الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                والمقصود هنا : أن بشرا من الناس ليس عباد بن سليمان وحده ; بل كثير من الناس بل أكثر المحققين من علماء العربية والبيان يثبتون المناسبة بين الألفاظ والمعاني ويقسمون الاشتقاق إلى ثلاثة أنواع : الاشتقاق الأصغر : وهو اتفاق اللفظين في الحروف والترتيب : مثل علم وعالم وعليم .

                والثاني الاشتقاق الأوسط : وهو اتفاقهما في الحروف دون الترتيب [ ص: 419 ] مثل سمي ووسم ; وقول الكوفيين إن الاسم مشتق من السمة صحيح إذا أريد به هذا الاشتقاق وإذا أريد به الاتفاق في الحروف وترتيبها فالصحيح مذهب البصريين أنه مشتق من السمو : فإنه يقال في الفعل سماه ولا يقال : وسمه ويقال في التصغير : سمي ولا يقال : وسيم . ويقال في جمعه : أسماء ولا يقال أوسام .

                وأما الاشتقاق الثالث : فاتفاقهما في بعض الحروف دون بعض لكن أخص من ذلك أن يتفقا في جنس الباقي مثل أن يكون حروف حلق كما يقال : حزر ; وعزر ; وأزر فالمادة تقتضي القوة والحاء والعين والهمزة جنسها واحد ولكن باعتبار كونها من حروف الحلق .

                ومنه المعاقبة بين الحروف المعتل والمضعف كما يقال : تقضى البازي ; وتقضض .

                ومنه يقال : السرية مشتق من السر وهو النكاح .

                ومنه قول أبي جعفر الباقر : العامة مشتقة من العمى .

                ومنه قولهم : الضمان مشتق من ضم إحدى الذمتين إلى الأخرى .

                وإذا قيل : هذا اللفظ مشتق من هذا فهذا يراد به شيئان : أحدهما : أن يكون بينهما مناسبة في اللفظ والمعنى من غير اعتبار [ ص: 420 ] كون أحدهما أصلا والآخر فرعا فيكون الاشتقاق من جنس آخر بين اللفظين .

                ويراد بالاشتقاق أن يكون أحدهما مقدما على الآخر أصلا له كما يكون الأب أصلا لولده .

                وعلى الأول فإذا قيل : الفعل مشتق من المصدر ; أو المصدر مشتق من الفعل : فكلا القولين : قول البصريين ; والكوفيين صحيح .

                وأما على الثاني فإذا أريد الترتيب العقلي فقول البصريين أصح فإن المصدر إنما يدل على الحدث فقط ; والفعل يدل على الحدث والزمان وإن أريد الترتيب الوجودي - وهو تقدم وجود أحدهما على الآخر - فهذا لا ينضبط فقد يكونون تكلموا بالفعل قبل المصدر ; وقد يكونون تكلموا بالمصدر قبل الفعل وقد تكلموا بأفعال لا مصادر لها مثل بد وبمصادر لا أفعال لها مثل " ويح " و " ويل " وقد يغلب عليهم استعمال فعل ومصدر فعل آخر كما في الحب ; فإن فعله المشهور هو الرباعي يقال : أحب يحب ومصدره المشهور هو الحب دون الإحباب وفى اسم الفاعل قالوا : محب ولم يقولوا : حاب وفي المفعول قالوا : محبوب ولم يقولوا : محب إلا في الفاعل وكان القياس أن يقال : أحبه إحبابا كما يقال : أعلمه إعلاما .

                [ ص: 421 ] وهذا أيضا له أسباب يعرفها النحاة وأهل التصريف : إما كثرة الاستعمال : وإما نقل بعض الألفاظ ; وإما غير ذلك كما يعرف ذلك أهل النحو والتصريف ; إذ كانت أقوى الحركات هي الضمة ; وأخفها الفتحة ; والكسرة متوسطة بينهما ; فجاءت اللغة على ذلك من الألفاظ المعربة والمبنية فما كان من المعربات عمدة في الكلام لا بد له منه : كان له المرفوع ; كالمبتدأ والخبر والفاعل والمفعول القائم مقامه وما كان فضلة كان له النصب ; كالمفعول والحال والتمييز . وما كان متوسطا بينهما لكونه يضاف إليه العمدة تارة والفضلة تارة : كان له الجر وهو المضاف إليه .

                وكذلك في المبنيات ; مثل ما يقولون في أين وكيف : بنيت على الفتح طلبا للتخفيف لأجل الياء . وكذلك في حركات الألفاظ المبنية الأقوى له الضم وما دونه له الفتح ; فيقولون : كره الشيء والكراهية يقولون فيها : كرها بالفتح كما قال تعالى : { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها } وقال : { ائتيا طوعا أو كرها } .

                وكذلك الكسر مع الفتح فيقولون في الشيء المذبوح والمنهوب : ذبح ونهب بالكسر كما قال تعالى : { وفديناه بذبح عظيم } وكما في الحديث { أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهب إبل } وفي المثل السائر : " أسمع جعجعة ولا أرى طحنا " بالكسر ; أي : ولا أرى [ ص: 422 ] طحينا ومن قال بالفتح أراد الفعل كما أن الذبح والنهب هو الفعل ومن الناس من يغلط هذا القائل .

                وهذه الأمور وأمثالها هي معروفة من لغة العرب لمن عرفها معروفة بالاستقراء والتجربة تارة وبالقياس أخرى كما تفعل الأطباء في طبائع الأجسام وكما يعرف ذلك في الأمور العادية التي تعرف بالتجربة المركبة من الحس والعقل ثم قد قيل : تعرف ما لم تجرب بالقياس .

                ومعلوم أن هذه الأمور لها أسباب ومناسبات عند جماهير العقلاء من المسلمين . وغيرهم ومن أنكر ذلك من النظار فذلك لا يتكلم معه في خصوص مناسبات هذا فإنه ليس [ عنده ] في المخلوقات قوة يحصل بها الفعل ولا سبب يخص أحد المتشابهين ; بل من أصله أن محض مشيئة الخالق تخصص مثلا عن مثل بلا سبب ولا لحكمة فهذا يقول : كون اللفظ دالا على المعنى إن كان بقول الله فهذا لمجرد الاقتران العادي ; وتخصيص الرب عنده ليس لسبب ولا لحكمة بل نفس الإرادة تخصص مثلا عن مثل بلا حكمة ولا سبب . وإن كان باختيار العبد فقد يكون السبب خطور ذلك اللفظ في قلب الواضع دون غيره .

                وبسط هذه الأمور له موضع آخر والمقصود هنا أن الحجة التي [ ص: 423 ] احتج بها على إثبات المجاز وهي قوله : إن هذه الألفاظ إن كانت حقيقة لزم أن تكون مشتركة : هي مبنية على مقدمتين : إحداهما : أنه يلزم الاشتراك .

                والثانية : أنه باطل .

                وهذه الحجة ضعيفة ; فإنه قد تمنع المقدمة الأولى ; وقد تمنع المقدمة الثانية ; وقد تمنع المقدمتان جميعا ; وذلك أن قوله : يلزم الاشتراك : إنما يصح إذا سلم له أن في اللغة الواحدة باعتبار اصطلاح واحد ألفاظا تدل على معان متباينة من غير قدر مشترك وهذا فيه نزاع مشهور وبتقدير التسليم فالقائلون بالاشتراك متفقون على أنه في اللغة ألفاظ بينها قدر مشترك وبينها قدر مميز وهذا يكون مع تماثل الألفاظ تارة ; ومع اختلافها أخرى ; وذلك أنه كما أن اللفظ قد يتحد ويتعدد معناه فقد يتعدد ويتحد معناه كالألفاظ المترادفة . وإن كان من الناس من ينكر الترادف المحض فالمقصود أنه قد يكون اللفظان متفقين في الدلالة على معنى ويمتاز أحدهما بزيادة كما إذا قيل في السيف : إنه سيف وصارم ومهند فلفظ السيف يدل عليه مجردا ولفظ الصارم في الأصل يدل على صفة الصرم عليه والمهند يدل على النسبة إلى الهند وإن كان يعرف الاستعمال من نقل الوصفية إلى الاسمية فصار هذا اللفظ يطلق على [ ص: 424 ] ذاته مع قطع النظر عن هذه الإضافة لكن مع مراعاة هذه الإضافة : منهم من يقول : هذه الأسماء ليست مترادفة لاختصاص بعضها بمزيد معنى . ومن الناس من جعلها مترادفة باعتبار اتحادها في الدلالة على الذات وأولئك يقولون : هي من المتباينة كلفظ الرجل والأسد فقال لهم هؤلاء : ليست كالمتباينة .

                والإنصاف : أنها متفقة في الدلالة على الذات متنوعة في الدلالة على الصفات فهي قسم آخر قد يسمى المتكافئة . وأسماء الله الحسنى وأسماء رسوله وكتابه من هذا النوع .

                فإنك إذا قلت : إن الله عزيز ; حكيم ; غفور ; رحيم ; عليم ; قدير : فكلها دالة على الموصوف بهذه الصفات سبحانه وتعالى كل اسم يدل على صفة تخصه فهذا يدل على العزة ; وهذا يدل على الحكمة وهذا يدل على المغفرة ; وهذا يدل على الرحمة ; وهذا يدل على العلم ; وهذا يدل على القدرة .

                وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم { إن لي خمسة أسماء : أنا محمد ; وأنا أحمد ; وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر ; وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على عقبي ; وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي } .

                [ ص: 425 ] والأسماء التي أنكرها الله على المشركين بتسميتهم أوثانهم بها من هذا الباب حيث قال : { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } فإنهم سموها آلهة فأثبتوا لها صفة الإلهية التي توجب استحقاقها أن تعبد وهذا المعنى لا يجوز إثباته إلا بسلطان - وهو الحجة - وكون الشيء معبودا تارة يراد به أن الله أمر بعبادته فهذا لا يثبت إلا بكتاب منزل وتارة يراد به أنه متصف بالربوبية والخلق المقتضي لاستحقاق العبودية ; فهذا يعرف بالعقل ثبوته وانتفاؤه .

                ولهذا قال تعالى : { قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين } وقال في سورة فاطر : { قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا } فطالبهم [ بحجة ] عقلية عيانية وبحجة سمعية شرعية فقال : { أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات } ثم قال : { أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه } كما قال هناك : { أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات } ثم قال : { ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم

                } فالكتاب المنزل ; والأثارة ما يؤثر عن الأنبياء بالرواية والإسناد . وقد يقيد في الكتب ; فلهذا فسر بالرواية وفسر بالخط .

                وهذا مطالبة بالدليل الشرعي على أن الله شرع أن يعبد غيره فيجعل شفيعا أو يتقرب بعبادته إلى الله وبيان أنه لا عبادة أصلا إلا بأمر من الله ; فلهذا قال تعالى : { ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه } كما قال في موضع آخر : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } { منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين } { من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون } { وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون } { ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون } { أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون } .

                والسلطان الذي يتكلم بذلك : الكتاب المنزل كما قال : { أم لكم سلطان مبين } { فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين } وقال : { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه } .

                [ ص: 427 ] والمقصود هنا : أنه إذا كان من الأسماء المختلفة الألفاظ ما يكون معناه واحدا كالجلوس والقعود - وهي المترادفة - ومنها ما تتباين معانيها كلفظ السماء والأرض ومنها ما يتفق من وجه ويختلف من وجه كلفظ الصارم والمهند وهذا قسم ثالث ; فإنه ليس معنى هذا مباينا لمعنى ذاك كمباينة السماء للأرض ولا هو مماثلا لها كمماثلة لفظ الجلوس للقعود : فكذلك الأسماء المتفقة اللفظ قد يكون معناها متفقا وهي المتواطئة وقد يكون معناها متباينا وهي المشتركة اشتراكا لفظيا كلفظ سهيل المقول على الكوكب وعلى الرجل وقد يكون معناها متفقا من وجه مختلفا من وجه فهذا قسم ثالث ليس هو كالمشترك اشتراكا لفظيا ولا هو كالمتفقة المتواطئة فيكون بينها اتفاق هو اشتراك معنوي من وجه وافتراق هو اختلاف معنوي من وجه ولكن هذا لا يكون إلا إذا خص كل لفظ بما يدل على المعنى المختص .

                وهذه الألفاظ كثيرة في الكلام المؤلف ; أو هي أكثر الألفاظ الموجودة في الكلام المؤلف الذي تكلم به كل متكلم ; فإن الألفاظ التي يقال : إنها متواطئة كأسماء الأجناس ; مثل لفظ الرسول والوالي والقاضي ; والرجل ; والمرأة والإمام والبيت ; ونحو ذلك : قد يراد بها المعنى العام وقد يراد بها ما هو أخص منه مما يقترن بها تعريف الإضافة أو اللام كما في قوله : { إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا } { فعصى فرعون الرسول } وقال في موضع آخر : { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } فلفظ الرسول في الموضعين لفظ واحد مقرون باللام لكن ينصرف في كل موضع إلى المعروف عند المخاطب في ذلك الموضع فلما قال هنا : { كما أرسلنا إلى فرعون رسولا } { فعصى فرعون الرسول } كان اللام لتعريف رسول فرعون وهو موسى بن عمران عليه السلام . ولما قال لأمة محمد : { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } كان اللام لتعريف الرسول المعروف عند المخاطبين بالقرآن المأمورين بأمره المنتهين بنهيه وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم . ومعلوم أن مثل هذا لا يجوز أن يقال : هو مجاز في أحدهما باتفاق الناس . ولا يجوز أن يقال : هو مشترك اشتراكا لفظيا محضا كلفظ المشتري للمبتاع والكوكب وسهيل للكوكب والرجل . ولا يجوز أن يقال : هو متواطئ دل في الموضعين على القدر المشترك فقط ; فإنه قد علم أنه في أحد الموضعين هو محمد وفي الآخر موسى مع أن لفظ الرسول واحد .

                ولكن هذا اللفظ تكلم به في سياق كلام من مدلول لام التعريف وهكذا جميع أسماء المعارف ; فإن الأسماء نوعان : معرفة ; ونكرة . [ ص: 429 ] والمعارف مثل : المضمرات ; وأسماء الإشارة مثل : أنا وأنت ; وهو ومثل : هذا ; وذاك .

                والأسماء الموصولة مثل : { الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة } .

                وأسماء المعرفة باللام كالرسول .

                والأسماء الأعلام مثل : إبراهيم وإسماعيل : وإسحاق ويعقوب ; ويوسف ومثل شهر رمضان .

                والمضاف إلى المعرفة مثل قوله : { وطهر بيتي } وقوله : { فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق } ومثل : { ناقة الله وسقياها } ومثل قوله : { أحل لكم ليلة الصيام } .

                ومثل المنادى المعين مثل قول يوسف : { يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا } وقول ابنة صاحب مدين : { يا أبت استأجره } فإن لفظ الأب هناك أريد به يعقوب وهنا أريد به صاحب مدين الذي تزوج موسى ابنته وليس هو شعيبا كما يظنه بعض الغالطين بل علماء المسلمين من أهل السلف وأهل الكتاب يعرفون أنه ليس شعيبا كما قد بسط في موضع آخر .

                والمقصود هنا : أن هذه الأسماء المعارف - وهي أصناف - كل [ ص: 430 ] نوع منها لفظه واحد كلفظ أنا وأنت ; ولفظ هذا وذاك ومع هذا ففي كل موضع يدل على المتكلم المعين والمخاطب والغائب المعين ولا يجوز أن يقال : هي مشتركة كلفظ سهيل ولا متواطئة كلفظ الإنسان بل بينها قدر مشترك وقدر مميز فباعتبار المشترك تشبه المتواطئة وباعتبار المميز تشبه المشتركة اشتراكا لفظيا وهي لا تستعمل قط إلا مع ما يقترن بها مما تعين المضمر والمشار إليه ونحو ذلك فصارت دلالتها مؤلفة من لفظها ومن قرينة تقترن بها تعين المعروف وهذه حقيقة باتفاق الناس لا يقول عاقل : إن هذه مجاز مع أنها لا تدل قط إلا مع قرينة تبين تعيين المعروف المراد .

                فإذا قيل : لفظ أنا ; قيل : يدل على المتكلم مطلقا ولكن لم ينطق به أحد قط مطلقا ; إذ ليس في الوجود متكلم مطلق كلي مشترك بل كل متكلم هو معين متميز عن غيره فإذا طلب معرفة مدلولها ومعناها قيل : من هو المتكلم بها ؟ ومن هو المخاطب بأنت وإياك ونحو ذلك ؟ فإن كان المتكلم بها هو الله كقوله تعالىلموسى : { إنني أنا الله لا إله إلا أنا } ونحو ذلك : كان هذا اللفظ في هذا الموضع اسما لله تعالى لا يحتمل غيره ولا يمكن مخلوق أن يقول : { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } وقد ذكر سبحانه أن الذي حاج إبراهيم في ربه قال : { أنا أحيي وأميت } [ ص: 431 ] وذكر عن صاحب يوسف أنه قال : { أنا أنبئكم بتأويله فأرسلوني } وأخبر عن عفريت من الجن أنه قال : { أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك } وعن الذي عنده علم من الكتاب أنه قال : { أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك } فلفظ أنا في كل موضع معين ليس هو مدلوله في الموضع الآخر وإن كان لفظ أنا في الموضعين واحدا . ولم يقل أحد من العقلاء : إن هذا اللفظ مشترك ولا مجاز مع أنه لا يدل إلا بقرينة تبين المراد .

                فصل إذا تبين هذا فيقال له : هذه الأسماء التي ذكرتها مثل لفظ الظهر ; والمتن والساق ; والكبد لا يجوز أن تستعمل في اللغة إلا مقرونة بما يبين المضاف إليه وبذلك يتبين المراد .

                فقولك : ظهر الطريق ومتنها : ليس هو كقولك : ظهر الإنسان ومتنه بل ولا كقولك : ظهر الفرس ومتنه ولا كقولك : ظهر الجبل .

                وكذلك كبد السماء ليس مثل كبد القوس ولا هذان مثل لفظ كبد الإنسان .

                [ ص: 432 ] وكذلك لفظ السيف في { قول النبي صلى الله عليه وسلم إن خالدا سيف سله الله على المشركين } ليس مثل لفظ السيف في قوله : { من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان } فكل من لفظ السيف هاهنا وهاهنا مقرون بما يبين معناه .

                نعم قد يقال : التشابه بين معنى الرسول والرسول أتم من التشابه بين معنى الكبد والكبد والسيف والسيف . فيقال : هذا القدر الفارق دل عليه اللفظ المختص ; كما في قوله : { وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت } وفي قوله : { وطهر بيتي للطائفين } وقوله : { لا تدخلوا بيوت النبي } وقول النبي صلى الله عليه وسلم { من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة } ومعلوم أن بيت العنكبوت ليس مماثلا في الحقيقة لبيته ولا لبيت النبي صلى الله عليه وسلم ولا لبيت في الجنة ; مع أن لفظ البيت حقيقة في الجميع بلا نزاع إذ كان المخصص هو الإضافة في بيت العنكبوت وبيت النبي دل على سكنى صاحب البيت فيه وبيت الله لا يدل على أن الله ساكن فيه لكن إضافة كل شيء بحسبه بل بيته هو الذي جعله لذكره وعبادته ودعائه فهو كمعرفته بالقلوب وذكره باللسان وكل موجود فله وجود عيني ; وعلمي ; ولفظي ; ورسمي . واسم الله يراد به كل من هذه الأربعة في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وكلام الله .

                [ ص: 433 ] فإذا قال : { إنني أنا الله لا إله إلا أنا } فهو الله نفسه وإذا قال : { لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ; وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ; ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر ; وبي يبطش ; وبي يمشي } وقوله : { عبدي مرضت فلم تعدني فيقول : ربي كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ فيقول : أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده } فالذي في قلوب المؤمنين هو الإيمان بالله ومعرفته ومحبته وقد يعبر عنه بالمثل الأعلى ; والمثال العلمي ويقال : أنت في قلبي كما قيل :

                مثالك في عيني ; وذكرك في فمي ومثواك في قلبي ; فأين تغيب ؟

                ويقال :

                ساكن في القلب يعمره     لست أنساه فأذكره

                وما ينقل { عن داود عليه السلام أنه قال : أنت تحل قلوب الصالحين } فمعلوم أن هذا كله لم يرد به أن نفس المذكور المعلوم المحبوب ; المعبر عنه بالمثال العلمي . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 434 ] يقول الله تعالى : { أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه } فقوله : " بي " أراد أنها تتحرك باسمه لم تتحرك بذاته ولا ما في القلب هنا ذاته .

                وفي الصحيح عن أنس { أن نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم كان ثلاثة أسطر : الله سطر ; ورسول سطر ; ومحمد سطر } فمعلوم أن مراده بلفظ الله هو النقش المنقوش في الخاتم المطابق للفظ الدال على المعنى المعروف بالقلب المطابق للموجود في نفس الأمر .

                فهذه الأسماء العائدة إلى الله تعالى في كل موضع اقترن بها ما بين المراد ولم يكن في شيء من ذلك التباس فكذلك لفظ بيته . وقلنا : المساجد بيوت الله فيها ما بني للقلوب والألسنة من معرفته والإيمان به وذكره ودعائه والأنوار التي يجعلها في قلوب المؤمنين كما في قوله تعالى : { الله نور السماوات والأرض } ثم قال : { مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة } إلى قوله : { في بيوت أذن الله أن ترفع } فبين أن هذا النور في هذه القلوب وفي هذه البيوت كما جاء في الأثر : " إن المساجد تضيء لأهل السموات كما تضيء الكواكب لأهل الأرض " .

                وإذا كان كذلك ; فقول القائل : لو كانت هذه الأسماء حقيقة [ ص: 435 ] فيما ذكر لكان اللفظ مشتركا يقال له : ما تعني باللفظ المشترك ؟ تعني به ما هو الاشتراك اللفظي وهو مذكور في كتابك ؟ حيث قلت في تقسيم الألفاظ : الاسم إما أن يكون واحدا ; أو متعددا . فإن كان واحدا فمفهومه ينقسم على وجوه . القسمة الأولى : إنه إما أن يكون بحيث يصح أن يشترك في مفهومه : أو لا يصح . فإن كان الأول فهو طلبي . وذكر تمامه بكلام بعضه حق ; وبعضه باطل اتبع فيه المنطقيين . ثم قال : أما إن كان مفهومه غير صالح لاشتراك كثيرين فيه فهو الجزئي وذكر أنه العلم خاصة ; وقسمه تقسيم النحاة .

                ثم قال : وأما إن كان الاسم واحدا والمسمى مختلفا : فإما أن يكون موضوعا على الكل حقيقة بالوضع الأول ; أو هو مستعار في بعضها . فإن كان الأول فهو المشترك وسواء كانت المسميات متباينة كالجون للسواد والبياض أو غير متباينة كما إذا أطلقنا اسم الأسود على شخص بطريق العلمية وبطريق الاشتقاق من السواد وإن كان الثاني فهو مجاز . فإن أردت هذا فالمشترك هو الاسم الواحد الذي يختلف مسماه ويكون موضوعا على الكل حقيقة بالوضع الأول وتقسيم هذا أن يكون المسمى واحدا ويكون كليا وجزئيا كما ذكرته .

                وحينئذ فيقال لك : لا نسلم أن هذه الأسماء إذا كانت حقيقة فيما ذكر من الصور كان اللفظ مشتركا وذلك لأن هذا التقسيم إنما [ ص: 436 ] يصح في واحد يكون معناه إما واحدا وإما متعددا ونحن لا نسلم أن مورد النزاع داخل فيما ذكرته فإنما يصح هذا إذا كان اللفظ واحدا في الموضعين ; وليس الأمر كذلك فإن اللفظ المذكور في محل النزاع هو لفظ ظهر الطريق ومتنها وجناح السفر ونحو ذلك وهذا اللفظ ليس له إلا معنى واحد ; ليس معناه متعددا مختلفا : بل حيث وجد هذا اللفظ كان معناه واحدا كسائر الأسماء .

                فإن قلت : لكن لفظ الظهر والمتن والجناح يوجد له معنى غير هذا .

                قيل : لفظ ظهر الطريق وجناحها ليس هو لفظ ظهر الإنسان وجناح الطائر ولا أجنحة الملائكة ولفظ الظهر والطريق معرف باللام الدالة على معروف يدل اللفظ عليه وهو ظهر الإنسان مثلا ; ليس هو مثل لفظ ظهر الطريق بل هذا اللفظ مغاير لهذا اللفظ . فلا يجوز أن يقال : اللفظ في موضع واحد بل أبلغ من هذا أن لفظ الظهر يستعمل في جميع الحيوان حقيقة بالاتفاق ومع هذا فكثير من الناس قد لا يسبق إلى ذهنهم إلا ظهر الإنسان لا يخطر بقلبه ظهر الكلب ; ولا ظهر الثعلب والذئب وبنات عرس وظهر النملة والقملة ; وذلك لأن ظهر الإنسان هو الذي يتصورونه ويعبرون عنه كثيرا في عامة كلامهم معرفا باللام ; ينصرف إلى الظهر المعروف .

                [ ص: 437 ] ولهذا كانت الأيمان عند الفقهاء تنصرف إلى ما يعرفه المخاطب بلغته وإن كان اللفظ يستعمل في غيره حقيقة أيضا كما إذا حلف لا يأكل الرءوس فإما أن يراد به رءوس الأنعام : أو رءوس الغنم ; أو الرأس الذي يؤكل في العادة وكذلك لفظ البيض ; يراد به البيض الذي يعرفونه . فأما رأس النمل والبراغيث ونحو ذلك فلا يدخل في اللفظ ولا يدخل بيض السمك في اليمين ; وإن كان ذلك حقيقة إذا قيل : بيض النمل وبيض السمك بالإضافة وكذلك إذا قال : بعتك بعشرة دراهم أو دنانير : انصرف الإطلاق إلى ما يعرفونه من مسمى هذا اللفظ في مثل ذلك العقد في ذلك المكان حتى إنه في المكان الواحد يكون لفظ الدينار يراد به في ثمن بعض السلع الذهب الخالص ; وفي سلعة أخرى ذهب مغشوش ; وفي سلعة أخرى مقدار من الدراهم فيحمل العقد المطلق على ما يعرفه المتبايعان باتفاق الفقهاء وإن كان اللفظ إنما يستعمل في غيره بما يبين معناه فكيف إذا كان نفس اللفظ متغايرا كلفظ ظهر الإنسان ; وظهر الطريق ; ورأس الإنسان ورأس الدرب ; ورأس المال ; أو رأس العين ; أو قيد أحدهما بالتعريف كلفظ الظهر ; وقيد الآخر بالإضافة ; وكان اللام يوجب إرادة المعروف عند المخاطب ; والإضافة توجب الاختصاص بالمضاف إليه . فالمعرف باللام ليس هو المعرف بالإضافة لا لفظا ولا معنى .

                [ ص: 438 ] وقد يكون التعريف باللام في الموضعين ومع هذا يختلف المعنى كما في لفظ الرسول ; لأن جزء الدلالة معرفة المخاطب وهو حقيقة في الموضعين : فكيف يكون تعريف الإضافة مع تعريف اللام ؟ فقد تبين أنه ليس اللفظ الدال على ظهر الإنسان هو اللفظ الدال على ظهر الطريق وحينئذ فلا يلزم من اختلاف معنى اللفظين أن يكون مشتركا لأن الاشتراك لا يكون في لفظ واحد اختلف معناه ; وليس الأمر كذلك .

                فإن قيل : فهذا يوجب أن لا يكون في اللغة لفظ مشترك اشتراكا لفظيا ; فإن اللفظ المشترك لا يستعمل إلا مقرونا بما يبين أحد المعنيين قيل : إما أن يكون هذا لازما ; وإما أن لا يكون . فإن لم يكن لازما بطل السؤال ; وإن كان لازما التزمنا قول من ينفي الاشتراك إذا كان الأمر كذلك كما يلتزم قول من ينفي المجاز .

                فإن قيل : كيف تمنعون ثبوت الاشتراك وقد قام الدليل على وجوده ؟ قيل : لا نسلم أنه قام دليل على وجوده على الوجه الذي ادعوه وصاحب الكتاب أبي الحسين الآمدي يعترف بضعف أدلة مثبتيه وقد ذكر لنفسه دليلا هو أضعف مما ذكره غيره ; فإنه قال : في مسائله [ ص: 439 ] " المسألة الأولى " : اختلف الناس في اللفظ المشترك : هل له وجود في اللغة ؟ فأثبته قوم ونفاه آخرون . قال : والمختار جواز وقوعه أما الخطابي العقلي فلا يمتنع من واضع واحد وأن يتفق وضع قبيلة للاسم على معناه ووضع أخرى له بإزاء معنى آخر من غير شعور كل واحدة بما وضعت الأخرى ثم يشتهر الوضعان لخفاء سببه قال : وهو الأشبه .

                قال وأما بيان الوقوع أنه لو لم تكن الألفاظ المشتركة واقعة في اللغة مع أن المسببات غير متناهية ; والأسماء متناهية ضرورة تركيبها من الحروف المتناهية لخلت أكثر المسميات عن ألفاظ الأسماء الدالة عليها مع الحاجة إليها . وهو ممتنع قال : وهو غير سديد من حيث إن الأسماء إن كانت مركبة من الحروف المتناهية فلا يلزم أن يكون متناهية إلا أن يكون ما يحصل من تضاعف التركيبات متناهية فلا نسلم أن المسميات المتضادة والمختلفة - وهي التي يكون اللفظ مشتركا بالنسبة إليها - : غير متناهية وإن كانت غير متناهية غير أن وضع الأسماء على مسمياتها مشروط بكون كل واحد من المسميات مقصودا بالوضع وما لا نهاية له مما يستحيل فيه ذلك وإن سلمنا أنه غير ممتنع ; ولكن لا يلزم من ذلك الوضع .

                ولهذا يأتي كثير من المعاني لم تضع العرب بإزائها ألفاظا تدل عليها بطريق الاشتراك ولا التفضيل كأنواع الروائح وكثير من الصفات . [ ص: 440 ] قال : وقال أبو الحسين البصري : أطلق أهل اللغة اسم " القرء " على الحيض والطهر ; وهما ضدان ; فدل على وقوع الاسم المشترك في اللغة .

                قال : ولقائل أن يقول : القول بكونه مشتركا غير منقول عن أهل الوضع بل غاية الموضوع اتحاد الاسم وتعدد المسمى ولعله أطلق عليها باعتبار معنى واحد مشترك بينهما لا باعتبار اختلاف حقيقتهما أو أنه حقيقة في أحدهما مجاز في الأخرى وإن خفي علينا موضع الحقيقة والمجاز . وهذا هو الأولى إما بالنظر إلى الاحتمال الأول فلما فيه من نفي التجوز والاشتراك وإما بالنظر إلى الاحتمال [ الثاني ] فلأن التجوز أولى من الاشتراك كما يأتي في موضعه .

                قال : والأقرب من ذلك اتفاق إجماع الكل على إطلاق اسم الوجود على القديم والحادث حقيقة ولو كان مجازا في أحدهما لصح نفيه إذ هي أمارة المجاز ; وهو ممتنع وعند ذلك فإما أن يكون اسم الوجود دالا على ذات الرب ; أو على حقيقة زائدة على ذاته .

                فإن كان الأول فلا يخفى أن ذات الرب مخالفة بذاتها لما سواها من الموجودات الحادثة ; وإلا لوجب الاشتراك بينها وبين ما شاركها في معناها في الوجوب ; ضرورة التساوي في مفهوم الذات ; وهو محال .

                وإن كان مدلول اسم الوجود صفة زائدة على ذات الرب تعالى : [ ص: 441 ] فإما أن يكون المفهوم منها هو المفهوم من اسم الوجود في الحوادث ; وإما خلافه . فالأول يلزم منه أن يكون مسمى الوجود في الوجود واجبا لذاته ; ضرورة أن وجود الباري واجب لذاته ; أو أن يكون وجود الرب ممكنا ; ضرورة إمكان وجود ما سوى الله ; وهو محال . وإن كان الثاني لزم منه الاشتراك ; وهو المطلوب .

                فهذا في دليله وهو في غاية الضعف ; فإنه مبني على مقدمتين : على أن اسم الوجود حقيقة في الواجب والممكن ; وأن ذلك يستلزم الاشتراك .

                والمقدمة الثانية باطلة قطعا .

                والأولى فيها نزاع ; خلاف ما ادعاه من الإجماع .

                فمن الناس من قال : إن كل اسم تسمى به المخلوق لا يسمى به الخالق إلا مجازا حتى لفظ الشيء وهو قول جهم ومن وافقه من الباطنية وهؤلاء لا يسمونه موجودا ولا شيئا ; ولا غير ذلك من الأسماء .

                ومن الناس من عكس وقال : بل كلما يسمى به الرب فهو حقيقة ; ومجاز في غيره . وهو قول أبي العباس الناشي من المعتزلة .

                [ ص: 442 ] والجمهور قالوا : إنه حقيقة فيهما ; لكن أكثرهم قالوا : إنه متواطئ التواطؤ العام ; أو مشككا إن جعل المشكك نوعا آخر ; وهو غير التواطؤ الخاص الذي تتماثل معانيه في موارد ألفاظه . وإنما جعله مشتركا شرذمة من المتأخرين لا يعرف هذا القول عن طائفة كبيرة ولا نظار مشهورين .

                ومن حكى ذلك عن الأشعري كما حكاه الرازي فقد غلط ; فإن مذهب الرجل وعامة أصحابه : أن الوجود اسم عام ينقسم إلى : قديم ; وحادث ولكن مذهبه أن وجود كل شيء عين ماهيته وهذا مذهب جماهير العقلاء من المسلمين وغيرهم فظن الظان أن هذا يستلزم [ أن يكون ] اللفظ مشتركا كما احتج به الآمدي وذلك غلط كما قد بسطناه في موضعه وهو يتبين بالكلام على حجته .

                وقوله : إما أن يكون اسم الوجود دالا على الذات ; أو على صفة زائدة على الذات .

                يقال له : أتريد به لفظ الوجود العام المنقسم إلى واجب وممكن ; أم لفظ الوجود الخاص ؟ كما يقال : وجود الواجب ووجود الممكن ; فإنه من المعلوم أن الأسماء التي يسمى بها الرب وغيره - بل كل [ ص: 443 ] مسميين - تارة تعتبر مطلقة عامة تتناول النوعين ; وتارة تعتبر مقيدة بهذا المسمى .

                ولفظ الحي والعليم ; والقدير ; والسميع ; والبصير والموجود ; والشيء ; والذات : إذا كان عاما يتناول الواجب وإذا قيل : { وتوكل على الحي الذي لا يموت } { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } { وهو العليم الحكيم } ونحو ذلك مما يختص بالرب : لم يتناول ذلك المخلوق كما إذا قيل : { يخرج الحي من الميت } لم يدخل الخالق في اسم هذا الحي .

                وكذلك إذا قيل : العلم والقدرة ; والكلام ; والاستواء ; والنزول ونحو ذلك : تارة يذكر مطلقا عاما : وتارة يقال : علم الله وقدرته ; وكلامه ; ونزوله ; واستواؤه : فهذا يختص بالخالق ; لا يشركه فيه المخلوق . كما إذا قيل : علم المخلوق وقدرته : وكلامه ; ونزوله ; واستواؤه فهذا يختص بالمخلوق ولا يشركه فيه الخالق . فالإضافة أو التعريف خصص وميز وقطع الاشتراك بين الخالق والمخلوق .

                وكذلك إذا قيل لفظ الوجود مطلقا وقيل : وجود الواجب ووجود الممكن فهذه ثلاثة معان . فإذا قيل : وجود العبد وذاته وماهيته وحقيقته كان ذلك مختصا به دالا على ذاته المختصة به المتصفة بصفاته .

                [ ص: 444 ] وكذلك إذا قيل : وجود الرب ونفسه ; وذاته ; وماهيته وحقيقته : كان دالا على ما يختص بالرب : وهو نفسه المتصفة بصفاته .

                فقوله : اسم الوجود إما أن يكون دالا على ذات الرب ; أو صفة زائدة . يقال له : إن أردت لفظ الوجود المطلق العام الذي يتناول الواجب والممكن ; فهذا لا يدل على ما يختص بالواجب ولا على ما يختص بالممكن ; بل يدل على المشترك الكلي والمشترك الكلي إنما يكون مشتركا كليا في الذهن واللفظ وإلا فليس في الخارج شيء هو نفسه كلي مع كونه في الخارج .

                وهذا كما إذا قيل : الذات والنفس : بحيث يعم الواجب والممكن فإنما يدل على المعنى العام الكلي لا على ما يختص بواحد منهما كما إذا قيل : الوجود ينقسم إلى : واجب ; وممكن . والذات تنقسم إلى : واجب : وممكن . ونحو ذلك . وأما إن أريد بالوجود ما يعمهما جميعا كما إذا قيل : الوجود كله واجبه وممكنه ; أو الوجود الواجب والممكن فهنا يدل على ما يختص بكل منهما كما إذا قيل : وجود الواجب ووجود الممكن .

                ففي الجملة اللفظ : إما أن يدل على المشترك فقط كالوجود المنقسم أو على المميز فقط كقول : وجود الواجب : وقول : وجود الممكن [ ص: 445 ] أو عليهما كقولك : الوجود كله واجبه وممكنه ; والوجود الواجب والممكن . وعلى كل تقدير فلا يلزم الاشتراك .

                وقوله : إذا كان دالا على ذات الرب فذاته مخالفة لما سواها من الموجودات يقال : لفظ الوجود المطلق المنقسم لا يدل على ما يختص بالرب وأما لفظ الوجود الخاص لوجود الرب أو العام كقولنا : الوجود الواجب والممكن ونحو ذلك : فهذا يدل على ما يختص بذات الرب وإن كان مخالفا لذات غيره كما أن لفظ ذات الرب وذات العبد تدل على ما يختص بالرب وبالعبد : وإن كان حقيقة هذا مخالفا لحقيقة هذا فكذلك لفظ الوجود يدل عليهما مع اختلاف حقيقة الموجودين .

                فإن قيل : إذا كان حقيقة هذا الوجود يخالف حقيقة هذا الوجود كان اللفظ مشتركا . قيل : هذا غلط منه نشأ غلط هذا وأمثاله : وذلك أن جميع الحقائق المختلفة تتفق في أسماء عامة تتناول بطريق التواطؤ والتشكيك كلفظ اللون ; فإنه يتناول السواد والبياض والحمرة مع اختلاف حقائق الألوان .

                وكذلك لفظ الصفة والعرض والمعنى يتناول العلم ; والقدرة ; والحياة والطعم ; واللون : والريح مع اختلاف حقائق الألوان .

                [ ص: 446 ] وكذلك لفظ الحيوان يتناول الإنسان والبهيمة مع اختلاف حقائقهما فلفظ الوجود أولى بذلك .

                وذلك أن هذه الحقائق المختلفة قد تشترك في معنى عام يشملها ; ويكون اللفظ دالا على ذلك المعنى كلفظ اللون ثم بالتخصيص يتناول ما يختص بكل واحد كما يقال : لون الأسود ولون الأبيض وقيل : وجود الرب ووجود العبد ولو تكلم بالاسم العام المتناول لأفراده كما إذا قيل : اللون أو الألوان ; أو الحيوان ; والعرض ; أو الوجود : يتناول جميع ما دخل في اللفظ وإن كانت حقائق مختلفة ; لشمول اللفظ لها كسائر الألفاظ العامة وإن كانت أفرادها تختلف باعتبار آخر من جهة اللفظ العام .

                وأيضا فقوله : إن كان مدلول اسم الوجود صفة فإن كان المفهوم واحدا في الواجب والممكن : لزم كون الواجب ممكنا والممكن واجبا وإلا لزم الاشتراك .

                يقال له : أتعني مدلول الاسم الوجود المطلق أو المقيد المضاف ؟ كما إذا قيل : وجود الواجب ; ووجود الممكن ؟ فإن عنيت الأول فالمفهوم واحد ولا يلزم تماثلهما في الموضعين ; وإن كان ما في الذهن من معنى الوجود مماثلا لا يلزم أن يكون ما في الخارج منه متماثلا [ ص: 447 ] وإنما يلزم أن يطابق الاثنين ويعمهما فقط كسائر الألفاظ المتواطئة المشككة إذا قيل : السواد شارك سواد القار والحبر مع عدم تماثلهما وإذا قيل : الأبيض والأحمر ونحو ذلك يتناول الكامل والناقص وكذلك اسم الحي يتناول حياة الملائكة وحياة أهل الجنة وحياة الذباب والبعوض مع عدم تماثلهما فكيف يكون وجود الرب أو علمه أو قدرته مماثلا لوجود المخلوق وعلمه وقدرته ؟ إذ يشملها اسم الوجود المطلق أو العلم المطلق أو القدرة المطلقة .

                وإن قال : بل أعني به الوجود المقيد مثل قولنا : وجود الواجب ووجود الممكن .

                قيل : هنا المفهوم يختلف ; لاختصاص كل منهما بلفظ قيد به الوجود وهو الإضافة فهذه الإضافة المقيدة تمنع التماثل ولا يلزم من ذلك الاشتراك اللفظي فإن الاختلاف هنا يحصل في نفس لفظ الوجود بل الإضافة الزائدة على اللفظ والإضافة أو التعريف كقولنا : وجود الرب أو الوجود الواجب ووجود المخلوق ; أو الوجود الممكن ونحو ذلك .

                فهذا الذي احتج به على الاشتراك فيما يسمى به الرب والعبد يلزم منه الاشتراك في سائر الأسماء العامة وهي من جنس الحجة التي [ ص: 448 ] احتج بها على المجاز حيث قال : إن كان اللفظ حقيقة في الموضعين لزم الاشتراك ; وهو غلط ; فإن الذي دل على خصوص هذا المعنى ليس هو الذي دل على خصوص ذاك بل الزائد على اللفظ .

                فإذا قيل : وجود الرب ووجود العبد فهو من جنس ظهر الإنسان وظهر الفرس كما تقول ظهر الإنسان وظهر الطريق يعني جميع هذه المواضع الدال على ما يخالف به هذا هو مما يختص بكل موضع لا مجرد اللفظ المشترك بل المشترك يدل على المشترك . والمختص يدل على المختص وهذا يقتضي أن بين الظهرين جهة اتفاق وافتراق وكذلك بين الوجودين جهة اتفاق وافتراق وهو الذي يعني به الاشتراك والامتياز لكن بعض الناس يظن أن المشترك بينهما موجود في الخارج مشتركا بينهما ; وذلك غلط بل كل واحد مختص بالخارج ولكن الذهن يأخذ منهما قدرا مشتركا كليا ويقال : هما مشتركان في الوجود والحيوانية والإنسانية كما قال تعالى : { ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون } وقال : { فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون } فالعذاب الذي يصيب الآخر هو نظيره وهو من جنسه اشتراكا في جنس العذاب ليس في الخارج شيء بعينه يشتركان فيه ولكن اشتركا في العذاب الخاص . بمعنى : أن كل واحد له منه نصيب كالمشتركين في العقار ونحو ذلك .

                [ ص: 449 ] الجواب السادس : أن يقال : منع " المقدمة الثانية " قوله : لو كان مشتركا لما سبق إلى الفهم عند إطلاق هذه الألفاظ البعض دون البعض ضرورة التساوي في الدلالة الحقيقية . ولا شك أن السابق إلى الفهم من إطلاق لفظ الأسد إنما هو السبع ومن إطلاق لفظ الحمار إنما هو البهيمة وكذلك ما في الضرورة .

                فيقال : إطلاق لفظ الأسد والحمار المعرف بالألف واللام ينصرف إلى ما يعرفه المتكلم أو المخاطب وإذا كان المعرف هو البهيمة انصرف إليها وهذا هو المعروف عند أكثر الناس في أكثر الأوقات ولا يلزم من ذلك إذا كان معرفا يوجب انصرافه إلى البليد والشجاع ولا يكون حقيقة أيضا كقول أبي بكر : لاها الله إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله يعطيك سلبه . وكما أشير إلى شخص وقيل : هذا الأسد أو إلى بليد وقيل : هذا الحمار . فالتعريف هنا عينه وقطع إرادة غيره كما أن لفظ الرءوس والبيض والبيوت وغير ذلك ينصرف عند الإطلاق إلى الرءوس والبيض الذي يؤكل في العادة ; والبيوت إلى مساكن الناس ثم إذا قيل بيت العنكبوت وبيض النمل ورءوس الجراد كان أيضا حقيقة باتفاق الناس .

                الجواب السابع : أن يقال : أنت جعلت دليل الحقيقة أن يسبق إلى الفهم عند إطلاق اللفظ فاعتبرت في المستمع السابق إلى فهمه ; [ ص: 450 ] وفي المتكلم إطلاق لفظه وهذا لا ضابط له فإنه إنما يسبق إلى فهم المستمع في كل موضع ما دل عليه دليل في ذلك الموضع فإذا قال : ظهر الطريق ومتنها لم يسبق إلى فهمه ظهر الحيوان ألبتة بل ممتنع عنده إرادته .

                الجواب الثامن : قولك : من إطلاق جميع اللفظ : كلام مجمل ; فإن أردت كون اللفظ مطلقا عن القيود فهذا لا يوجد قط ; فإن النظر إنما هو في الأسماء الموجودة في كلام كل متكلم : كلام الله وملائكته وأنبيائه والجن وسائر بني آدم والأمم لا يوجد إلا مقرونا بغيره إما في ضمن جملة اسمية أو فعلية ولا يوجد إلا من متكلم ولا يستدل به إلا إذا عرفت عادة ذلك المتكلم في مثل ذلك اللفظ فهنا لفظ مقيد مقرون بغيره من الألفاظ ومتكلم قد عرفت عادته ومستمع قد عرف عادة المتكلم بذلك اللفظ فهذه القيود لا بد منها في كلام يفهم معناه فلا يكون اللفظ مطلقا عنه . فإن أراد أنه مطلق عن قيد دون قيد لم يكن ما ذكره دالا على ذلك . فعلم أن قوله : يرجع إلى ما يفهم من إطلاق اللفظ .

                الجواب التاسع : أن يقال له : اذكر أي قيد شئت وفرق بين مقيد ومقيد ; فلا يذكر شيئا إلا انتقض وأبين لك من الحدود التي تذكرها فارقة بين الحقيقة والمجاز أن ما جعلته حقيقة تجعله مجازا وما [ ص: 451 ] جعلته مجازا تجعله حقيقة وأن المتكلم الفارق بين هذا وهذا بالإطلاق والتقييد تكلم بكلام من لا يتصور ما يقول فضلا عن أن يمكنه التعبير عنه ; فإن التعبير فرع التصور فمن لم يتصور ما يقول لم يقل شيئا إلا كان خطأ .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية