الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 248 ] فصل وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ; وليس فيها دون خمس أواق صدقة ; وليس فيها دون خمس ذود صدقة } وقال : { لا شيء في الرقة حتى تبلغ مائتي درهم } وقال في السارق : { يقطع إذا سرق ما يبلغ ثمن المجن } وقال : { تقطع اليد في ربع دينار } والأوقية في لغته أربعون درهما ولم يذكر للدرهم ولا للدينار حدا ولا ضرب هو درهما ولا كانت الدراهم تضرب في أرضه بل تجلب مضروبة من ضرب الكفار . وفيها كبار وصغار وكانوا يتعاملون بها تارة عددا وتارة وزنا كما قال : { زن وأرجح فإن خير الناس أحسنهم قضاء } وكان هناك وزان يزن بالأجر ومعلوم أنهم إذا وزنوها فلا بد لهم من صنجة يعرفون بها مقدار الدراهم لكن هذا لم يحده النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقدره وقد ذكروا أن الدراهم كانت ثلاثة أصناف : ثمانية دوانق وستة وأربعة فلعل البائع قد يسمي أحد تلك الأصناف فيعطيه المشتري من وزنها ثم هو مع هذا أطلق لفظ الدينار والدرهم ولم يحده فدل على أنه يتناول هذا كله وإن من ملك من [ ص: 249 ] الدراهم الصغار خمس أواق مائتي درهم فعليه الزكاة وكذلك من الوسطى وكذلك من الكبرى .

                وعلى هذا فالناس في مقادير الدراهم والدنانير على عاداتهم فما اصطلحوا عليه وجعلوه درهما فهو درهم ; وما جعلوه دينارا فهو دينار وخطاب الشارع يتناول ما اعتادوه سواء كان صغيرا أو كبيرا فإذا كانت الدراهم المعتادة بينهم كبارا لا يعرفون غيرها لم تجب عليه الزكاة حتى يملك منها مائتي درهم وإن كانت صغارا لا يعرفون غيرها وجبت عليه إذا ملك منها مائتي درهم وإن كانت مختلطة فملك من المجموع ذلك وجبت عليه وسواء كانت بضرب واحد أو ضروب مختلفة وسواء كانت خالصة أو مغشوشة ما دام يسمى درهما مطلقا . وهذا قول غير واحد من أهل العلم .

                فأما إذا لم يسم إلا مقيدا مثل : أن يكون أكثره نحاسا فيقال له : درهم أسود لا يدخل في مطلق الدرهم فهذا فيه نظر . وعلى هذا فالصحيح قول من أوجب الزكاة في مائتي درهم مغشوشة كما هو قول أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب أحمد وإذا سرق السارق ثلاثة دراهم من الكبار أو الصغار أو المختلطة قطعت يده .

                وأما الوسق فكان معروفا عندهم أنه ستون صاعا والصاع [ ص: 250 ] معروف عندهم : وهو صاع واحد غير مختلف المقدار وهم صنعوه لم يجلب إليهم . فلما علق الشارع الوجوب بمقدار خمسة أوسق كان هذا تعليقا بمقدار محدود يتساوى فيه الناس بخلاف الأواقي الخمسة فإنه لم يكن مقدارا محدودا يتساوى فيه الناس بل حده في عادة بعضهم أكثر من حده في عادة بعضهم كلفظ المسجد والبيت والدار والمدينة والقرية هو مما تختلف فيه عادات الناس في كبرها وصغرها ولفظ الشارع يتناولها كلها .

                ولو قال قائل : إن الصاع والمد يرجع فيه إلى عادات الناس ; واحتج بأن صاع عمر كان أكبر وبه كان يأخذ الخراج وهو ثمانية أرطال كما يقوله أهل العراق لكان هذا يمكن فيما يكون لأهل البلد فيه مكيالان : كبير وصغير . وتكون صدقة الفطر مقدرة بالكبير والوسق ستون مكيالا من الكبير ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدر نصاب الموسقات ومقدار صدقة الفطر بصاع ولم يقدر بالمد شيئا من النصب والواجبات لكن لم أعلم بهذا قائلا ولا يمكن أن يقال : إلا ما قاله السلف قبلنا لأنهم علموا مراد الرسول قطعا فإن كان من الصحابة أو التابعين من جعل الصاع غير مقدر بالشرع صارت مسألة اجتهاد .

                وأما الدرهم والدينار فقد عرفت تنازع الناس فيه واضطراب [ ص: 251 ] أكثرهم ; حيث لم يعتمدوا على دليل شرعي بل جعلوا مقدار ما أراده الرسول هو مقدار الدراهم التي ضربها عبد الملك ; لكونه جمع الدراهم الكبار والصغار والمتوسطة وجعل معدلها ستة دوانيق فيقال لهم : هب أن الأمر كذلك ; لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لما خاطب أصحابه وأمته بلفظ الدرهم والدينار وعندهم أوزان مختلفة المقادير كما ذكرتم لم يحد لهم الدرهم بالقدر الوسط كما فعل عبد الملك بل أطلق لفظ الدرهم والدينار كما أطلق لفظ القميص والسراويل ; والإزار والرداء والدار والقرية والمدينة والبيت وغير ذلك من مصنوعات الآدميين فلو كان للمسمى عنده حد لحده مع علمه باختلاف المقادير فاصطلاح الناس على مقدار درهم ودينار أمر عادي .

                ولفظ الذراع أقرب إلى الأمور الخلقية منه ; فإن الذراع هو في الأصل ذراع الإنسان والإنسان مخلوق فلا يفضل ذراع على ذراع إلا بقدر مخلوق لا اختيار فيه للناس بخلاف ما يفعله الناس باختيارهم من درهم ومدينة ودار ; فإن هذا لا حد له ; بل الثياب تتبع مقاديرهم والدور والمدن بحسب حاجتهم وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا شرعي بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح ; وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به ; بل الغرض أن يكون معيارا لما يتعاملون به والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها بل هي وسيلة إلى التعامل [ ص: 252 ] بها ولهذا كانت أثمانا ; بخلاف سائر الأموال فإن المقصود الانتفاع بها نفسها ; فلهذا كانت مقدرة بالأمور الطبعية أو الشرعية والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيفما كانت .

                وأيضا فالتقدير إنما كان لخمسة أوسق وهي خمسة أحمال فلو لم يعتبر في ذلك حدا مستويا لوجب أن تعتبر خمسة أحمال من أحمال كل قوم .

                وأيضا فسائر الناس لا يسمون كلهم صاعا فلا يتناوله لفظ الشارع كما يتناول الدرهم والدينار اللهم إلا أن يقال : إن الصاع اسم لكل ما يكال به ; بدليل قوله : { صواع الملك } فيكون كلفظ الدرهم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية