الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 400 ] وقال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية - رضي الله عنه - فصل قال أبو الحسن الآمدي في أحكامه : " المسألة الثانية " : اختلف الأصوليون في اشتمال اللغة على الأسماء المجازية ; فنفاه الأستاذ أبو إسحاق ومن تابعه ; - يعني أبا إسحاق الإسفراييني - وأثبته الباقون وهو الحق .

                قلت الكلام في شيئين : أحدهما : في تحرير هذا النقل ; والثاني في النظر في أدلة القولين .

                أما الأول فيقال : إن أراد بالباقين من الأصوليين كل من تكلم في [ ص: 401 ] أصول الفقه من السلف والخلف فليس الأمر كذلك ; فإن الكلام في أصول الفقه وتقسيمها إلى : الكتاب ; والسنة ; والإجماع ; واجتهاد الرأي ; والكلام في وجه دلالة الأدلة الشرعية على الأحكام : أمر معروف من زمن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان ; ومن بعدهم من أئمة المسلمين وهم كانوا أقعد بهذا الفن وغيره من فنون العلم الدينية ممن بعدهم وقد كتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى شريح : اقض بما في كتاب الله فإن لم يكن فبما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يكن فبما اجتمع عليه الناس - وفي لفظ - فبما قضى به الصالحون ; فإن لم تجد فإن شئت أن تجتهد رأيك . وكذلك قال ابن مسعود وابن عباس وحديث معاذ من أشهر الأحاديث عند الأصوليين .

                وإن كان مقصوده بالأصولي من يعرف " أصول الفقه " وهي أدلة الأحكام الشرعية على طريق الإجمال ; بحيث يميز بين الدليل الشرعي وبين غيره ; ويعرف مراتب الأدلة ; فيقدم الراجح منها - وهذا هو موضوع أصول الفقه ; فإن موضوعه معرفة الدليل الشرعي ومرتبته - فكل مجتهد في الإسلام فهو أصولي ; إذ معرفة الدليل الشرعي ومرتبته بعض ما يعرفه المجتهد ولا يكفي في كونه مجتهدا أن يعرف جنس الأدلة بل لا بد أن يعرف أعيان الأدلة ومن عرف أعيانها وميز بين أعيان [ ص: 402 ] الأدلة الشرعية وبين غيرها كان بجنسها أعرف كمن يعرف أن يميز بين أشخاص الإنسان وغيرها فالتمييز بين نوعها لازم لذلك ; إذ يمتنع تمييز الأشخاص بدون تمييز الأنواع .

                وأيضا فالأصوليون يذكرون في مسائل أصول الفقه مذاهب المجتهدين كمالك ; والشافعي ; والأوزاعي ; وأبي حنيفة ; وأحمد بن حنبل وداود ومذهب أتباعهم بل هؤلاء ونحوهم هم أحق الناس بمعرفة أصول الفقه ; إذ كانوا يعرفونها بأعيانها ويستعملون الأصول في الاستدلال على الأحكام بخلاف الذين يجردون الكلام في أصول مقدرة بعضها وجد وبعضها لا يوجد من غير معرفة أعيانها فإن هؤلاء لو كان ما يقولونه حقا فهو قليل المنفعة أو عديمها ; إذ كان تكلما في أدلة مقدرة في الأذهان لا تحقق لها في الأعيان كمن يتكلم في الفقه فيما يقدره من أفعال العباد وهو لا يعرف حكم الأفعال المحققة منه فكيف وأكثر ما يتكلمون به من هذه المقدرات فهو كلام باطل وإذا كان اسم الأصوليين يتناول المجتهدين المشهورين المتبوعين كالأئمة الأربعة ; والثوري ; والأوزاعي والليث بن سعد وإسحاق بن راهويه وغيرهم وإن كان مقصود الأصوليين من جرد الكلام في أصول الفقه عن الأدلة المعينة كما فعله الشافعي وأحمد بن حنبل ومن بعدهما وكما فعله عيسى بن أبان ونحوه وكما فعله المصنفون في أصول [ ص: 403 ] الفقه من الفقهاء والمتكلمين : فمعلوم أن أول من عرف أنه جرد الكلام في أصول الفقه هو الشافعي وهو لم يقسم الكلام إلى حقيقة ومجاز بل لا يعرف في كلامه مع كثرة استدلاله وتوسعه ومعرفته الأدلة الشرعية أنه سمى شيئا منه مجازا ولا ذكر في شيء من كتبه ذلك ; لا في الرسالة ولا في غيرها .

                وحينئذ فمن اعتقد أن المجتهدين المشهورين وغيرهم من أئمة الإسلام وعلماء السلف قسموا الكلام إلى حقيقة ومجاز كما فعله طائفة من المتأخرين : كان ذلك من جهله وقلة معرفته بكلام أئمة الدين وسلف المسلمين كما قد يظن طائفة أخرى أن هذا مما أخذ من الكلام العربي توقيفا وأنهم قالوا : هذا حقيقة وهذا مجاز كما ظن ذلك طائفة من المتكلمين في أصول الفقه وكان هذا من جهلهم بكلام العرب كما سيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى وكما يظن بعضهم أن ما يوجد في كلام بعض المتأخرين كالرازي والآمدي وابن الحاجب : هو مذهب الأئمة المشهورين وأتباعهم ولا يعرف ما ذكره أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم من أصول الفقه الموافق لطريق أئمتهم فهذا أيضا من جهله وقلة علمه .

                وإن قال الناقل عن كثير من الأصوليين : مرادي بذلك أكثر المصنفين في أصول الفقه من أهل الكلام والرأي كالمعتزلة والأشعرية وأصحاب [ ص: 404 ] الأئمة الأربعة فإن أكثر هؤلاء قسموا الكلام إلى حقيقة ومجاز .

                قيل له : لا ريب أن هذا التقسيم موجود في كتب المعتزلة ومن أخذ عنهم وشابههم وأكثر هؤلاء ذكروا هذا التقسيم وأما من لم يكن كذلك فليس الأمر في حقه كذلك .

                ثم يقال : ليس في هؤلاء إمام من أئمة المسلمين الذين اشتغلوا بتلقي الأحكام من أدلة الشرع ولهذا لا يذكر أحد من هؤلاء في الكتب التي يحكي فيها أقوال المجتهدين ممن صنف كتابا وذكر فيه اختلاف المجتهدين المشتغلين بتلقي الأحكام عن الأدلة الشرعية وهم أكمل الناس معرفة بأصول الفقه وأحق الناس بالمعنى الممدوح من اسم الأصولي فليس من هؤلاء من قسم الكلام إلى الحقيقة والمجاز .

                وإن أراد من عرف بهذا التقسيم من المتأخرين المعتزلة وغيرهم من أهل الكلام ومن سلك طريقتهم من ذلك من الفقهاء .

                قيل له : لا ريب أن أكثر هؤلاء قسموا هذا التقسيم لكن ليس فيهم إمام في فن من فنون الإسلام لا التفسير ولا الحديث ولا الفقه ولا اللغة ولا النحو بل أئمة النحاة أهل اللغة كالخليل وسيبويه والكسائي والفراء وأمثالهم وأبي عمرو بن العلاء وأبي زيد الأنصاري [ ص: 405 ] والأصمعي وأبي عمرو الشيباني وغيرهم : لم يقسموا تقسيم هؤلاء .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية