الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 99 ] فصل والرسالة ضرورية في إصلاح العبد في معاشه ومعاده فكما أنه لا صلاح له في آخرته إلا باتباع الرسالة فكذلك لا صلاح له في معاشه ودنياه إلا باتباع الرسالة ; فإن الإنسان مضطر إلى الشرع ; فإنه بين حركتين : حركة يجلب بها ما ينفعه ; وحركة يدفع بها ما يضره . والشرع هو النور الذي يبين ما ينفعه وما يضره والشرع نور الله في أرضه وعدله بين عباده وحصنه الذي من دخله كان آمنا .

                وليس المراد بالشرع التمييز بين الضار والنافع بالحس ; فإن ذلك يحصل للحيوانات العجم ; فإن الحمار والجمل يميز به بين الشعير والتراب بل التمييز بين الأفعال التي تضر فاعلها في معاشه ومعاده كنفع الإيمان والتوحيد ; والعدل والبر والتصدق والإحسان ; والأمانة والعفة ; والشجاعة والحلم ; والصبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصلة الأرحام وبر الوالدين والإحسان إلى المماليك والجار ; وأداء الحقوق ; وإخلاص العمل لله والتوكل عليه ; والاستعانة به والرضا بمواقع القدر به ; والتسليم لحكمه والانقياد لأمره ; وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه ; [ ص: 100 ] وخشيته في الغيب والشهادة ; والتقوى إليه بأداء فرائضه واجتناب محارمه ; واحتساب الثواب عنده ; وتصديقه وتصديق رسله في كل ما أخبروا به ; وطاعته في كل ما أمروا به ; مما هو نفع وصلاح للعبد في دنياه وآخرته ; وفي ضد ذلك شقاوته ومضرته في دنياه وآخرته .

                ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد فمن أعظم نعم الله على عباده وأشرف منة عليهم : أن أرسل إليهم رسله ; وأنزل عليهم كتبه ; وبين لهم الصراط المستقيم . ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام والبهائم بل أشر حالا منها فمن قبل رسالة الله واستقام عليها فهو من خير البرية ومن ردها وخرج عنها فهو من شر البرية وأسوأ حالا من الكلب والخنزير والحيوان البهيم .

                وفي الصحيح من حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير . وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وانتفعوا وزرعوا . وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ . فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به } متفق على صحته .

                [ ص: 101 ] فالحمد لله الذي أرسل إلينا رسولا من أنفسنا يتلو علينا آيات الله ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة وإن كنا من قبل لفي ضلال مبين وقال أهل الجنة : { الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق } . والدنيا كلها ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أشرقت عليه شمس الرسالة وأسس بنيانه عليها ولا بقاء لأهل الأرض إلا ما دامت آثار الرسل موجودة فيهم فإذا درست آثار الرسل من الأرض وانمحت بالكلية خرب الله العالم العلوي والسفلي وأقام القيامة .

                وليست حاجة أهل الأرض إلى الرسول كحاجتهم إلى الشمس والقمر ; والرياح والمطر ولا كحاجة الإنسان إلى حياته ; ولا كحاجة العين إلى ضوئها والجسم إلى الطعام والشراب ; بل أعظم من ذلك ; وأشد حاجة من كل ما يقدر ويخطر بالبال فالرسل وسائط بين الله وبين خلقه في أمره ونهيه وهم السفراء بينه وبين عباده .

                وكان خاتمهم وسيدهم وأكرمهم على ربه : محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يقول : { يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة } وقال الله تعالى : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } وقال صلوات الله وسلامه عليه { إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب } وهذا المقت كان لعدم هدايتهم بالرسل [ ص: 102 ] فرفع الله عنهم هذا المقت برسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثه رحمة للعالمين ومحجة للسالكين وحجة على الخلائق أجمعين وافترض على العباد طاعته ومحبته وتعزيره وتوقيره والقيام بأداء حقوقه وسد إليه جميع الطرق فلم يفتح لأحد إلا من طريقه وأخذ العهود والمواثيق بالإيمان به واتباعه على جميع الأنبياء والمرسلين وأمرهم أن يأخذوها على من اتبعهم من المؤمنين .

                أرسله الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا فختم به الرسالة ; وهدى به من الضلالة ; وعلم به من الجهالة وفتح برسالته أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها ; وتألفت بها القلوب بعد شتاتها فأقام بها الملة العوجاء وأوضح بها المحجة البيضاء وشرح له صدره ; ووضع عنه وزره ; ورفع ذكره ; وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره أرسله على حين فترة من الرسل ودروس من الكتب حين حرف الكلم وبدلت الشرائع واستند كل قوم إلى أظلم آرائهم وحكموا على الله وبين عباده بمقالاتهم الفاسدة وأهوائهم فهدى الله به الخلائق وأوضح به الطريق وأخرج به الناس من الظلمات إلى النور ; وأبصر به من العمى ; وأرشد به من الغي وجعله قسيم الجنة والنار وفرق ما بين الأبرار والفجار ; وجعل الهدى والفلاح في اتباعه وموافقته [ ص: 103 ] والضلال والشقاء في معصيته ومخالفته .

                وامتحن به الخلائق في قبورهم فهم في القبور عنه مسئولون وبه ممتحنون { يؤتى العبد في قبره فيقال : ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه فيقال له : صدقت على هذا حييت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله نم نومة العروس لا يوقظه إلا أحب أهله إليه ثم يفسح له في قبره وينور له فيه ويفتح له باب إلى الجنة فيزداد غبطة وسرورا .

                وأما الكافر والمنافق فيقول : لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته فيقال له : قد كنا نعلم ذلك وعلى ذلك حييت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله ثم يضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان
                } .

                وقد أمر الله بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في أكثر من ثلاثين موضعا من القرآن وقرن طاعته بطاعته وقرن بين مخالفته ومخالفته كما قرن بين اسمه واسمه فلا يذكر الله إلا ذكر معه قال ابن عباس [ ص: 104 ] - رضي الله عنه - في قوله تعالى { ورفعنا لك ذكرك } قال : لا أذكر إلا ذكرت معي . وهذا كالتشهد والخطب والأذان أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فلا يصح الإسلام إلا بذكره والشهادة له بالرسالة .

                وكذلك لا يصح الأذان إلا بذكره والشهادة له ولا تصح الصلاة إلا بذكره والشهادة له ولا تصح الخطبة إلا بذكره والشهادة له .

                وحذر الله سبحانه وتعالى من العذاب والكفر لمن خالفه قال تعالى : { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } قال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - أي فتنة هي ؟ إنما هي الكفر .

                وكذلك ألبس الله سبحانه الذلة والصغار لمن خالف أمره كما في مسند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمر ; عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { بعثت بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم } .

                [ ص: 105 ] وكما أن من خالفه وشاقه وعاداه هو الشقي الهالك فكذلك من أعرض عنه وعما جاء به واطمأن إلى غيره ورضي به بدلا منه هو هالك أيضا . فالشقاء والضلال في الإعراض عنه وفي تكذيبه والهدى والفلاح في الإقبال على ما جاء به وتقديمه على كل ما سواه فالأقسام ثلاثة المؤمن به وهو : المتبع له المحب له المقدم له على غيره . والمعادي له والمنابذ له والمعرض عما جاء به فالأول هو السعيد والآخران هما الهالكان .

                فنسأل الله العظيم أن يجعلنا من المتبعين له المؤمنين به وأن يحيينا على سنته ويتوفانا عليها لا يفرق بيننا وبينها إنه سميع الدعاء وأهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه الطيبين الطاهرين .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية