الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وأما الجواب عن قولهم الفقه من باب الظنون : فقد أجاب طائفة منهم أبو الخطاب بجواب آخر وهو أن العلم المراد به العلم الظاهر وإن جوز أن يكون الأمر بخلافه كقوله : { فإن علمتموهن مؤمنات } . والتحقيق أن عنه جوابين : [ ص: 118 ] " أحدهما " أن يقال : جمهور مسائل الفقه التي يحتاج إليها الناس ويفتون بها هي ثابتة بالنص أو الإجماع وإنما يقع الظن والنزاع في قليل مما يحتاج إليه الناس وهذا موجود في سائر العلوم وكثير مسائل الخلاف هي في أمور قليلة الوقوع ومقدرة وأما ما لا بد للناس منه من العلم مما يجب عليهم ويحرم ويباح فهو معلوم مقطوع به وما يعلم من الدين ضرورة جزء من الفقه وإخراجه من الفقه قول لم يعلم أحد من المتقدمين قاله ولا احترز بهذا القيد أحد إلا الرازي ونحوه وجميع الفقهاء يذكرون في كتب الفقه وجوب الصلاة والزكاة والحج واستقبال القبلة ووجوب الوضوء والغسل من الجنابة وتحريم الخمر والفواحش وغير ذلك مما يعلم من الدين ضرورة . و " أيضا " فكون الشيء معلوما من الدين ضرورة أمر إضافي فحديث العهد بالإسلام ومن نشأ ببادية بعيدة قد لا يعلم هذا بالكلية فضلا عن كونه يعلمه بالضرورة وكثير من العلماء يعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد للسهو وقضى بالدية على العاقلة وقضى أن الولد للفراش وغير ذلك مما يعلمه الخاصة بالضرورة وأكثر الناس لا يعلمه ألبتة .

                " الجواب الثاني " أن يقال : الفقه لا يكون فقها إلا من المجتهد المستدل وهو قد علم أن هذا الدليل أرجح وهذا الظن أرجح [ ص: 119 ] فالفقه هو علمه برجحان هذا الدليل وهذا الظن ; ليس الفقه قطعه بوجوب العمل أي بما أدى إليه اجتهاده بل هذا القطع من أصول الفقه والأصولي يتكلم في جنس الأدلة ويتكلم كلاما كليلا فيقول : يجب إذا تعارض دليلان أن يحكم بأرجحهما ويقول أيضا : إذا تعارض العام والخاص فالخاص أرجح وإذا تعارض المسند والمرسل فالمسند أرجح ويقول أيضا : العام المجرد عن قرائن التخصيص شموله الأفراد أرجح من عدم شموله ويجب العمل بذلك . فأما الفقيه : فيتكلم في دليل معين في حكم معين مثل أن يقول قوله : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } خاص في أهل الكتاب ومتأخر عن قوله : { ولا تنكحوا المشركات } وتلك الآية لا تتناول أهل الكتاب وإن تناولتهم فهذا خاص متأخر ; فيكون ناسخا ومخصصا فهو يعلم أن دلالة هذا النص على الحل أرجح من دلالة ذلك النص على التحريم وهذا الرجحان معلوم عنده قطعا وهذا الفقه الذي يختص به الفقيه هو علم قطعي لا ظني ومن لم يعلم كان مقلدا للأئمة الأربعة والجمهور الذين جوزوا نكاح الكتابيات ، واعتقاد المقلد ليس بفقه . ولهذا قال المستدل على أعيانها : والفقيه قد استدل على عين [ ص: 120 ] الحكم المطلوب والمسئول عنه وحيث لا يعلم الرجحان فهو متوقف لا قول له وإذا قيل له : فقد قال : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } قال : هذا نزل عام الحديبية والمراد به المشركات فإن سبب النزول يدل على أنهن مرادات قطعا وسورة المائدة بعد ذلك فهي خاص متأخر وذاك عام متقدم والخاص المتأخر أرجح من العام المتقدم . ولهذا لما نزل قوله : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } فارق عمر امرأة مشركة وكذلك غيره فدل على أنهم كانوا ينكحون المشركات إلى حين نزول هذه الآية ولو كانت آية البقرة قد نزلت قبل هذه لم يكن كذلك ; فدل على أن آية البقرة بعد آية الممتحنة وآية المائدة بعد آية البقرة . فهذا النظر وأمثاله هو نظر الفقيه العالم برجحان دليل وظن على دليل وهذا علم لا ظن . فقد تبين أن الظن له أدلة تقتضيه وأن العالم إنما يعلم بما يوجب العلم بالرجحان لا بنفس الظن إلا إذا علم رجحانه وأما الظن الذي لا يعلم رجحانه فلا يجوز اتباعه وذلك هو الذي ذم الله به من قال فيه : { إن يتبعون إلا الظن } فهم لا يتبعون إلا الظن ليس عندهم علم . ولو كانوا عالمين بأنه ظن راجح لكانوا قد اتبعوا علما لم يكونوا ممن يتبع إلا الظن والله أعلم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية