الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 356 ] وقال شيخ الإسلام " قاعدة " في صفات العبادات الظاهرة التي حصل فيها تنازع بين الأمة في الرواية والرأي : مثل الأذان والجهر بالبسملة والقنوت في الفجر والتسليم في الصلاة ورفع الأيدي فيها ووضع الأكف فوق الأكف .

                ومثل التمتع والإفراد والقران في الحج ونحو ذلك . فإن التنازع في هذه العبادات الظاهرة والشعائر أوجب أنواعا من الفساد الذي يكرهه الله ورسوله وعباده المؤمنون : " أحدها " جهل كثير من الناس أو أكثرهم بالأمر المشروع المسنون الذي يحبه الله ورسوله والذي سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته والذي أمرهم باتباعه .

                " الثاني " ظلم كثير من الأمة أو أكثرهم بعضهم لبعض وبغيهم عليهم : تارة بنهيهم عما لم ينه الله عنه وبغضهم على ما لم يبغضهم الله عليه . وتارة بترك ما أوجب الله من حقوقهم وصلتهم لعدم موافقتهم له [ ص: 357 ] على الوجه الذي يؤثرونه حتى يقدمون في الموالاة والمحبة وإعطاء الأموال والولايات من يكون مؤخرا عند الله ورسوله ويتركون من يكون مقدما عند الله ورسوله لذلك .

                " الثالث " اتباع الظن وما تهوى الأنفس حتى يصير كثير منهم مدينا باتباع الأهواء في هذه الأمور المشروعة . وحتى يصير في كثير من المتفقهة والمتعبدة من الأهواء من جنس ما في أهل الأهواء الخارجين عن السنة والجماعة : كالخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم . وقد قال تعالى في كتابه : { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب } وقال في كتابه : { ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل

                } " الرابع " التفرق والاختلاف المخالف للاجتماع والائتلاف حتى يصير بعضهم يبغض بعضا ويعاديه ويحب بعضا ويواليه على غير ذات الله وحتى يفضي الأمر ببعضهم إلى الطعن واللعن والهمز واللمز . وببعضهم إلى الاقتتال بالأيدي والسلاح وببعضهم إلى المهاجرة والمقاطعة حتى لا يصلي بعضهم خلف بعض وهذا كله من أعظم الأمور التي حرمها الله ورسوله .

                [ ص: 358 ] والاجتماع والائتلاف من أعظم الأمور التي أوجبها الله ورسوله قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } - إلى قوله - ( { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم } { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } قال ابن عباس : تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة .

                وكثير من هؤلاء يصير من أهل البدعة بخروجه من السنة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته ومن أهل الفرقة بالفرقة المخالفة للجماعة التي أمر الله بها ورسوله قال تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } وقال تعالى : { وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات } وقال تعالى : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة } وقال تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم } وقال تعالى : { وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم } وقال تعالى : { فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة } وقال تعالى : { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } وقال : { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } وقال : { إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } .

                وهذا الأصل العظيم : وهو الاعتصام بحبل الله جميعا وأن لا يتفرق هو من أعظم أصول الإسلام ومما عظمت وصية الله تعالى به في كتابه .

                ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم ومما عظمت به وصية النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن عامة وخاصة مثل قوله : { عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة } وقوله : { فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد } وقوله : { من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه ; فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه } وقوله : { ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : صلاح ذات البين ; فإن فساد ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين .

                } وقوله : { من جاءكم وأمركم على رجل واحد منكم يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان } وقوله : { يصلون لكم [ ص: 360 ] فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطئوا فلكم وعليهم } وقوله : { ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة منها واحدة ناجية واثنتان وسبعون في النار - قيل : ومن الفرقة الناجية ؟ قال - هي الجماعة يد الله على الجماعة } .

                و ( باب الفساد الذي وقع في هذه الأمة . بل وفي غيرها : هو التفرق والاختلاف فإنه وقع بين أمرائها وعلمائها من ملوكها ومشايخها وغيرهم من ذلك ما الله به عليم . وإن كان بعض ذلك مغفورا لصاحبه لاجتهاده الذي يغفر فيه خطؤه أو لحسناته الماحية أو توبته أو لغير ذلك ; لكن يعلم أن رعايته من أعظم أصول الإسلام ولهذا كان امتياز أهل النجاة عن أهل العذاب من هذه الأمة بالسنة والجماعة ويذكرون في كثير من السنن والآثار في ذلك ما يطول ذكره . وكان الأصل الثالث بعد الكتاب والسنة الذي يجب تقديم العمل به هو الإجماع فإن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية