الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه رأى امرأة من السبي إذا رأت طفلا أرضعته رحمة له فقال : أترون هذه طارحة ولدها في النار ؟ قالوا : لا يا رسول الله فقال : لله أرحم بعباده من هذه بولدها } .

                فبين أن الله أرحم بعباده من أرحم الوالدات بولدها . فإنه من جعلها رحيمة أرحم منها .

                وهذا مما يدل عليه قوله { وربك الأكرم } وقولنا " الله أكبر " [ ص: 449 ] فإنه سبحانه أرحم الراحمين . وخير الغافرين وخير الفاتحين وخير الناصرين وأحسن الخالقين وهو نعم الوكيل ونعم المولى ونعم النصير .

                وهذا يقتضي حمدا مطلقا على ذلك وأنه كافي من توكل عليه وأنه يتولى عبده توليا حسنا وينصره نصرا عزيزا . وذلك يقتضي أنه أفضل وأكمل من كل ما سواه كما يدل على ذلك قولنا " الله أكبر " .

                وكذلك إذا قيل : المتكلم السميع البصير إما أن يكون متكلما سميعا بصيرا بنفسه وإما أن يكون غيره جعله سميعا بصيرا متكلما . ومن جعل غيره متكلما سميعا بصيرا فهو أولى أن يكون متكلما سميعا بصيرا وإلا كان المفعول أكمل من الفاعل فإن هذه صفات كمال .

                وكذلك يقال : العادل إما أن يكون عادلا بنفسه والصادق إما أن يكون صادقا بنفسه وإما أن يكون غيره جعله صادقا عادلا . ومن جعل غيره صادقا عادلا فهو أولى أن يكون صادقا عادلا .

                فهذه كلها طرق صحيحة بينة .

                فإن قيل : يعارض هذا بأن يقال : من جعل غيره ظالما أو كاذبا فهو أيضا ظالم كاذب وأهل السنة يقولون إنه جعل غيره كذلك [ ص: 450 ] وليس هو كذلك سبحانه قيل : هذا باطل من وجهين .

                أحدهما : أنه ليس كل من جعل غيره على صفة أي صفة كانت كان متصفا بها بل من جعل غيره على صفة من صفات الكمال فهو أولى باتصافه بصفة الكمال من مفعوله .

                وأما صفات النقص فلا يلزم إذا جعل الجاعل غيره ناقصا أن يكون هو ناقصا . فالقادر يقدر أن يعجز غيره ولا يكون عاجزا . والحي يمكنه أن يقتل غيره ويميته ولا يكون ميتا . والعالم يمكنه أن يجهل غيره ولا يكون جاهلا . والسميع والبصير والناطق يمكنه أن يعمي غيره ويصمه ويخرسه ولا يكون هو كذلك .

                فلا يلزم حينئذ أن من جعل غيره ظالما وكاذبا أن يكون كاذبا وظالما لأن هذه صفة نقص .

                فإن قيل : الكاذب والظالم قد يلزم غيره بالصدق والعدل أحيانا قيل : هو لم يجعله صادقا وعالما وإنما أمره بذلك وهو فعل ذلك بنفسه . ولم نقل : كل من أمر غيره بشيء كان متصفا بما أمر به غيره .

                الثاني : أن الظلم أمر نسبي إضافي فمن أمر غيره أن يقتل شخصا [ ص: 451 ] فقتله هذا القاتل من غير جرم يعلمه كان ظالما وإن كان ذلك الآمر إنما أمره به لكونه قد قتل أباه والمأمور لم يفعله لذلك . فلو فعله بطريق النيابة لم يكن ظالما . فإن كان له معه غرض فقتله ظلما ولكن الآمر كان مستحقا لقتله .

                وكذلك من أمر غيره بما هو كذب من المأمور كأمر يوسف للمؤذن أن يقول { أيتها العير إنكم لسارقون } يوسف عليه السلام قصد . إنكم لسارقون يوسف من أبيه وهو صادق في هذا . والمأمور قصد : إنكم لسارقون الصواع وهو يظن أنهم سرقوه فلم يكن متعمدا للكذب وإن كان خبره كذبا .

                والرب تعالى لا تقاس أفعاله بأفعال عباده . فهو يخلق جميع ما يخلقه لحكمة ومصلحة وإن كان بعض ما خلقه فيه قبح كما يخلق الأعيان الخبيثة كالنجاسات وكالشياطين لحكمة راجحة . وبسط هذا له موضع آخر .

                والمقصود هنا أن دلائل إثبات الرب كثيرة جدا . وهؤلاء الذين يزعمون أن المعقول يعارض خبر الرسول الذين يقولون إنهم أثبتوا واجب الوجود أو القديم أو الصانع هم لم يثبتوه بل حججهم تقتضي نفيه وتعطيله فهم نافون له . لا مثبتون له . وحججهم باطلة في [ ص: 452 ] العقل لا صحيحة في العقل .

                والمعرفة بالله ليست موقوفة على أصولهم . بل تمام المعرفة موقوف على العلم بفساد أصولهم وإن سموها " أصول العلم والدين " فهي " أصول الجهل وأصول دين الشيطان لا دين الرحمن " . وحقيقة كلامهم " ترتيب الأصول في مخالفة الرسول والمعقول " كما قال أصحاب النار { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } . فمن خالف الرسول فقد خالف السمع والعقل خالف الأدلة السمعية والعقلية .

                أما القائلون بواجب الوجود فقد بينا في غير موضع أنهم لم يقيموا دليلا على واجب الوجود .

                وأن الرازي لما تبع ابن سينا لم يكن في كتبه إثبات واجب الوجود . فإنهم جعلوا وجوده موقوفا على إثبات " الممكن " الذي يدخل فيه القديم . فما بقي يمكن إثبات واجب الوجود على طريقهم إلا بإثبات ممكن قديم وهذا ممتنع في بديهة العقل واتفاق العقلاء . فكان طريقهم موقوفا على مقدمة باطلة في صريح العقل . وقد اتفق العقلاء على بطلانها فبطل دليلهم . ولهذا كان كلامهم في " الممكن " مضطربا غاية الاضطراب .

                ولكن أمكنهم أن يستدلوا على أن المحدث لا بد له من قديم وهو [ ص: 453 ] واجب الوجود . ولكن قد أثبتوا قديما ليس بواجب الوجود . فصار ما أثبتوه من القديم يناقض أن يكون هو رب العالمين إذ أثبتوا قديما ينقسم إلى واجب وإلى غير واجب .

                وأيضا فالواجب الذي أثبتوه قالوا : إنه يمتنع اتصافه بصفة ثبوتية . وهذا ممتنع الوجوب لا ممكن الوجوب فضلا عن أن يكون واجب الوجود كما قد بسط هذا في مواضع وبين أن الواجب الذي يدعونه يقولون إنه لا يكون لا صفة ولا موصوفا ألبتة . وهذا إنما يتخيل في الأذهان لا حقيقة له في الأعيان .

                والواجب إذا فسر بمبدع الممكنات فهو حق وهو اسم للذات المتصفة بصفاتها . وإذا فسر بالموجود بنفسه الذي لا فاعل له فالذات واجبة والصفات واجبة . وإذا فسر بما لا فاعل له ولا محدث فالذات واجبة والصفات ليست واجبة . وإذا فسر بما ليس صفة ولا موصوفا فهذا باطل لا حقيقة له . بل هو ممتنع الوجود لا ممكن الوجود ولا واجب الوجود . وكلما أمعنوا في تجريده عن الصفات كانوا أشد إيغالا في التعطيل كما قد بسط في مواضع .

                وأما الذين قالوا إنهم أثبتوا القديم من الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم من الأشعرية والكرامية الذين استدلوا بحدوث الأعراض [ ص: 454 ] ولزومها للأجسام وامتناع حوادث لا أول لها على حدوث الأجسام فهؤلاء لم يثبتوا الصانع لما عرف من فساد هذا الدليل حيث ادعوا امتناع كون الرب متكلما بمشيئته أو فعالا لما يشاء . بل حقيقة قولهم امتناع كونه لم يزل قادرا . وأدلتهم على هذا الامتناع قد ذكرت مستوفاة في غير هذا الموضع وذكر كلامهم هم في بيان بطلانها .

                وأما كونهم عطلوا الخالق فلأن حقيقة قولهم أن من لم يزل متكلما بمشيئته فهو محدث فيلزم أن يكون الرب محدثا لا قديما . بل حقيقة أصلهم أن ما قامت به الصفات والأفعال فهو محدث وكل موجود فلا بد له من ذلك فيلزم أن يكون كل موجود محدثا . ولهذا صرح أئمة هذا الطريق الجهمية والمعتزلة بنفي صفات الرب وبنفي قيام الأفعال وسائر الأمور الاختيارية بذاته إذ هذا موجب دليلهم . وهذه الصفات لازمة له ونفي اللازم يقتضي نفي الملزوم . فكان حقيقة قولهم نفي الرب وتعطيله .

                وهم يسمون الصفات أعراضا والأفعال ونحوها حوادث . فقالوا الرب ينزه عن أن تقوم به الأعراض والحوادث . فإن ذلك مستلزم أن يكون جسما . قالوا : وقد أقمنا الدليل على حدوث كل جسم . فإن [ ص: 455 ] الجسم لا ينفك من الأعراض المحدثة ولا يسبقها وما لم ينفك عن الحوادث ولم يسبقها فهو حادث .

                وقد قامت الأدلة السمعية والعقلية على مذهب السلف وأن الرب لم يزل متكلما إذا شاء فيلزم على قولهم أنه لم يسبق الحوادث ولم ينفك عنها . ويجب على قولهم [ كونه ] حادثا .

                فالأصل الذي أثبتوا به القديم هو نفسه يقتضي أنه ليس بقديم وأنه ليس في الوجود قديم . كما أن أولئك أصلهم يقتضي أنه ليس بواجب بذاته وأنه ليس في الوجود واجب بذاته .

                والطريق التي قالوا بها يثبت الصانع مناقضة لإثبات الصانع . وإذا قالوا : لا يمكن العلم بالصانع إلا بها كان الحق أن يقال : بل لا يمكن تمام العلم بالصانع إلا مع العلم بفسادها .

                ولهذا كان كل من أقر بصحتها قد كذب بعض ما أخبر به الرسول مما هو من لوازم الرب ونفي اللازم يقتضي نفي الملزوم .

                والذين زعموا أنهم يحتجون به على حدوث الأجسام من جنس ما زعم أولئك أنهم يحتجون به على إمكان الأجسام . وكل منهما باطل .

                [ ص: 456 ] ومقتضاه حدوث كل موجود وإمكان كل موجود وأنه ليس في الوجود قديم ولا واجب بنفسه .

                فأصولهم تناقض مطلوبهم . وهي طريقة مضلة لا هادية . لكن كما قال الله تعالى : { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين } { وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون } .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية