الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 105 ] فإقرار المشرك بأن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه : لا ينجيه من عذاب الله إن لم يقترن به إقراره بأنه لا إله إلا الله فلا يستحق العبادة أحد إلا هو ; وأن محمدا رسول الله فيجب تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر فلا بد من الكلام في هذين الأصلين : - الأصل الأول " توحيد الإلهية " فإنه سبحانه أخبر عن المشركين كما تقدم بأنهم أثبتوا وسائط بينهم وبين الله يدعونهم ويتخذونهم شفعاء بدون إذن الله قال تعالى : { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون } فأخبر أن هؤلاء الذين اتخذوا هؤلاء شفعاء مشركون

                وقال تعالى عن مؤمن يس { وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون } { أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون } { إني إذا لفي ضلال مبين } { إني آمنت بربكم فاسمعون } وقال تعالى : { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون } فأخبر سبحانه عن شفعائهم أنهم زعموا أنهم فيهم شركاء ، وقال تعالى : { أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون } { قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون } وقال تعالى : { ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع } وقال تعالى : { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع } وقال تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وقال تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون } { لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون } وقال تعالى : { وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } وقال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } وقال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا } { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا }

                قال طائفة من السلف : كان قوم يدعون العزير والمسيح والملائكة فأنزل الله هذه الآية يبين فيها أن الملائكة والأنبياء يتقربون إلى الله ويرجون رحمته ويخافون عذابه

                ومن تحقيق التوحيد : أن يعلم أن الله تعالى أثبت له حقا لا يشركه فيه مخلوق ; كالعبادة والتوكل والخوف والخشية والتقوى كما قال تعالى : { لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا } وقال تعالى : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين } وقال تعالى : { قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين } وقال تعالى : { قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } إلى قوله : { الشاكرين } وكل من الرسل يقول لقومه : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره }

                وقد قال تعالى في التوكل : { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } وقال : { قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون } وقال تعالى : { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون } . فقال في الإتيان : { ما آتاهم الله ورسوله } وقال في التوكل : { وقالوا حسبنا الله } ولم يقل : ورسوله ; لأن الإتيان هو الإعطاء الشرعي وذلك يتضمن الإباحة والإحلال الذي بلغه الرسول فإن الحلال ما أحله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه قال تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا }

                وأما الحسب فهو الكافي والله وحده كاف عبده كما قال تعالى : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } فهو وحده حسبهم كلهم ، وقال تعالى : { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } أي حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين هو الله فهو كافيكم كلكم

                [ ص: 108 ] وليس المراد أن الله والمؤمنين حسبك كما يظنه بعض الغالطين إذ هو وحده كاف نبيه وهو حسبه ليس معه من يكون هو وإياه حسبا للرسول وهذا في اللغة كقول الشاعر :

                فحسبك والضحاك سيف مهند

                وتقول العرب : حسبك وزيدا درهم أي يكفيك وزيدا جميعا درهم

                وقال في الخوف والخشية والتقوى : { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } فأثبت الطاعة لله والرسول وأثبت الخشية والتقوى لله وحده كما قال نوح عليه السلام { إني لكم نذير مبين } { أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون } فجعل العبادة والتقوى لله وحده وجعل الطاعة للرسول ; فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله . وقد قال تعالى : { فلا تخشوا الناس واخشون } وقال تعالى : { فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } وقال الخليل عليه السلام { وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون } { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون }

                وفي الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال : لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : وأينا لم يظلم نفسه ؟ [ ص: 109 ] فقال النبي صلى الله عليه وسلم " { إنما هو الشرك أولم تسمعوا إلى قول العبد الصالح : إن الشرك لظلم عظيم } . وقال تعالى : { فإياي فارهبون } { وإياي فاتقون }

                ومن هذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته : " { من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولن يضر الله شيئا . } وقال : " { ولا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد }

                ففي الطاعة : قرن اسم الرسول باسمه بحرف الواو ، وفي المشيئة : أمر أن يجعل ذلك بحرف " ثم " وذلك لأن طاعة الرسول طاعة لله فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله ، وطاعة الله طاعة الرسول بخلاف المشيئة فليست مشيئة أحد من العباد مشيئة لله ، ولا مشيئة الله مستلزمة لمشيئة العباد بل ما شاء الله كان وإن لم يشأ الناس ، وما شاء الناس لم يكن إن لم يشأ الله .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية