الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [10] يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات أي: من مكة إلى المدينة. فامتحنوهن أي: فاختبروهن بما يغلب على ظنكم صدقهن في الإيمان الله أعلم بإيمانهن أي: المطلع على قلوبهن، لا أنتم، فإنه غير مقدور لكم، فحسبكم أماراته وقرائنه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد روى ابن جرير عن ابن عباس قال: كانت المرأة إذا أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حلفها [ ص: 5771 ] بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا حبا لله ولرسوله.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مجاهد : أي: سلوهن ما جاء بهن؟ فإن كان بهن غضب على أزواجهن أو سخطة أو غيره، ولم يؤمن، فارجعوهن إلى أزواجهن.

                                                                                                                                                                                                                                      فإن علمتموهن مؤمنات قال الزمخشري : أي: العلم الذي تبلغه طاقتكم، وهو الظن الغالب بالحلف، وظهور الأمارات، وإنما سماه علما، إيذانا بأنه كالعلم في وجوب العمل به.

                                                                                                                                                                                                                                      فلا ترجعوهن إلى الكفار أي: فلا تردوهن إلى أزواجهن المشركين؛ إذ لا حل بين المؤمنة والمشرك؛ لأن إيمانها قطع عصمتها من المشرك المعادي لله ولرسوله.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن جرير : وإنما قيل ذلك للمؤمنين؛ لأن العهد كان جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش في صلح الحديبية، أن يرد المسلمون إلى المشركين من جاءهم مسلما، فأبطل ذلك الشرط في النساء إذا جئن مؤمنات مهاجرات، فامتحن فوجدهن المسلمون مؤمنات، وصح ذلك عندهم مما ذكرنا، وأمروا أن لا يردوهن إلى المشركين، إذا علم أنهن مؤمنات، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن أي: لانقطاع النكاح بينهن. قال ابن كثير : هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين. وقد كان جائزا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك من المؤمنة. ولهذا كان أمر أبي العاص بن الربيع، زوج ابنة النبي صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها، وقد كانت مسلمة، وهو على دين قومه. فلما وقع الأسارى يوم بدر، بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمها خديجة ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة. وقال للمسلمين: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا» ، ففعلوا، فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبعث ابنته إليه، فوفى بذلك، وصدقه فيما وعده، وبعثها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زيد بن حارثة رضي الله عنه، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر، [ ص: 5772 ] وكانت سنة اثنتين، إلى أن أسلم زوجها أبو العاص بن الربيع سنة ثمان، فردها عليه بالنكاح الأول، ولم يحدث لها صداقا، ومنهم من يقول بعد سنتين، وهو صحيح؛ لأن إسلامه كان بعد تحريم المسلمات على المشركين بسنتين. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وآتوهم ما أنفقوا قال ابن جرير : أي: وأعطوا المشركين الذين جاءكم نساؤهم مؤمنات، إذا علمتموهن مؤمنات، فلم ترجعوهن إليهم، ما أنفقوا في نكاحهم إياهن من الصداق ولا جناح عليكم أن تنكحوهن أي: هؤلاء المهاجرات اللاتي لحقن بكم من دار الحرب، مفارقات لأزواجهن، وإن كان لهن أزواج إذا آتيتموهن أجورهن أي: مهورهن. قال ابن زيد : لأنه فرق بينهما الإسلام إذا استبرأت أرحامهن.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أشار إلى أنه: كما بطل نكاح المؤمنة على الكافر، بطل نكاح الكافرة على المسلم. بقوله: ولا تمسكوا بعصم الكوافر أي: بعقودهن التي يتمسك بها في الاستحلال.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن جرير : يقول جل ثناؤه للمؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تمسكوا أيها المؤمنون بحبال النساء الكوافر وأسبابهن. و "الكوافر" جمع كافرة. و (العصم): جمع عصمة، وهي ما اعتصم به من العقد والسبب. وهذا نهي من الله تعالى للمؤمنين عن الإقدام على نكاح المشركات من أهل الأوثان، وأمر لهم بفراقهن. ثم روي عن مجاهد قال: أمر أصحاب محمد بطلاق نسائهم كوافر بمكة قعدن مع الكفار.

                                                                                                                                                                                                                                      وعن الزهري : لما نزلت هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا إلى قوله: ولا تمسكوا بعصم الكوافر كان ممن طلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأتين كانتا له بمكة: ابنة أبي أمية، وابنة جرول. وطلحة بن عبيد الله بنت ربيعة، ففرق بينهما الإسلام، حين نهى القرآن عن التمسك بعصم الكوافر، وكن ممن فر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نساء الكفار، [ ص: 5773 ] ممن لم يكن بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فحبسها وزوجها رجلا من المسلمين، أميمة بنت بشر الأنصارية كانت عند ثابت بن الدحداحة، ففرت منه، وهو يومئذ كافر، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سهل بن حنيف ، أحد بني عمرو بن عوف ، فولدت عبد الله بن سهل.

                                                                                                                                                                                                                                      واسألوا ما أنفقتم أي: اطلبوا أيها المؤمنون الذين ذهبت أزواجهم فلحقن بالمشركين ما أنفقتم على أزواجكم اللواتي لحقن بهم، من الصداق، من تزوجن منهم وليسألوا ما أنفقوا أي: وليسألكم المشركون منهم، الذين لحق بكم أزواجهم مؤمنات، إذا تزوجن فيكم، من تزوجها منكم، ما أنفقوا عليهن من الصداق. ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم أي: هذا الحكم الذي حكم به من أمير المؤمنين بمسألة المشركين ما أنفقوا، وأمر المشركين بمثل ذلك، حكم الله الحق الذي لا يعدل عنه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية