الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل

                وأما ما يشبه الاتحاد : فإن الذاتين المتميزتين لا تتحد عين إحداهما بعين الأخرى ولا عين صفتها بعين صفتها إلا إذا استحالتا بعد الاتحاد إلى ذات ثالثة كاتحاد الماء واللبن فإنهما بعد الاتحاد شيء ثالث وليس ماء محضا ولا لبنا محضا .

                وأما اتحادهما وبقاؤهما بعد الاتحاد على ما كانا عليه فمحال ومن هنا يعلم أن الله لا يمكن أن يتحد بخلقه فإن استحالته محال ; وإنما تتحد الأسباب والأحكام في العين وتتحد الأسماء والصفات في النوع - مثل المتحاربين المتخالين الذين صار أحدهما يحب عين ما يحبه الآخر ويبغض ما يبغضه ويتنعم بما يتنعم به ويتألم بما يتألم به ; وهذا فيه مراتب ودرجات لا تنضبط ; فأسماؤهما وصفاتهما صارتا من نوع واحد .

                [ ص: 388 ] وعين الأحكام والأسباب المتعلقة بهما التي هي - مثلا - المحبوب والمكروه هو واحد بالعين كالرسول الذي يحبه كل المؤمنين ; فهم متحدون في محبته بمعنى أن محبوبهم واحد ومحبة هذا من نوع محبته هذا ; لا أنها عينها .

                فهذا في اتحاد الناس بعضهم ببعض وهي الأخوة والخلة الإيمانية التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم { مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر } أخرجاه في الصحيحين فجعل المؤمن مع المؤمن بمنزلة العضو مع العضو اللذين تجمعهما نفس واحدة .

                ولهذا سمى الله الأخ المؤمن نفسا لأخيه في غير موضع من الكتاب والسنة قال تعالى : { فلا تزكوا أنفسكم } وقال : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } وقال : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } وقال : { فسلموا على أنفسكم } وقال : { فاقتلوا أنفسكم } .

                فالعبد المؤمن إذا أناب إلى ربه وعبده ووافقه حتى صار يحب ما يحب ربه ويكره ما يكره ربه ويأمر بما يأمر به ربه وينهى عما ينهى عنه ربه ويرضى بما يرضي ربه ويغضب لما يغضب له ربه ويعطي من أعطاه ربه ويمنع من منع ربه فهو العبد الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود من حديث القاسم عن أبي أمامة : { من أحب لله وأبغض [ ص: 389 ] لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان } وصار هذا العبد دينه كله لله وأتى بما خلق له من العبادة .

                فقد اتحدت أحكام هذه الصفات التي له وأسبابها بأحكام صفات الرب وأسبابها .

                وهم في ذلك على درجات ; فإن كان نبيا كان له من الموافقة لله ما ليس لغيره والمرسلون فوق ذلك وأولو العزم أعظم ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم له الوسيلة العظمى في كل مقام .

                فهذه الموافقة هي الاتحاد السائغ سواء كان واجبا أو مستحبا وفي مثل هذا جاءت نصوص الكتاب والسنة . قال الله تعالى : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم } وقال : { والله ورسوله أحق أن يرضوه } وقال تعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } وقال تعالى : { إن الذين يؤذون الله ورسوله } وقال تعالى : { أحب إليكم من الله ورسوله } وقال تعالى : { قل الأنفال لله والرسول } .

                ومن هذا الباب قول المسيح - إن ثبت هذا اللفظ عنه - " أنا وأبي واحد من رآني فقد رأى أبي " ونحو ذلك ; فإنه مثل قوله تعالى { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } وقوله : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } ونحو ذلك من اللفظ الذي فيه تشابه .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية