الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وقوله تعالى { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين } لما أمر الله تعالى بعقوبة الزانيين حرم مناكحتهما على المؤمنين هجرا لهما ولما معهما من الذنوب والسيئات . كما قال تعالى : { والرجز فاهجر } وجعل مجالس فاعل ذلك المنكر مثله بقوله تعالى : { إنكم إذا مثلهم } وهو زوج له وقد قال تعالى : { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم } أي عشراءهم وقرناءهم وأشباههم ونظراءهم ولهذا يقال المستمع شريك المغتاب .

                ورفع إلى عمر بن عبد العزيز قوم يشربون الخمر وكان فيهم جليس لهم صائم فقال : ابدءوا به في الجلد ألم تسمع الله يقول { فلا تقعدوا معهم } ؟ فإذا كان هذا في المجالسة والعشرة العارضة حين فعلهم للمنكر يكون مجالسهم مثلا لهم فكيف بالعشرة الدائمة .

                والزوج يقال له العشير كما في الحديث من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { رأيت النار فإذا أكثر أهلها النساء [ ص: 316 ] يكفرن قيل : يكفرن بالله ؟ قال : يكفرن العشير ويكفرن الإحسان } فأخبر أنه لا يفعل ذلك إلا زان أو مشرك .

                أما المشرك فلا إيمان له يزجره عن الفواحش ومجامعة أهلها . وأما الزاني ففجوره يدعوه إلى ذلك وإن لم يكن مشركا .

                وفي الآية دليل على أن الزاني ليس بمؤمن مطلق الإيمان وإن لم يكن كافرا مشركا كما في الصحيح : { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن } وذلك أنه أخبر أنه لا ينكح إلا زانية أو مشركة ثم قال تعالى : { وحرم ذلك على المؤمنين } فعلم أن الإيمان يمنع من ذلك ويزجر وأن فاعله إما مشرك وإما زان ليس من المؤمنين الذين يمنعهم إيمانهم من ذلك وذلك أن الزانية فيها إفساد فراش الرجل وفي مناكحتها معاشرة الفاجرة دائما ومصاحبتها والله قد أمر بهجر السوء وأهله ما داموا عليه وهذا المعنى موجود في الزاني فإن الزاني إن لم يفسد فراش امرأته كان قرين سوء لها كما قال الشعبي : من زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها .

                وهذا مما يدخل به على المرأة ضرر في دينها ودنياها فنكاح الزانية أشد من جهة الفراش ونكاح الزاني أشد من جهة أنه السيد المالك الحاكم على المرأة فتبقى المرأة الحرة العفيفة في أسر الفاجر الزاني [ ص: 317 ] الذي يقصر في حقوقها ويتعدى عليها .

                ولهذا اتفق الفقهاء على اعتبار الكفاءة في الدين وعلى ثبوت الفسخ بفوات هذه الكفاءة واختلفوا في صحة النكاح بدون ذلك وهما قولان مشهوران في مذهب أحمد وغيره فإن من نكح زانية مع أنها تزني فقد رضي بأن يشترك هو وغيره فيها ورضي لنفسه بالقيادة والدياثة ومن نكحت زان وهو يزني بغيرها فهو لا يصون ماءه حتى يضعه فيها ; بل يرميه فيها وفي غيرها من البغايا فهي بمنزلة الزانية المتخذة خدنا فإن مقصود النكاح حفظ الماء في المرأة وهذا الرجل لا يحفظ ماءه والله سبحانه شرط في الرجال أن يكونوا محصنين غير مسافحين فقال : { وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين } وهذا المعنى مما لا ينبغي إغفاله ; فإن القرآن قد نصه وبينه بيانا مفروضا كما قال تعالى : { سورة أنزلناها وفرضناها } .

                فأما تحريم نكاح الزانية فقد تكلم فيه الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم وفيه آثار عن السلف وإن كان الفقهاء قد تنازعوا فيه وليس مع من أباحه ما يعتمد عليه .

                وقد ادعى بعضهم أن هذه الآية منسوخة بقوله { والمحصنات } [ ص: 318 ] وزعموا أن البغي من المحصنات وتلك الآيات حجة عليهم فإن أقل ما في الإحصان العفة وإذا اشترط فيه الحرية فذاك تكميل للعفة والإحصان ومن حرم نكاح الأمة لئلا يرق ولده كيف يبيح البغي التي تلحق به من ليس بولده وأين فساد فراشه من رق ولده وكذلك من زعم أن النكاح هنا هو الوطء والمعنى أن الزاني لا يطأ إلا زانية أو مشركة والزانية لا يطؤها إلا زان أو مشرك وهذا أبلغ في الحجة عليهم فمن وطئ زانية أو مشركة بنكاح فهو زان وكذلك من وطئها زان فإن ذم الزاني بفعله الذي هو الزنا حتى لو استكرهها أو استدخلت ذكره وهو نائم كانت العقوبة للزاني دون قرينه وهذه المسألة مبسوطة في كتب الفقه .

                والمقصود قوله { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } فإن هذا يدل على أن الزاني لا يتزوج إلا زانية أو مشركة وإن ذلك حرام على المؤمنين وليس هذا لمجرد كونه فاجرا بل لخصوص كونه زانيا وكذلك في المرأة ليس لمجرد فجورها بل لخصوص زناها بدليل أنه جعل المرأة زانية إذا تزوجت زانيا كما جعل الزوج زانيا إذا تزوج زانية هذا إذا كانا مسلمين يعتقدان تحريم الزنا وإذا كانا مشركين فينبغي أن يعلم ذلك . ومضمونه أن الرجل الزاني لا يجوز نكاحه حتى يتوب وذلك بأن يوافق اشتراطه الإحصان والمرأة إذا كانت [ ص: 319 ] زانية لا تحصن فرجها عن غير زوجها بل يأتيها هو وغيره كان الزوج زانيا هو وغيره يشتركون في وطئها كما تشترك الزناة في وطء المرأة الواحدة ولهذا يجب عليه نفي الولد الذي ليس منه .

                فمن نكح زانية فهو زان أي تزوجها ومن نكحت زانيا فهي زانية أي تزوجته ; فإن كثيرا من الزناة قصروا أنفسهم على الزواني فتكون المرأة خدنا وخليلا له لا يأتي غيرها فإن الرجل إذا كان زانيا لا يعف امرأته وإذا لم يعفها تشوقت هي إلى غيره فزنت به كما هو الغالب على نساء الزواني أو من يلوط بالصبيان فإن نساءه يزنين ليقضين إربهن ووطرهن ويراغمن أزواجهن بذلك حيث لم يعفوا أنفسهم عن غير أزواجهن فهن أيضا لم يعففن أنفسهن عن غير أزواجهن ; ولهذا يقال : " عفوا تعف نساؤكم وأبناؤكم وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم " فإن الجزاء من جنس العمل وكما تدين تدان ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها ; فإن الرجل إذا رضي أن ينكح زانية رضي بأن تزني امرأته والله تعالى قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة فأحدهما يحب لنفسه ما يحب للآخر فإذا رضيت المرأة أن تنكح زانيا فقد رضيت عمله وكذلك إن رضي الرجل أن ينكح زانية فقد رضي عملها ومن رضي الزنا كان بمنزلة الزاني . فإن أصل الفعل هو الإرادة ولهذا جاء في الأثر " من غاب عن معصية فرضيها [ ص: 320 ] كان كمن شهدها أو فعلها " : وفي الحديث { المرء على دين خليله } وأعظم الخلة خلة الزوجين .

                وأيضا فإن الله قد جعل في نفوس بني آدم من الغيرة ما هو معروف فيستعظم الرجل أن يطأ الرجل امرأته أعظم من غيرته على نفسه أن يزني فإذا لم يكره أن تكون زوجته بغيا وهو ديوث كيف يكره أن يكون هو زان ولهذا لم يوجد من هو ديوث أو قواد يعف عن الزنا فإن الزاني له شهوة في نفسه والديوث ليس له شهوة في زنا غيره فإذا لم يكن معه إيمان يكره به زنا غيره بزوجته كيف يكون معه إيمان يمنعه من الزنا فمن استحل أن يترك امرأته تزني استحل أعظم الزنا ومن أعان على ذلك فهو كالزاني ومن أقر على ذلك مع إمكان تغييره فقد رضيه ومن تزوج غير تائبة فقد رضي أن تزني إذ لا يمكنه منعها من ذلك فإن كيد النساء عظيم .

                ولهذا جاز للرجل إذا أتت امرأته بفاحشة مبينة أن يعضلها لتفتدي نفسها منه وهو نص أحمد وغيره لأنها بزناها طلبت الاختلاع منه وتعرضت لإفساد نكاحه فإنه لا يمكنه المقام معها حتى تتوب ولا يسقط المهر بمجرد زناها كما دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم للملاعن لما قال : مالي قال { لا مال لك عندها إن كنت صادقا عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كاذبا عليها [ ص: 321 ] فهو أبعد لك } لأنها إذا زنت قد تتوب ; لكن زناها يبيح له إعضالها حتى تفتدي منه نفسها إن اختارت فراقه أو تتوب .

                وفي الغالب أن الرجل لا يزني بغير امرأته إلا إذا أعجبه ذلك الغير فلا يزال يزني بما يعجبه فتبقى امرأته بمنزلة المعلقة التي لا هي أيم ولا ذات زوج فيدعوها ذلك إلى الزنا ويكون الباعث لها على ذلك مقابلة زوجها على وجه القصاص مكايدة له ومغايظة ; فإنه ما لم يحفظ غيبها لم تحفظ غيبه ولها في بضعه حق كما له في بضعها حق فإذا كان من العادين لخروجه عما أباح الله له لم يكن قد أحصن نفسه وأيضا فإن داعية الزاني تشتغل بما يختاره من البغايا فلا تبقى داعيته إلى الحلال تامة ولا غيرته كافية في إحصانه المرأة فتكون عنده كالزانية المتخذة خدنا . وهذه معان شريفة لا ينبغي إهمالها .

                وعلى هذا فالمرأة المساحقة زانية كما جاء في الحديث { زنا النساء سحاقهن } والرجل الذي يعمل عمل قوم لوط بمملوك أو غيره هو زان والمرأة الناكحة له زانية فلا تنكحه إلا زانية أو مشركة ولهذا يكثر في نساء اللوطية من تزني بغير زوجها وربما زنت بمن يتلوط هو به مراغمة له وقضاء لوطرها وكذلك المرأة المزوجة بمخنث ينكح كما تنكح هي متزوجة بزان بل هو أسوأ الشخصين حالا فإنه مع الزنا صار مخنثا ملعونا على نفسه للتخنيث غير اللعنة التي تصيبه بعمل قوم لوط [ ص: 322 ] فإن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من يعمل عمل قوم لوط وثبت عنه في الصحيح أنه لعن المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء وقال { أخرجوهم من بيوتكم .

                } وكيف يجوز للمرأة أن تتزوج بمخنث قد انتقلت شهوته إلى دبره ؟ فهو يؤتى كما تؤتى المرأة وتضعف داعيته من أمامه كما تضعف داعية الزاني بغير امرأته عنها فإذا لم تكن له غيرة على نفسه ضعفت غيرته على امرأته وغيرها ; ولهذا يوجد من كان مخنثا ليس له كبير غيرة على ولده ومملوكه ومن يكفله والمرأة إذا رضيت بالمخنث واللوطي كانت على دينه فتكون زانية وأبلغ فإن تمكين المرأة من نفسها أسهل من تمكين الرجل من نفسه فإذا رضيت ذلك من زوجها رضيته من نفسها .

                ولفظ هذه الآية وهو قوله تعالى { الزاني لا ينكح إلا زانية } الآية يتناول هذا كله إما بطريق عموم اللفظ أو بطريق التنبيه وفحوى الخطاب الذي هو أقوى من مدلول اللفظ وأدنى ذلك أن يكون بطريق القياس كما قد بيناه في حد اللوطي ونحوه والله أعلم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية