الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 162 ] وعلى هذا فقوله تعالى : { إن نفعت الذكرى } لا يمنع كون الكافر يبلغ القرآن لوجوه .

                أحدها : أنه لم يخص قوما دون قوم لكن قال : { فذكر } وهذا مطلق بتذكير كل أحد . وقوله : { إن نفعت الذكرى } لم يقل " إن نفعت كل أحد " . بل أطلق النفع . فقد أمر بالتذكير إن كان ينفع .

                والتذكير المطلق العام ينفع . فإن من الناس من يتذكر فينتفع به والآخر تقوم عليه الحجة ويستحق العذاب على ذلك فيكون عبرة لغيره فيحصل بتذكيره نفع أيضا . ولأنه بتذكيره تقوم عليه الحجة فتجوز عقوبته بعد هذا بالجهاد وغيره فتحصل بالذكرى منفعة .

                فكل تذكير ذكر به النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين حصل به نفع في الجملة وإن كان النفع للمؤمنين الذين قبلوه واعتبروا به وجاهدوا المشركين الذين قامت عليهم الحجة .

                فإن قيل : فعلى هذا كل تذكير قد حصل به نفع فأي فائدة في التقييد ؟ [ ص: 163 ] قيل : بل منه ما لم ينفع أصلا وهو ما لم يؤمر به . وذلك كمن أخبر الله أنه لا يؤمن كأبي لهب فإنه بعد أن أنزل الله قوله { سيصلى نارا ذات لهب } فإنه لا يخص بتذكير بل يعرض عنه .

                وكذلك كل من لم يصغ إليه ولم يستمع لقوله فإنه يعرض عنه كما قال : { فتول عنهم فما أنت بملوم } ثم قال : { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } فهو إذا بلغ قوما الرسالة فقامت الحجة عليهم ثم امتنعوا من سماع كلامه أعرض عنهم . فإن الذكرى حينئذ لا تنفع أحدا .

                وكذلك من أظهر أن الحجة قامت عليه وأنه لا يهتدي فإنه لا يكرر التبليغ عليه .

                الوجه الثاني : أن الأمر بالتذكير أمر بالتذكير التام النافع كما هو أمر بالتذكير المشترك .

                وهذا التام النافع يخص به المؤمنين المنتفعين . فهم إذا آمنوا ذكرهم بما أنزل وكلما أنزل شيء من القرآن ذكرهم به ويذكرهم بمعانيه ويذكرهم [ بما ] نزل قبل ذلك .

                بخلاف الذين قال فيهم : { فما لهم عن التذكرة معرضين } { كأنهم حمر مستنفرة } { فرت من قسورة } . فإن هؤلاء لا يذكرهم كما يذكر المؤمنين إذا كانت الحجة قد قامت عليهم وهم معرضون عن التذكرة لا يسمعون .

                ولهذا قال . { عبس وتولى } { أن جاءه الأعمى } { وما يدريك لعله يزكى } { أو يذكر فتنفعه الذكرى } { أما من استغنى } { فأنت له تصدى } { وما عليك ألا يزكى } { وأما من جاءك يسعى } { وهو يخشى } { فأنت عنه تلهى } فأمره أن يقبل على من جاءه يطلب أن يتزكى وأن يتذكر .

                وقال : { سيذكر من يخشى } إلى قوله { قد أفلح من تزكى } فذكر التذكر والتزكي كما ذكرهما هناك . وأمره أن يقبل على من أقبل عليه دون من أعرض عنه فإن هذا ينتفع بالذكرى دون ذاك .

                فيكون مأمورا أن يذكر المنتفعين بالذكرى تذكيرا يخصهم به غير التبليغ العام الذي تقوم به الحجة كما قال : { فتول عنهم فما أنت بملوم } { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } .

                وقال : { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا } وفي الصحيحين { عن ابن عباس : قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن سمعه المشركون فسبوا القرآن ومن أنزل عليه ومن جاء به فقال الله له : ولا تجهر به فيسمعه المشركون ولا تخافت [ ص: 165 ] به عن أصحابك } . فنهى عن أن يسمعهم إسماعا يكون ضرره أعظم من نفعه .

                وهكذا كل ما يأمر الله به لا بد أن تكون مصلحته راجحة على مفسدته والمصلحة هي المنفعة والمفسدة هي المضرة . فهو إنما يؤمر بالتذكير إذا كانت المصلحة راجحة وهو أن تحصل به منفعة راجحة على المضرة . وهذا يدل على الوجه الأول والثاني . فحيث كان الضرر راجحا فهو منهي عما يجلب ضررا راجحا .

                والنفع أعم في قبول جميعهم فقبول بعضهم نفع وقيام الحجة على من لم يقبل نفع وظهور كلامه حتى يبلغ البعيد نفع وبقاؤه عند من سمعه حتى بلغه إلى من لم يسمعه نفع . فهو صلى الله عليه وسلم ما ذكر قط إلا ذكرى نافعة لم يذكر ذكرى قط يكون ضررها راجحا .

                وهذا مذهب جمهور المسلمين من السلف والخلف أن ما أمر الله به لا بد أن تكون مصلحته راجحة ومنفعته راجحة . وأما ما كانت مضرته راجحة فإن الله لا يأمر به .

                وأما جهم ومن وافقه من الجبرية فيقولون : إن الله قد يأمر بما ليس فيه منفعة ولا مصلحة ألبتة بل يكون ضررا محضا إذا فعله [ ص: 166 ] المأمور به وقد وافقهم على ذلك طائفة من متأخري أتباع الأئمة ممن سلك مسلك المتكلمين - أبي الحسن الأشعري وغيره في ] مسائل القدر فنصر مذهب جهم والجبرية .

                الوجه الثالث : أن قوله : { الذكرى } يتناول التذكر والتذكير . فإنه قال : { فذكر إن نفعت الذكرى } . فلا بد أن يتناول ذلك تذكيره .

                ثم قال : { سيذكر من يخشى } { ويتجنبها الأشقى } . والذي يتجنبه الأشقى هو الذي فعله من يخشى وهو التذكر . فضمير الذكرى هنا يتناول التذكر وإلا فمجرد التذكير الذي قامت به الحجة لم يتجنبه أحد .

                لكن قد يراد بتجنبها أنه لم يستمع إليها ولم يصغ كما قال : { لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه } . والحجة قامت بوجود الرسول المبلغ وتمكنهم من الاستماع والتدبر لا بنفس الاستماع . ففي الكفار من تجنب سماع القرآن واختار غيره كما يتجنب كثير من المسلمين سماع أقوال أهل الكتاب وغيرهم وإنما ينتفعون إذا ذكروا فتذكروا كما قال : { سيذكر من يخشى } .

                فلما قال : { فذكر إن نفعت الذكرى } فقد يراد بالذكرى نفس [ ص: 167 ] تذكيره تذكر أو لم يتذكر . وتذكيره نافع لا محالة كما تقدم وهذا يناسب الوجه الأول .

                وقد ذكر بعضهم أن هذا يراد به توبيخ من لم يتذكر من قريش قال ابن عطية : اختلف الناس في معنى قوله : { فذكر إن نفعت الذكرى } فقال الفراء والنحاس والزهراوي : معناه " وإن لم تنفع " فاقتصر على الاسم الواحد لدلالته على الثاني . قال وقال بعض الحذاق : قوله : { إن نفعت الذكرى } اعتراض بين الكلامين على جهة التوبيخ لقريش . أي إن نفعت الذكرى في هؤلاء الطغاة العتاة . وهذا كنحو قول الشاعر :

                لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي

                وهذا كله كما تقول لرجل : " قل لفلان واعذله إن سمعك " إنما هو توبيخ للمشار إليه .

                ( قلت : هذا القائل هو الزمخشري وهذا القول فيه بعض الحق . لكنه أضعف من ذاك القول من وجه آخر . فإن مضمون هذا القول أنه مأمور بتذكير من لا يقبل ولا ينفع بالذكرى دون من يقبل كما قال : " إن نفعت الذكرى في هؤلاء الطغاة العتاة " وكما أنشده في البيت .

                [ ص: 168 ] ثم البيت الذي أنشده خبر عن شخص خاطب آخر . فيقول : لقد أسمعت لو كان من تناديه حيا . وهذا كقوله : { إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } وقوله : { إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين } وقوله : { قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون } . فهذا يناسب معنى البيت وهو خبر خاص .

                وأما الأمر بالإنذار فهو مطلق عام . وإن كان مخصوصا فالمؤمنون أحق بالتخصيص كما قال : { فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } وقال : { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } . ليس الأمر مختصا بمن لا يسمع .

                كيف وقد قال بعد ذلك : { سيذكر من يخشى } { ويتجنبها الأشقى } فهذا الذي يخشى هو ممن أمره بتذكيره وهو ينتفع بالذكرى . فكيف لا يكون لهذا الشرط فائدة إلا ذم من لم يسمع ؟ وأما قول القائل " قل لفلان واعذله إن سمعك " فهذا وأمثاله يقوله الناس لمن يظنون أنه لا يقبل ولكن يرجون قبوله . فهم يقصدون توبيخه على تقدير الرد لا على تقدير القبول . فيقولون : " قل له إن كان يسمع منك " و " قل له إن كان يقبل " و " انصحه إن [ ص: 169 ] كان يقبل النصيحة " وهو كله من هذا الباب . فهو أمر بالنصيحة التامة المقبولة إن كان يقبلها وأمر بأصل النصح وإن رده وذم له على هذا التقدير .

                وكذلك قوله : { فذكر إن نفعت الذكرى } أمر بتذكير كل أحد فإن انتفع كان تذكره تاما نافعا . وإلا حصل أصل التذكير الذي قامت به الحجة ودل ذلك على ذمه واستحقاقه التوبيخ .

                مع أنه سبحانه إنما قال : { إن نفعت الذكرى } ولم يقل " ذكر من تنفعه الذكرى فقط " . كما في قوله : { فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } فهناك الأمر بالتذكير خاص .

                وقد جاء عاما وخاصا كخطاب القرآن بـ { يا أيها الناس } وهو عام وب { يا أيها الذين آمنوا } خاص لمن آمن بالقرآن .

                فهناك قال : { فإن الذكرى تنفع المؤمنين } وهنا قال : { سيذكر من يخشى } { ويتجنبها الأشقى } . ولم يقل " سينتفع من يخشى " . فإن النفع الحاصل بالتذكير أعم من تذكر من يخشى .

                فإنه إذا ذكر قامت الحجة على الجميع . والأشقى الذي تجنبها حصل بتذكيره قيام الحجة عليه واستحقاقه لعذاب الدنيا والآخرة .

                [ ص: 170 ] وفي ذلك لله حكم ومنافع هي نعم على عباده . فكل ما يقضيه الله تعالى هو من نعمته على عباده : ولهذا يقول عقب تعديد ما يذكره : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } ولما ذكر ما ذكره في سورة النجم وذكر إهلاك مكذبي الرسل قال : { فبأي آلاء ربك تتمارى } فإهلاكهم من آلاء ربنا . وآلاؤه نعمه التي تدل على رحمته وعلى حكمته وعلى مشيئته وقدرته وربوبيته سبحانه وتعالى .

                ومن نفع تذكير الذي يتجنبها أنه لما قامت عليه الحجة واستحق العذاب خف بذلك شر عن المؤمنين فإن الله يهلكهم بعذاب من عنده أو بأيديهم . وبهلاكه ينتصر الإيمان وينتشر ويعتبر به غيره وذلك نفع عظيم .

                وهو أيضا يتعجل موته فيكون أقل لكفره . فإن الله أرسل محمدا رحمة للعالمين فبه تصل الرحمة إلى كل أحد بحسب الإمكان .

                وأيضا فإن الذي يتجنبها بتجنبه استحق هذا الوعيد المذكور فصار ذلك تحذيرا لغيره من أن يفعل مثل فعله . قال تعالى : { فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها } وقال تعالى عن فرعون : { فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين } وقال تعالى : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب }

                التالي السابق


                الخدمات العلمية