرهما . وفي الجملة ، الكلام في تفضيل عائشة وخديجة ليس هذا موضع استقصائه . لكن المقصود هنا أن أهل السنة مجمعون على تعظيم عائشة ومحبتها ، وإن نساءه صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين [ ص: 4494 ] اللواتي مات عنهن ، كانت عائشة أحبهن إليه وأعظمهن حرمة عند المسلمين . وقد ثبت في الصحيح أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة ، لما يعلمون من محبته إياها . حتى أن نساءه غرن من ذلك . وأرسلن إليه فاطمة رضي الله عنها تقول له : نساؤك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة : فقال لفاطمة : « أي : بنية أما تحبين ما أحب » ؟ قالت : بلى . قال : « فأحبي هذه » ، الحديث في الصحيحين وفي الصحيحين أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يا عائشة ! هذا جبريل يقرأ عليك السلام » قالت : وعليه السلام ورحمة الله . ترى ما لا نرى . ووهبت سودة بنت زمعة يومها لعائشة رضي الله عنهما ، بإذنه صلى الله عليه وسلم . وكان في مرضه الذي مات فيه يقول : « أين أنا اليوم » ؟ استبطاء ليوم عائشة . ثم استأذن نساءه أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها ، فمرض [ ص: 4495 ] فيه . وفي بيتها توفي بين سحرها ونحرها وفي حجرها . وكانت رضي الله عنها مباركة على أمته . حتى قال أسيد بن حضير ، لما أنزل الله آية التيمم بسببها : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر . ما نزل بك أمر قط تكرهينه إلا جعل الله فيه للمسلمين بركة . وقد كانت نزلت آية براءتها قبل ذلك ، لما رماها أهل الإفك . فبرأها الله من فوق سبع سماوات ، وجعلها من الصينات . وبالله التوفيق . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية