الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 641 ] سئل شيخ الإسلام قدس الله روحه عن رجل تفقه وعلم ما أمر الله به وما نهى عنه ثم تزهد وترك الدنيا والمال والأهل والأولاد خائفا من كسب الحرام والشبهات وبعث الآخرة وطلب رضا الله ورسوله وساح في أرض الله والبلدان فهل يجوز له أن يقطع الرحم ويسيح كما ذكر أم لا ؟

                التالي السابق


                فأجاب : الحمد لله وحده . " الزهد المشروع " هو ترك [ كل ] شيء لا ينفع في الدار الآخرة وثقة القلب بما عند الله . كما في الحديث الذي في الترمذي { ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق بما في يدك وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك } لأن الله تعالى يقول { لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم } .

                فهذا صفة " القلب " . [ ص: 642 ] وأما في " الظاهر " فترك الفضول التي لا يستعان بها على طاعة الله من مطعم وملبس ومال وغير ذلك ; كما قال الإمام أحمد : إنما هو طعام دون طعام ولباس دون لباس وصبر أيام قلائل .

                وجماع ذلك خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول : { خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة } . وكان عادته في المطعم أنه لا يرد موجودا ولا يتكلف مفقودا ويلبس من اللباس ما تيسر من قطن وصوف وغير ذلك وكان القطن أحب إليه { وكان إذا بلغه أن بعض أصحابه يريد أن يعتدي فيزيد في الزهد أو العبادة على المشروع ويقول : أينا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب لذلك ويقول : والله إني لأخشاكم لله وأعلمكم بحدود الله تعالى } { وبلغه أن بعض أصحابه قال : أما أنا فأصوم فلا أفطر وقال الآخر أما أنا فأقوم فلا أنام وقال آخر أما أنا فلا أتزوج النساء وقال آخر أما أنا فلا آكل اللحم فقال صلى الله عليه وسلم لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني } . فأما الإعراض عن الأهل والأولاد فليس مما يحبه الله ورسوله ولا هو من دين الأنبياء ; بل قد قال تعالى : { ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية } والإنفاق على العيال والكسب لهم يكون واجبا تارة ومستحبا أخرى فكيف يكون ترك الواجب أو المستحب من الدين وكذلك السياحة في البلاد لغير مقصود مشروع كما يعانيه بعض النساك أمر منهي عنه قال الإمام أحمد : ليست السياحة من الإسلام في شيء ولا من فعل النبيين ولا الصالحين .

                وأما السياحة المذكورة في القرآن من قوله : { التائبون العابدون الحامدون السائحون } ومن قوله : { مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا } فليس المراد بها هذه السياحة المبتدعة ; فإن الله قد وصف النساء اللاتي يتزوجهن رسوله بذلك والمرأة المزوجة لا يشرع لها أن تسافر في البراري سائحة ; بل المراد بالسياحة شيئان . ( أحدهما الصيام . كما روى عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا وإن لكل [ ص: 644 ] ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب } . متفق عليه .

                لكن إذا ترك الإنسان الحرام أو الشبهة بترك واجب أو مستحب وكان الإثم أو النقص الذي عليه في الترك أعظم من الإثم الذي عليه في الفعل لم يشرع ذلك كما ذكر أبو طالب المكي وأبو حامد الغزالي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عمن ترك مالا شبهة فيه وعليه دين . فسأله ولده أترك هذا المال الذي فيه شبهة فلا أقضيه ؟ فقال : له أتدع




                الخدمات العلمية