الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وهل يستحب التجديد لكل صلاة من الخمس ؟ فيه نزاع . وفيه عن أحمد رحمه الله روايتان .

                وكذلك أيضا لما قدم مزدلفة : { صلى بهم المغرب والعشاء جمعا } من غير تجديد وضوء للعشاء . وهو في الموضعين قد قام هو وهم إلى صلاة بعد صلاة . وأقام لكل صلاة إقامة . وكذلك سائر أحاديث الجمع الثابتة في الصحيحين من حديث ابن عمر وابن عباس وأنس رضي الله عنهم . كلها تقتضي : أنه هو صلى الله عليه وسلم - والمسلمون خلفه - صلوا الثانية من المجموعتين بطهارة الأولى لم يحدثوا لها وضوءا .

                [ ص: 372 ] وكذلك هو صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه في الصحيحين من حديث ابن عباس وعائشة وغيرهم { أنه كان يتوضأ لصلاة الليل . فيصلي به الفجر } مع أنه كان ينام حتى يغط . ويقول { تنام عيناي ولا ينام قلبي } فهذا أمر من أصح ما يكون أنه : كان ينام ثم يصلي بذلك الوضوء الذي توضأ للنافلة يصلي به الفريضة . فكيف يقال : إنه كان يتوضأ لكل صلاة ؟ .

                وقد ثبت عنه في الصحيح { أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر . ثم قدم عليه وفد عبد القيس . فاشتغل بهم عن الركعتين بعد الظهر حتى صلى العصر ولم يحدث وضوءا } .

                وكان يصلي تارة الفريضة ثم النافلة . وتارة النافلة ثم الفريضة وتارة فريضة ثم فريضة . كل ذلك بوضوء واحد .

                وكذلك المسلمون صلوا خلفه في رمضان بالليل بوضوء واحد مرات متعددة .

                وكان المسلمون على عهده يتوضئون ثم يصلون ما لم يحدثوا كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة . ولم ينقل عنه - لا بإسناد صحيح ولا ضعيف - : أنه أمرهم بالوضوء لكل صلاة .

                [ ص: 373 ] فالقول باستحباب هذا يحتاج إلى دليل .

                وأما القول بوجوبه : فمخالف للسنة المتواترة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولإجماع الصحابة . والنقل عن علي رضي الله عنه بخلاف ذلك لا يثبت ; بل الثابت عنه خلافه . وعلي رضي الله عنه أجل من أن يخفى عليه مثل هذا والكذب على علي كثير مشهور : أكثر منه على غيره .

                وأحمد بن حنبل رحمه الله - مع سعة علمه بآثار الصحابة والتابعين - أنكر أن يكون في هذا نزاع . وقال أحمد بن القاسم : سألت أحمد عمن صلى أكثر من خمس صلوات بوضوء واحد ؟ فقال : لا بأس بذلك إذا لم ينتقض وضوءه . ما ظننت أن أحدا أنكر هذا .

                وروى البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال : { كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة . قلت : وكيف كنتم تصنعون ؟ قال : يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث } وهذا هو في الصلوات الخمس المفرقة . ولهذا استحب أحمد ذلك في أحد القولين مع أنه كان أحيانا يصلي صلوات بوضوء واحد . كما في صحيح مسلم عن بريدة رضي الله عنه قال : { صلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد ومسح على خفيه . فقال له عمر : إني [ ص: 374 ] رأيتك صنعت شيئا لم تكن صنعته ؟ قال : عمدا صنعته يا عمر } .

                والقرآن أيضا يدل على أنه لا يجب على المتوضئ أن يتوضأ مرة ثانية من وجوه : أحدها : أنه سبحانه قال : { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } فقد أمر من جاء من الغائط ولم يجد الماء : أن يتيمم الصعيد الطيب . فدل على أن المجيء من الغائط يوجب التيمم . فلو كان الوضوء واجبا على من جاء من الغائط ومن لم يجئ فإن التيمم أولى بالوجوب . فإن كثيرا من الفقهاء يوجبون التيمم لكل صلاة . وعلى هذا فلا تأثير للمجيء من الغائط . فإنه إذا قام إلى الصلاة وجب الوضوء أو التيمم وإن لم يجئ من الغائط . ولو جاء من الغائط ولم يقم إلى الصلاة : لا يجب عليه وضوء ولا تيمم فيكون ذكر المجيء من الغائط عبثا على قول هؤلاء .

                الوجه الثاني : أنه سبحانه خاطب المؤمنين . لأن الناس كلهم يكونون محدثين فإن البول والغائط أمر معتاد لهم وكل بني آدم محدث . والأصل فيهم : الحدث الأصغر . فإن أحدهم من حين كان طفلا قد اعتاد ذلك فلا يزال محدثا بخلاف الجنابة . فإنها إنما تعرض لهم [ ص: 375 ] عند البلوغ . والأصل فيهم : عدم الجنابة كما أن الأصل فيهم : عدم الطهارة الصغرى ; فلهذا قال : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } ثم قال : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } فأمرهم بالطهارة الصغرى مطلقا . لأن الأصل : أنهم كلهم محدثون قبل أن يتوضئوا . ثم قال : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } وليس منهم جنب إلا من أجنب . فلهذا فرق سبحانه بين هذا وهذا .

                الثالث : أن يقال : الآية اقتضت وجوب الوضوء إذا قام المؤمن إلى الصلاة . فدل على أن القيام هو السبب الموجب للوضوء . وأنه إذا قام إلى الصلاة صار واجبا حينئذ وجوبا مضيقا . فإذا كان العبد قد توضأ قبل ذلك : فقد أدى هذا الواجب قبل تضييقه كما قال : { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } فدل على أن النداء يوجب السعي إلى الجمعة . وحينئذ يتضيق وقته فلا يجوز أن يشتغل عنه ببيع ولا غيره . فإذا سعى إليها قبل النداء : فقد سابق إلى الخيرات وسعى قبل تضييق الوقت . فهل يقول عاقل : إن عليه أن يرجع إلى بيته ليسعى عند النداء ؟ .

                وكذلك الوضوء : إذا كان المسلم قد توضأ للظهر قبل الزوال أو للمغرب قبل غروب الشمس أو للفجر قبل طلوعه وهو إنما يقوم إلى الصلاة بعد الوقت . فمن قال : إن عليه أن يعيد الوضوء فهو [ ص: 376 ] بمنزلة من يقول : إن عليه أن يعيد السعي إذا أتى الجمعة قبل النداء .

                والمسلمون على عهد نبيهم كانوا يتوضئون للفجر وغيرها قبل الوقت وكذلك المغرب . فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجلها ويصليها إذا توارت الشمس بالحجاب . وكثير من أصحابه كانت بيوتهم بعيدة من المسجد . فهؤلاء لو لم يتوضئوا قبل المغرب : لما أدركوا معه أول الصلاة بل قد تفوتهم جميعا لبعد المواضع . وهو نفسه صلى الله عليه وسلم لم يكن يتوضأ بعد الغروب ولا من حضر عنده في المسجد ولا كان يأمر أحدا بتجديد الوضوء بعد المغرب . وهذا كله معلوم مقطوع به . وما أعرف في هذا خلافا ثابتا عن الصحابة : أن من توضأ قبل الوقت عليه أن يعيد الوضوء بعد دخول الوقت . ولا يستحب أيضا لمثل هذا تجديد وضوء .

                وإنما تكلم الفقهاء فيمن صلى بالوضوء الأول : هل يستحب له التجديد ؟ وأما من لم يصل به : فلا يستحب له إعادة الوضوء ; بل تجديد الوضوء في مثل هذا بدعة مخالفة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما عليه المسلمون في حياته وبعده إلى هذا الوقت .

                فقد تبين أن هذا قبل القيام قد أدى هذا الواجب قبل تضييقه كالساعي إلى الجمعة قبل النداء وكمن قضى الدين قبل حلوله ; ولهذا [ ص: 377 ] قال الشافعي وغيره : إن الصبي إذا صلى ثم بلغ لم يعد الصلاة ; لأنها تلك الصلاة بعينها سابق إليها قبل وقتها . وهو قول في مذهب أحمد وهذا القول أقوى من إيجاب الإعادة . ومن أوجبها قاسه على الحج وبينهما فرق . كما هو مبسوط في غير هذا الموضع .

                وهذا الذي ذكرناه في الوضوء : هو بعينه في التيمم . ولهذا كان قول العلماء : إن التيمم كالوضوء فهو طهور المسلم ما لم يجد الماء . وإن تيمم قبل الوقت وتيمم للنافلة فيصلي به الفريضة وغيرها ; كما هو قول ابن عباس . وهو مذهب كثير من العلماء : أبي حنيفة وغيره وهو أحد القولين عن أحمد .

                والقول الآخر - وهو التيمم لكل صلاة - هو المشهور من مذهب مالك والشافعي وأحمد . وهو قول لم يثبت عن غيره من الصحابة كما قد بسط في موضعه .

                فالآية محكمة ولله الحمد . وهي على ما دلت عليه من أن كل قائم إلى الصلاة فهو مأمور بالوضوء . فإن كان قد توضأ قبل ذلك فقد أحسن وفعل الواجب قبل تضييقه وسارع إلى الخيرات كمن سعى إلى الجمعة قبل النداء .

                فقد تبين أن الآية ليس فيها إضمار ولا تخصيص ولا تدل على [ ص: 378 ] وجوب الوضوء مرتين . بل دلت على الحكم الثابت بالسنن المتواترة وهو الذي عليه جماعة المسلمين وهو وجوب الوضوء على المصلي . كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ فقال رجل من حضرموت : ما الحدث يا أبا هريرة ؟ قال : فساء أو ضراط } وفي صحيح مسلم وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول } .

                وهذا يوافق الآية الكريمة . فإنه يدل على أنه لا بد من الطهور ومن كان على وضوء فهو على طهور وإنما يحتاج إلى الوضوء من كان محدثا . كما قال : { لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ } وهو إذا توضأ ثم أحدث : فقد دلت الآية على أمره بالوضوء إذا قام إلى الصلاة وإذا كان قد توضأ فقد فعل ما أمر به . كقوله : لا تصل إلا بوضوء . أو لا تصل حتى تتوضأ ونحو ذلك . مما بين أنه مأمور بالوضوء لجنس الصلاة الشامل لأنواعها وأعيانها . ليس مأمورا لكل نوع أو عين بوضوء غير وضوء الآخر . ولا في اللفظ ما يدل على ذلك .

                لكن هذا الوجه لا يدل على تقدم الوضوء على الجنس كمن أسلم [ ص: 379 ] فتوضأ قبل الزوال أو الغروب أو كمن أحدث فتوضأ قبل دخول الوقت . بخلاف الوجه الذي قبله . فإنه يتناول هذا كله .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية